العنصرية وباء يتجدد، لا ينتهي ولا ينقرض، لا يتلاشى ولا تخف ضراوته، فيروس ماكر، يتشكل ويتلوّن، يتخفى ويجدد نفسه باستمرار. هو صوت التمرد على نظام العدالة والمساواة منذ خُلق أولُ إنسان وكلمات إبليس تطارده: «أنا خيرٌ منه، خلقتني من نارٍ وخلقته من طين».
«تعب الطين...»، (كما يقول مظفر النواب)، فقد «نَسِي الطينُ ساعَة أَنَّهُ طينٌ/ حَقيرٌ فَصالَ تيها وَعَربَد/ وَكَسى الخَزُّ جِسمَهُ فَتَباهى/ وَحَوى المالَ كيسُهُ فَتَمَرَّد/ يا أَخي لا تَمِل بِوَجهِكَ عَنّي/ ما أَنا فَحمَة وَلا أَنتَ فَرقَد» (إيليا أبو ماضي).
أصبحت العنصرية، وكل أشكال التمييز، عقيدة متجذرة في الحضارة الحديثة. في كتابه «العنصرية البيضاء: تحليل نفسي تاريخي» (عرض زميلنا من واشنطن محمد علي صالح) يقول المؤلف جول كوفيل «في نهاية المطاف، ليست العنصرية البيضاء غير عقيدة مغروسة في أعماق الحضارة الغربية، وليس سهلاً التخلص منها. إنها ليست مجرد وهم بسيط لأقلية متعصبة وجاهلة. العنصرية هي مجموعة من المعتقدات التي ينشأ هيكلها من أعمق مستويات حياتنا، من نسيج الافتراضات التي نراها عن العالم، وعن أنفسنا، وعن غيرنا».
نظرياً، تخلّصت الولايات المتحدة من نظام العبودية والرق البغيضين (عام 1863)، وما نجم عنهما من نظام التمييز العنصري، الذي أصبح أيضاً من الماضي، يوم صدر قانون الحريات المدنية عام 1964 الذي يحرم التمييز على أساس العرق في أميركا، وأصبح باراك أوباما أول رئيس أسود للولايات المتحدة، ومع ذلك، فما زال السود يعانون، وما زال عنف الشرطة موجهاً تجاههم بنسب أعلى، ما زالت أحياؤهم تفيض بالعاطلين عن العمل، وما زالوا يعانون من تردي الأحوال المعيشية، وما زال نصيب الفرد الأسود من الدخل أقل من نظيره الأبيض، وهم يشكلون المجتمعات المهمشة، ويحتلون النسب الأعلى في البطالة، وانعدام التأمين الصحي، والأعلى في معدلات الجريمة ونسب السجون.
الرأسمالية والعولمة والنموذج الليبرالي الحديث فاقم المشكلة، أسس نظاماً طبقياً يعيد تكريس الفصل العنصري من جديد. فئات تملك القوة والثروة والسلطة، وأخرى مهمشة تعيش في العزلة. هنا نفهم لماذا أصبحت قضية جورج فلويد الصاعق الذي فجر كل مشاعر الإحباط في المجتمع.
من الانصاف القول إن المجتمع المدني في الولايات المتحدة، خصوصاً المثقفين (السود خصوصاً)، قد ناضلوا على الصعيد الثقافي عبر مئات الأعمال الأدبية والفكرية والفنية التي ساهمت في كشف «العنصرية»، لتبدو على حقيقتها عارية ذميمة وكريهة، كما هي دون تلبيس بلباس ديني أو آيديولوجي أو فلسفي.
بعض الأعمال مثل رواية «كوخ العم توم» التي كتبتها الروائية الأميركية والناشطة ضد العبودية هاربيت بيتشر ستو، سنة 1852، أصبحت علامة مميزة في الأدب العالمي، ومثلها رواية «الجذور» لأليكس هيلي، ونشرها عام 1976. وهي رواية تحفر في نفس قارئها أخدوداً من الألم والمعاناة بقدر ما حفرته في الأفارقة العبيد الذين جرى شحنهم في السفن من القارة السمراء إلى العالم الجديد، في رحلة العذاب المرير، حيث بيعوا في أميركا كعبيد. وأظهرت كيف توارث الأجيال عبر السنين الألم والقهر، واحتشدت ذاكرتهم الجماعية بصنوف المعاناة وقسوة الظلم.
كل هذا الجهد الفكري لم ينجح في القضاء على العنصرية، لأنها فيروس سياسي، يحتاج إلى علاج سياسي... فقد سقط نظام العبودية بقرار شجاع من إبراهام لنكولن: «إذا لم تكن العبودية خطأ، فإنه ليس هناك شيء خطأ»، وسقط التمييز بقانون الحريات المدنية، ولن يتم القضاء على التمييز وتحقيق المساواة، ومنع انفجار المجتمعات من داخلها إلا بسلطة القانون... فـ«إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».
وباء العنصرية!
وباء العنصرية!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة