أدب ما بعد «كورونا»

الصدق يحرر من الخوف وأفكار تغيّر شكل الكتابة

منى ماهر - رأفت السويركي
منى ماهر - رأفت السويركي
TT

أدب ما بعد «كورونا»

منى ماهر - رأفت السويركي
منى ماهر - رأفت السويركي

ما هو شكل الإبداع ما بعد «كورونا»، سؤال لا يفرض نفسه على الأدب فقط، بل على كل مقومات الحياة في العالم: هل ستدخل الكتابة أفقا جديدا تتخطى من خلاله ما خلفته هذه الكارثة من عطب في العقل والوجدان الإنساني، وما هو شكلها وملامحها؟ في هذا التحقيق آراء مجموعة من الكتاب الروائيين، وتصوراتهم لشكل الإبداع ما بعد كورونا:

- أحمد الخميسي: مصير إنساني موحد
ارتبطت التغيرات الكبرى في المذاهب الأدبية والفنية بتحولات اجتماعية عميقة، مثل ظهور الرومانسية مع التحول المزلزل من النظام الإقطاعي إلى مجتمع صناعي وصعود الطبقة الوسطى، ومثل الإعلان عن المدرسة الدادية كاحتجاج يائس وعدمي على الحرب العالمية الأولى، أما عن الأشكال الأدبية المستقرة مثل القصة والرواية فإنها عادة تتغير ببطء شديد للغاية، لهذا لا أتوقع أن يؤدي وباء كورونا إلى ظهور مذاهب أدبية أو تحولات خاصة في أشكال الإبداع الأدبي والفني، لكن الوباء، وتفشيه بهذه القسوة وضرباته العمياء في كل اتجاه، قد تستدعي أفكارا جديدة إلى مضمون العمل الإبداعي، وأظن أن فكرة المصير الإنساني الموحد ستكون على رأس القائمة، ذلك أننا للمرة الأولى نرى بسطوع سقوط قوة المال أمام الوباء، وسقوط قوة المناصب، ونرى أيضا للأسف عجز العلم وحيرته، وفي المقابل نشهد الحاصدة التي تقطف الرؤوس من دون تمييز بين أبيض وأسود، غني أو فقير. وأظن أن كل ذلك سيطرح بشدة على الإبداع قضية «وحدة المصير الإنساني»، وهي جملة قد لا تكون جديدة، لكن صوتها كان خافتا ووجهها شاحبا، الآن يضع الوباء أمام أعيننا قضايا ملحة، أظنها ستحظى باهتمام المبدعين، مثل قضية أنه لا نجاة لا أحد بدون الآخرين، ولا نجاة للآخرين من دون كل فرد. ربما تكون تلك النغمة هي المعزوفة الأولى التي سنسمعها بتوزيع مختلف في كل مرة من عالم الإبداع، مع أمل ألا تصبح الهموم الإنسانية الجديدة مادة لأعمال تجارية شبه أدبية سريعة الإعداد. في كل الأحوال يبدو في أيامنا هذه كأن الأرض كلها تطلق تنهيدة واحدة، ولا بد أننا سننصت في الإبداع الحقيقي إلى هذه التنهيدة ونحس حرارتها بطرق مختلفة.

- رأفت السويركي: إعادة تشكيل المشهد
إذا كان السؤال حول شكل إبداع «ما بعد كورونا» يكتسب مشروعيته من تلك الهواجس المصطنعة التي تشكلها حالة «الإرعاب» المهيمنة إعلاميا من الجائحة؛ فإن العقل التفكيكي القارئ للصورة الراهنة يتوقف كثيراً عند مقصود هذه الحالة وقد تلبست الرداء العولمة.
تلك الحالة المهيمنة من الاهتمام بالجائحة تمثل انتقالة في الخطاب لا يعادلها في المماثلة سوى خطاب «الإرعاب» من «الإرهاب» الذي تشكل عقب تدمير بُرجي التجارة بنيويورك. والقاسم المشترك بين حالتي «الإرهاب والإرعاب» هو أرقام ضحايا الجائحتين من القتلى والناجين.
إن تأمل الصورة الجديدة الخاصة بفيروس «كورونا»، والصورة القديمة بفيروس «الإرهاب» تضع في «المسكوت عنه» وجود فاعل غير بريء؛ لأنه الصانع بشراسة للفعلين؛ وهو بالتحديد النظام الرأسمالي الأميركي المهيمن.
ولا يمكن هنا أن نتغافل عن تقرير «نيويورك تايمز» حول إغلاق مختبر «فورت ويتريك» لأبحاث الجراثيم والفيروسات بولاية «ميريلاند» التابع للقيادة الطبية للجيش الأميركي بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة؛ وهذا المختبر وسواه كان يتولى التجارب حول الفيروسات المصطنعة؛ ومنها الفيروس الأم لكل سلالة «فيروس كورونا».
ولأن الرأسمال المركز الباحث عن الربحية الفاحشة أصبح يتمدد تحت جناح العولمة منذ انقضاء نمط الحرب الباردة بين الكتلتين؛ يحاول تضخيم الصورة الربحية لأمواله. فمع تقلص ساحة المعارك التدميرية بالأسلحة لا بد من التنشيط لأنماط الحروب الناعمة ذات الاقتصاديات الثقيلة ومنها اقتصاديات الدواء؛ وهنا تبدأ وستتواصل دورات جديدة من الحروب البيولوجية بالأوبئة؛ لإعادة تشكيل الأسواق؛ والبحث عن مسارب جديدة للربحية الرأسمالية؛ فهل غير «الإرعاب» بالفيروسات من بديل؟ لربما سيشهد العالم لاحقا صورا من إبداعات اصطناع «حروب الأوبئة» لتحل محل أدبيات الحروب العسكرية؟
إن تعبير الإبداع هو اصطلاح نخبوي في الأساس ويدل على طبيعة الخطاب المحيط بالظواهر والذي تنتجه النخبة المثقفة. لذلك فهو فعل لاحق وتابع؛ ومن هنا يكتسب المشروعية؛ بشغف النخبة للتعبير عن «دراميات الواقع ومتخيلاته»، وهنا يكون السؤال حول شكل إبداع «ما بعد كورونا».
وهنا تكون التوقعات اللاحقة بتوظيف جائحة كوفيد – 19 «كورونا» لتكون موضوعا لبعض الأعمال الروائية أو المسرحية المحدودة؛ غير أنها لن تصل لقيمة الإبداعات السالفة لكامو، وماركيز وسواهما. فالتصور الذي تفرضه تطورات الواقع هو تقليص مدى مساحة الدرامية المأساوية للموت بـ«كورونا» عقب التوصل السريع لعلاجاته؛ خاصة أنه يتخير كضحايا شرائح عمرية في الأساس هي في طريقها للموت الطبيعي بالشيخوخة؛ لكن يجري توظيفه اقتصاديا؛ وهنا هو مربط الفرس.

- جان دوست: الجوع أولا
في اعتقادي سيكون هناك تغيير بلا شك. فالجائحة لم تكن حدثاً عاديا، ولا وباء محصوراً في بقعة محددة ولزمن قصير. كل إنسان على وجه الأرض تأثر بشكل أو بآخر. وبما أن الأوبئة منابع هامة للإبداع فإن الأدب بشكل عام سيتأثر بالجائحة. ولا أبالغ إذا قلت إن المرحلة التالية من الأدب، ولمدة عقود قادمة ستكون مرحلة الخوض في أسباب الجائحة، تأثيراتها، خفاياها،. كثيرون من الروائيين والشعراء وكتاب القصة والمبدعين بشكل عام سيتناولون الموضوع لكن كلٌّ من زاويته الخاصة. في الغرب، وفي مجال السينما خاصة، أنا على يقين أن السمة التجارية ستكون طاغية في المشهد السينمائي الغربي كالعادة.
من وجهة نظري فإن الموضوع لا يخلو من المبالغة. صحيح أن هناك ضحايا يسقطون، وإصابات كثيرة، لكنها لا تشكل شيئا أمام جائحة الجوع التي تحصد أعداداً هائلة، لا يهتم بها عداد الموت الذي تضبطه المركزية الغربية على إيقاعها الخاص.
لا يسلط الإعلام الدولي، الذي تديره إمبراطوريات إعلامية توجه الرأي العام العالمي على مزاجها، أي ضوء على ضحايا هذه الجائحة، اليوم مثلاً وحتى هذه الساعة، التي أجيب فيها على أسئلتكم، مات أكثر من خمسة عشر ألف إنسان بسبب الجوع. هل يهتم الإعلام الرأسمالي بهؤلاء؟ لماذا يوجهون الكاميرا إلى مصاب الكورونا ولا يوجهونها إلى ضحايا الجوع وهم أضعاف ضحايا بقية الجوائح؟ لماذا تكثر القصص الإعلامية عن الكورونا ولا نسمع قصص الموت جوعا؟ الجواب هو أن الضحايا في حالة الجوع فقراء معدمون، فقراء لدرجة أنهم يموتون لأنهم لا يجدون شيئا يأكلونه. أيضاً حسب الموقع العالمي «وورلدومتر» ضحايا الملاريا حول العالم منذ بداية العام أكثر من أربعمائة ألف إنسان! كيف لا يهب العالم لمحاصرة هذا المرض الوبيل الذي يفتك بالناس بصمت مطبق مريب من الإعلام؟
طبعاً لا أميل إلى نظريات المؤامرة لكنني أحاول إثارة أسئلة من جهة وإدانة الاهتمام الزائد عن الحد واللامبرر بالجائحة كنوع من تقليد الإعلام الغربي المركزي. ومن ثم أرى أن المرحلة التالية ستكون تحت تأثير جائحة الكورونا وكما قلت لمدة عقود، ليس بسبب ضحايا هذه الجائحة، ولا بسبب خطورة المرض بل بسبب هذه الضجة الإعلامية الهائلة وغير المسبوقة. ليس المرض ولا طبيعة الفيروس الرهيب هو الذي سيحرك الأقلام بل الإعلام وسطوته. وبطبيعة الحال فكلنا شركاء في «الدعاية المجانية» لكورونا بما ننشره في وسائل التواصل الاجتماعي، وما نكتبه من مقالات وما نذيعه من تقارير هنا وهناك، سيقع الأدب والفن في المرحلة اللاحقة تحت تأثير هذا الضخ الإعلامي الكبير وستشهد السينما بشكل خاص قفزة في مجال أفلام الجوائح، وسيهتم الإعلام بالروايات التي ترصد المرض وتأثيراته على المجتمعات وربما تفوز تلك الروايات والأفلام بأرفع الجوائز بينما سيستمر الفقراء في الموت جوعاً وبصمت.

- منى ماهر: قناعات جديدة
الكورونا ضيف ثقيل حقا، لكنه أعاد تشكيل حياتنا رغم رفضنا استقباله، هذا الفيروس الضعيف نجح في اختراق أعتى الحصون، نجح في اختراق الدوائر المحيطة بنا والتي كنا نعتقد أنها توفر لنا الحماية، كما منحنا وقتا للعزلة مع أنفسنا، وقتا لإعادة حساباتنا، تغير الكثير من معتقداتنا وعاداتنا، فلقد اكتشفنا أننا أضعف بكثير مما نظن، وأننا لسنا بالقوة التي خدعنا بها أنفسنا، عندما تتغير الأفكار، تبدأ رحلة البحث عن قناعات جديدة، قناعات تناسب الأفكار وتتغير نظرتنا للأمور من خلالها، فنرى للإبداع زوايا جديدة، زوايا مهجورة لم نكن نرتادها، فمن كان لا يؤمن بالحب، قد يرى في الحب الخلاص، ومن كان لا يؤمن بسحر الوطن سيجد في الوطن الملاذ والسكن سيتغير الكثير، وستلوح في الأفق بدايات جديدة، ونهايات غير متوقعة، الجمال في حياتنا سيغير محل إقامته، الزحام الذي كان يؤنسنا قد يصبح مصدر إزعاج وخوف، والوحدة قد تصبح هي الأمان، سنعيد قراءة البشر، ونعيد ترتيب الأصدقاء على أرفف حياتنا، من كان يحتل الرفوف الأولى، قد يصبح في الرفوف الأخيرة، وقد يغادر نهائيا... إبداع ما بعد الكورونا يستحق الاهتمام، فأنا أعتقد أن القراءة ستحصد المزيد من الاهتمام، وأعتقد أن ذلك سيعيد تقييم العديد من الأعمال والعديد من الكتاب، ستظهر نجوم وستختفي نجوم. الأدب الصادق والحقيقي هو ما سيبقى، ستبقى الكتابات التي تلمس القلوب، الكتابات التي تقترب من روحك دون أن تجرحها أو تخدعها، الصدق الفني سيصبح معيار النجاح. الكورونا أصابنا بالخوف، ثم بدأ يحررنا منه تدريجيا، هذا الفيروس الصغير اقتحم أرواحنا ليخبرنا أن هناك الكثير من الأشياء التي كنا لا نراها رغم أنها كانت تستحق الاهتمام، سنبحث عن هذه الأشياء وسنعيد ترتيب حياتنا.


مقالات ذات صلة

الصحة العالمية تعلن عن حدوث تراجع مطرد في وفيات كورونا

العالم تراجعت أعداد الوفيات من جراء الإصابة بفيروس كورونا على نحو مطرد (أ.ف.ب)

الصحة العالمية تعلن عن حدوث تراجع مطرد في وفيات كورونا

بعد مرور نحو خمس سنوات على ظهور فيروس كورونا، تراجعت أعداد الوفيات من جراء الإصابة بهذا الفيروس على نحو مطرد، وذلك حسبما أعلنته منظمة الصحة العالمية في جنيف.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب ومرشحه لمنصب وزير الصحة روبرت كيندي يوم 23 أكتوبر الماضي (أ.ب)

ترمب يخطط للانسحاب مجدداً من «منظمة الصحة العالمية»

أفاد أعضاء في الفريق الانتقالي للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، بأنه يدرس الانسحاب من «منظمة الصحة العالمية» في اليوم الأول لتوليه السلطة في 20 يناير.

هبة القدسي (واشنطن)
صحتك صورة توضيحية لفيروس «كوفيد-19» (أرشيفية - رويترز)

«كوفيد» الطويل الأمد لا يزال يفتك بكثيرين ويعطّل حياتهم

منذ ظهور العوارض عليها في عام 2021، تمضي أندريا فانيك معظم أيامها أمام نافذة شقتها في فيينا وهي تراقب العالم الخارجي.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

«إلى حيث ننتمي» جردة أعوام مضت في لوحات ومنحوتات

منحوتات ورسومات تعود بنا إلى سنوات ماضية (الشرق الأوسط)
منحوتات ورسومات تعود بنا إلى سنوات ماضية (الشرق الأوسط)
TT

«إلى حيث ننتمي» جردة أعوام مضت في لوحات ومنحوتات

منحوتات ورسومات تعود بنا إلى سنوات ماضية (الشرق الأوسط)
منحوتات ورسومات تعود بنا إلى سنوات ماضية (الشرق الأوسط)

اختار غاليري «آرت أون 56» معرضاً جماعياً يتألف من نحو 20 لوحة تشكيلية ليطلق موسمه الفني لفصل الشتاء، يودّع معه عاماً ويستقبل آخر في جردة حساب تعود بنا إلى سنة 2012 حتى اليوم. وتشير صاحبة الغاليري، منى وادي محرّم، إلى أن المعرض بمثابة احتفالية بلبنان الثقافة. وتتابع: «بعد كل المصاعب التي مررنا بها كان لا بد من وقفة فنية نتواصل عبرها مع الجمال والقوة».

وتشارك في هذا المعرض مجموعة من الرسامين والنحاتين اللبنانيين والسوريين، من بينهم جورج باسيل ووسام بيضون وليلى داغر وعماد فخري وديالا خضري وغادة جمال ويامن يوسف، وغيرهم.

وتتوزّع اللوحات على صالات «آرت أون 56»، فتطلّ على قطع فنية زيتية وأكليريك و«ميكسد ميديا». وتحت عناوين مختلفة كـ«نعم للحرية ولا لـ...». و«الشقراء» و«الزهرة الزرقاء» و«بيروت» و«رحلة الأمل» و«قطع من السماء». تستوقفك مجموعة زهير دبّاغ المنفذة في عام 2016، فهي مصنوعة من الطين الأحمر (تيراكوتا) مع خلفية سوداء. وتقرأ فيها صفحات تاريخ أشخاص من دون ملامح هائمة في مهب الحياة.

وأمام لوحة «قبل الحفلة» لديالا خضري تحلّق في عالم ثلاثي الأبعاد؛ فتقدّم مشهداً من بيوت بيروت وتقاليد أهلها، وتجمع فيها ما بين سماء العاصمة وسجادة تستلقي على حديد الشرفة قيد التنظيف. فيما تتسمر أمام لوحة لجورج باسيل تذكّرك بأشهر لوحات القرن السادس عشر: «موناليزا» لليوناردو دافنتشي، وتكتشف بأنها تتألف من طبقات «ميكسد ميديا» عمّرها باسيل بدقة في عام 2023.

وفي لوحة «إرادة جيل» لهيبة بلعة بواب نفّذتها في عام 2020، ترى الحياة من منظار ملوّن بالشباب، تُصورّه منشغلاً بالتخطيط لغدٍ أفضل بواسطة تقنية اللصق (كولاج).

وغالبية لوحات «إلى حيث ننتمي» تلفتك بأحجامها الضخمة. تطبعك بالخيال وتزوّدك بذبذبات إيجابية تحتاج إليها بعد فترة حرب دامية. ولعلّ تنوّع تقنياتها وأطياف ريشتها يكمن فيها سرّ جماليتها، وأحياناً تأخذك إلى عالم الحسابات الهندسية كما مع الفنان السوري منير الشعران، فتحل معه ألغاز رسمة بسيطة وغامضة في آن بعنوان «نعم للحرية ولا لـ...»، وبالخط العربي الذي يتقن تطريزه بلوحاته يترك لك حرية إكمال العبارة كما تشاء.

وبألوان زاهية من الأزرق والأصفر والأخضر، وعلى مساحة قماش (كأنفاس) واسعة تتعرّف إلى طبيعة «المتحكمون باللعبة»، بتوقيع إدغار مازجي، الذي يصورّهم على هيئة رجلين مقنّعين، يبدّلان خيوط الحقبات كما يرغبان، تصغر الكرة الأرضية بين أياديهما ككرة الـ«بولينغ»، يقذفانها لتضرب ما يطالعها من أجسام خشبية متسببة بفوضى.

التنوع بالتقنيات وأساليب الرسم يطبع معرض «إلى حيث ننتمي»، وتحتل الذكريات قسماً منه تحت عنوان «غرفة رقم 11» لرفيق مجذوب، فينقل مشاهداته من غرفة سجن دخلها لفترة قصيرة تحمل هذا الرقم. يربطها مجذوب بالإنسانية مصوراً حالة شخص يفتقد الحرية، ويترجمها في كلمات مكتوبة بالإنجليزية على خلفية بيضاء وإطار خشبي أحمر. وقد نفّذ مجموعته هذه في عام 2016.

لوحة ليلى داغر «قطع من السماء» نفّذتها بالزيت والباستيل في عام 2022. وتنقل من خلالها انعكاسات حياة على امرأة تعيش الوحدة. فيما يأخذنا عماد فخري بلوحته «مشهد ثلاثي» إلى علاقة الإنسان الباحث عن الوفاء، فيجدها مع كلبيه اللذين يشعرانه بالسعادة.

الرسام السوري أنس حمصي ينثر رشّة من الأمل والخيال على أجواء المعرض. ومع لوحتيه «رحلة الأمل» و«الحالمون»، يضع شخصياته الملونة والمغمورة بخربشات سوداء في حالة ضبابية. فيما تعبّر صفاء الست عن معاناة إنسان مغدور بمنحوتة من النحاس والحديد، فيخترقها سهم يجمّد الحياة في شرايينها.

وتقابلها منحوتة من الـ«ريزين» للفنان السوري يامن يوسف «آخر الرجال الواقفين»، فنراه ينتصب بقامته الزرقاء خائفاً من لحظة السقوط.

قصص من الحياة يستعيد معها «إلى حيث ننتمي» شريطاً من الذكريات، فيزوّد زائره بحفنة من الفن التشكيلي المعاصر، ويؤلّف بذلك واحة ثقافية وفنية يحتاج إليها اللبناني كي يتنفس الصعداء بعد حالة حرب خانقة عاشها.