شارل كوردييه... الفن ضد العنصرية

قادته أسفاره العديدة إلى تصورات جمالية عن أعراق البشر المختلفة

شارل كوردييه... الفن ضد العنصرية
TT

شارل كوردييه... الفن ضد العنصرية

شارل كوردييه... الفن ضد العنصرية

يقول الفنان والإثنوغرافي الفرنسي شارل كوردييه، «الجمال ليس حكراً على عرق نبيل أوحد، لقد روجتُ عبر أعمالي الفنية لفكرة أن الجمال موجود بكل مكان. كل عرق أو جنس له مميزاته الجمالية التي قد تختلف مع المميزات الجمالية لبقية الأعراق. فإنسان جميل ذو بشرة سوداء هو بالضرورة ليس الأجمل بالنسبة لنا».
ولد شارل كوردييه في مقاطعة كامبريه شمال شرقي فرنسا عام 1827، ويعد أحد أفضل نحاتي القرن التاسع عشر في فرنسا، عُينَ بصفة نحاتاً مختصاً بالأعراق البشرية في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس لمدة خمسة عشر عاماً، بعد أن أنهى دراسته الفنية في أكاديمية خاصة في باريس لتعليم الفنون والرياضيات.
كان لقاؤه في بداية حياته الفنية بسعيد عبد الله وهو زعيم لأحد قبائل دارفور السودان وعبد سابق، سبباً في تغيير مسار حياته الفنية، فقد جعله موديله لتمثال نصفي، لاحقاً عرض هذا التمثال النصفي الذي يستلهم أسلوب رومانتيكية الاستشراق، الذي بلغ ذروته في القرن التاسع عشر، في صالون باريس عام 1848، ونال شهرة كبيرة، ولفت إليه الأنظار، لأن سنة عرضه تزامنت مع قانون منع العبودية في فرنسا ومستعمراتها، حدّ أن الحكومة الفرنسية طلبت من كوردييه نسخة برونزية أخرى من التمثال، واقتنتْ الملكة فكتوريا نسخة برونزية ثالثة لهذا التمثال عند عرضه في لندن عام 1851 في المعرض العالمي الأول، الذي أقيم في حديقة الهايد بارك في لندن. وفي مذكراته غير المنشورة، يقول كوردييه: «منحوتاتي تجسيد لنبذ العبودية وتؤرخ لبداية الإثنوغرافيا فنياً». وكنحات مؤسس للإثنوغرافيا، كان هدف كوردييه ترسيخ أفكاره التي بشر بها عن كونية الجمال، وكان دائماً ينحت تمثالين نصفيين لامرأة ورجل من العرق نفسه. وفي سنوات عمله في متحف التاريخ الطبيعي كنحات متخصص في الإثنوغرافيا، أبدع سلسلة من التماثيل النصفية النابضة بالحياة التي استوحاها من المشاهدة العميقة والدقيقة للسكان المحليين وأزيائهم وملامحهم خلال رحلاته التي قام بها إلى شمال أفريقيا واليونان. وكانت تماثيله النصفية تظهر الذوق السائد لمنحوتات القرن التاسع عشر من تداخل البرونز والمرمر وغيرها من المواد، وكذلك استعمال أكثر من لون في التمثال الواحد، وهي ظاهرة انتشرت عقب نقاشات الفنانين في تلوين أو استخدام المرمر الملون استلهاماً للمنحوتات الرومانية وتماثيل عصر النهضة. حيث طعّمَ كوردييه أغلب منحوتاته ببراعم برونزية مطعمة بالمينا، ما أضاف إثارة واقعية وجعلها أكثر رواجاً.

الترحال إلى الشرق

عام 1856 قاده ولعه بعلم الأثنوغرافيا وموجة الاستشراق التي راجت في القرن التاسع عشر، إلى رحلته الأولى للجزائر لمدة ستة أشهر، وبتمويل من متحف التاريخ الطبيعي، واختار الإقامة وسط حي القصبة الشعبي بدلاً من السكن مع غيره من الفرنسيين المغتربين، ويبدو أنه اندمج سريعاً مع السكان المحليين، يقول في مذكراته: «أقمتُ في حي شعبي، ويبدو أن السكان هنا اعتادوا عليّ سريعاً، فبابي مفتوح للجميع، وقمت باستضافة عدد لا بأس به من الزوار».
وفي الجزائر، اكتشف كوردييه حجر الجزع، وهو حجر مرمري يشابه حجر العقيق، في محجر أثري أعادت السلطات الفرنسية فتحه واستعمله لاحقاً كمادة أولية في منحوتاته. من أبرز تماثيله النصفية الثلاثة عشر التي أنجزها في الجزائر، تمثال لسيدة يهودية من سكان الجزائر المحليين. ومثل مواطنه ديلاكروا، الذي صوّر نساء يهوديات في لوحته الشهيرة «نساء من الجزائر»، وذلك بسبب صعوبة مشاهدة النساء المسلمات. وهذا التمثال هو تجسيد مذهل خاص وغاية في البراعة لجمال ملامح وأزياء سيدة محددة أكثر منه تجسيد عرق أو جنس بأكمله. التمثال الذي بيع عام 2017 في مزاد سوثبي بمبلغ يقارب النصف مليون جنيه إسترليني، مشغول بمهارة وبعدة مواد من المرمر الجزائري الأصفر للجذع إلى البرونز للوجه والرقبة والجزء المزخرف الأعلى من رداء السيدة، التمثال الذي يظهر براعة كوردييه في تخريم البرونز وتطعيمه بحجر المينا وبقية الأحجار الكريمة، كما فعل مع غطاء رأس السيدة. بينما زُججتْ العينان للمزيد من الواقعية.
قادته رحلة أخرى إلى مصر عام 1865، وكان من أبرز التماثيل المستلهمة من رحلته تلك تمثال برونزي نصفي لشيخ مجهول من القاهرة، عرض نهاية العام الماضي ضمن أعمال فنية أخرى في المتحف البريطاني ضمن معرض «استلهام الشرق واستعادة الاستشراق فنياً»، هذا التمثال يظهر براعة كوردييه، ليس في التجسيد الحاذق لموضوعه فقط، بل بفهمه واحترامه لعادات الناس وتقاليدهم، فالشيخ المصري مزيج من الرفعة والبساطة ونظرة البدوي الثاقبة. وهناك تفاصيل جميلة في هذا التمثال مثل طيات العباءة على الكتفين وزخارف غطاء الرأس واللحية غير المشذبة.
قادته أسفاره العديدة أيضاً إلى استبطان مجموعة تصورات جمالية عن أعراق البشر المختلفة، وكان هدفه أيضاً هو الكشف عن أصول هذه الأعراق. وقد مزج في دراسته لهذه الأعراق مجموعة معارفه الأكاديمية، مع شغفه بالبيئة الشرقية ذات الألوان القوية الساطعة. وكانت أعماله النحتية إضافة مهمة لإحياء أسلوب النحت الملّون في القرن التاسع عشر.
لم تقتصر منحوتاته على أناس الشرق الأوسط وأفريقيا، بل نحت تماثيل نصفية لأناس من مختلف أنحاء فرنسا وأوروبا، لكن عقيدته الفنية كانت تعارض النظرة الاستعلائية للعرق الأوروبي. وأغلب منحوتاته ما زالت موجودة في متحف الإنسان في باريس. كان لكوردييه مساهمة فعالة في بناء عدة مبان في باريس خلال حكم نابليون الثالث (1848 - 1870) مثل دار الأوبرا ومتحف اللوفر ومبنى بلدية باريس.
توفي شارل كوردييه في الجزائر عام 1905.



شبل الأسد «سارة» أُجليت من لبنان إلى جنوب أفريقيا لحياة أفضل

بإمكان الجميع بدء حياة أخرى (أ.ب)
بإمكان الجميع بدء حياة أخرى (أ.ب)
TT

شبل الأسد «سارة» أُجليت من لبنان إلى جنوب أفريقيا لحياة أفضل

بإمكان الجميع بدء حياة أخرى (أ.ب)
بإمكان الجميع بدء حياة أخرى (أ.ب)

عندما وصلت «سارة» إلى منزل مُنقذيها للمرة الأولى، كانت متعبة ومريضة، وعلامات الاعتداء تظهر في جميع أنحاء جسدها الصغير المكسوّ بالفرو. وبعد قضاء شهرين في شقّة صغيرة ببيروت مع جمعية للدفاع عن حقوق الحيوان، وصلت أنثى شبل الأسد، البالغة 4 أشهر ونصف الشهر، الجمعة، إلى محمية للحيوانات البرّية بجنوب أفريقيا، بعد رحلة طويلة على يخت وطائرات، فراراً من الغارات الجوّية الإسرائيلية ومالكي الحيوانات المُسيئين. تروي «أسوشييتد برس» حكايتها. فـ«سارة» هي خامس شبل أسد تُجليها مجموعة إنقاذ محلّية تُدعى «حيوانات لبنان»، خارج البلاد، منذ اندلاع الحرب.

ثمة دائماً يدٌ تمتد لتُنقذ (أ.ب)

اكتشفت «حيوانات لبنان»، «سارة»، للمرة الأولى من خلال مواقع التواصل الاجتماعي في يوليو (تموز)؛ إذ نشر صاحبها اللبناني من مدينة بعلبك، فيديوهات وهو يتجوّل معها عبر «تيك توك» و«إنستغرام». وإذ يحظر القانون في لبنان امتلاك الحيوانات البرّية والغريبة، قال المدير التنفيذي لجمعية «حيوانات لبنان»، جيسون ماير، إنّ شبل الأسد هذه كانت «تُستخدم للتباهي فقط». وفي منتصف سبتمبر (أيلول)، انتشلتها المجموعة أخيراً بعد رفع دعوى أمام القضاء الذي استجوب صاحبها وأجبره على التخلّي عنها. بعد ذلك، اندلعت الحرب وتعرَّضت بعلبك لقصف عنيف.

شبل الأسد «سارة» تغادر لبنان وعذاباته (أ.ب)

أخرج ماير وفريقه «سارة» من المدينة ونقلوها إلى شقة في منطقة الحمراء التجارية المزدحمة في بيروت. كان من المفترض أن تسافر إلى جنوب أفريقيا في أكتوبر (تشرين الأول)، ولكن شركات الطيران الدولية أوقفت رحلاتها إلى لبنان. وقبل الحرب، نشطت «حيوانات لبنان» في وقف الاتجار بالحيوانات، خصوصاً الغريبة منها، فأنقذت أكثر من 20 قطة كبيرة من السجن في منازل فخمة، وأرسلتها إلى محميات الحياة البرّية. ومنذ اندلاعها، تُنقذ الجمعية الحيوانات الأليفة المُحاصَرة في الشقق المُدمَّرة. قال ماير: «كثير منها في رعايتنا؛ لأنّ أصحابها لا يزالون نازحين. لا نتوقَّع من الشخص استعادة هذا الحيوان عندما يكون مقيماً في شارع أو مدرسة».

مرَّت عليها أيام قاسية (أ.ب)

لم تُدرك «سارة» الحرب من حولها. تغذَّت بأطباق اللحوم النيئة ونما وزنها إلى 40 كيلوغراماً. احتضنتها ماغي زوجة ماير؛ الناشطة في مجال حقوق الحيوان. ثم طرأت عقبة كبيرة: كيف ستخرج من لبنان؟ جمعت «حيوانات لبنان» تبرّعات من مناصرين وجماعات حقوقية حول العالم لوضع «سارة» على يخت صغير لنقلها إلى قبرص. من هناك، سافرت إلى الإمارات، قبل أن تنتهي رحلتها الطويلة في كيب تاون. قبل أيام من إجلائها، كانت «سارة» تلعب في إحدى غرف النوم بشقة ماير، وتُبعثر الوسائد والألعاب. وصلت صباح الخميس إلى مرفأ الضبية في شمال بيروت، فشعر ماير وفريقه بالارتياح، لكنهم أيضاً حبسوا دموعهم لدى مغادرتها. يتوقَّع ماير احتجاز «سارة» للمراقبة ومكافحة الأمراض، لكنها ستكون قريباً جزءاً من مجتمع أُسود أخرى. ختم: «ستُدمَج مع اثنين من الأُسود التي أُجليت مؤخراً من لبنان، فتتكوَّن مجموعة لطيفة من 3 أُسود. هناك ستعيش طوال حياتها. هذا الخيار الأفضل بالنسبة إليها».