قد تكون الزيارة التي قام بها إلى دمشق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية ميخائيل فرادكوف في فبراير (شباط) 2012 قد وضعت نقطة التحول الأساسية في الموقف الروسي حيال الأزمة المتصاعدة في البلاد في ذلك الوقت.
كانت روسيا تنهي في ذلك الوقت مرحلة انتقال سياسية داخلية، عاد بعدها الرئيس فلاديمير بوتين إلى الكرملين رئيساً، ليطلق سياسة خارجية تميّزت عن حكم سلفه ديمتري مدفيديف الذي «أظهر تردداً في اتخاذ موقف حازم تجاه التحرّكات الغربية في ليبيا»؛ ما أدى إلى استغلال الغرب ذلك لإطاحة النظام. وشكّل هذا المدخل الحجة الأساسية لروسيا في تصعيد سياستها على الصعيد السوري.
لم يكن بإمكان بوتين التساهل مع «ضياع سوريا» كما حدث في ليبيا، وبدا أن تلك الزيارة أسست لـ«الفهم الروسي» لأليات إدارة الأزمة السورية... ثم استخدام المدخل السوري بوابة للصعود الروسي الكبير إقليمياً ودولياً.
جرى الإعلان في حينه عن أن روسيا تلعب جهوداً للوساطة لمحاصرة الأزمة، لكن بدا لاحقاً، أن روسيا منحت بشار الأسد خلال الزيارة الغطاء والوقت اللازم لـ«إحراز انتصار ينهي الأزمة»، وهو أمر لم ينجح فيه النظام. وبعد مرور ثلاث سنوات فقد فيها الأسد السيطرة على أكثر من ثمانين في المائة من أراضي البلاد، بدا أن موسكو باتت أمام استحقاق التدخل العسكري المباشر.
ما عادت معارك استخدام «الفيتو» في مجلس الأمن، وشحنات الأسلحة الكثيرة التي أرسلت «تنفيذاً لعقود سابقة» تكفي لإنقاذ النظام؛ لذلك أطلقت «موسكو بوتين» في نهاية سبتمبر (أيلول) 2015 المرحلة الثانية عبر توقيع اتفاقية تنظم الوجود العسكري الروسي في سوريا. وحملت الوثيقة شروطاً لافتة لجهة حصول الجيش الروسي على القواعد العسكرية مجاناً، وتمتع العسكريين الروس بصلاحيات وواسعة وحصانة من أي ملاحقات. لكن الأهم من ذلك، أن اللقاءات التي جرى تنظيمها لاحقاً للأسد مع الرئيس الروسي لم تول اهتماماً كبيراً بالبروتوكولات أو الأعراف الدبلوماسية، ومرة تم نقل الأسد إلى موسكو على متن طائرة شحن عسكرية وحيداً من دون مرافقة. ومرة أخرى جرى منعه بحركة لافتة من أحد الضباط من الاقتراب من بوتين أثناء تفقده قواته في قاعدة حميميم. ثم، مرة ثالثة استقبله بوتين في زيارته الوحيدة إلى دمشق في مركز عمليات روسي بدلاً من زيارته في القصر الرئاسي.
بدا أن هذه المظاهر حددت حجم وشكل العلاقة مع الرئيس السوري، رغم تمسك موسكو بمبادئ السيادة السورية. وهذا الأمر ليس غريباً على متابعي تطور الموقف الروسي؛ إذ كان بوتين أعلن حتى قبل التدخل العسكري في سوريا عن «تفهم» مطالب ومظالم السوريين بسبب وجود «عائلة تحكم البلاد لمدة أربعة عقود»، كذلك أشار الكرملين أكثر من مرة إلى «أخطاء النظام».
شكل هذا مؤشراً إلى تمسك موسكو بموقف يقوم على أساس أن روسيا «لا تدافع عن أشخاص» بل تتشبّث في مواقفها في سوريا بـ«اليات تستند إلى القانون الدولي».
وبالفعل، خلال سنوات التدخل المباشر قلبت روسيا موازين القوى بشكل جذري، وقدّمت «الانتصار» للرئيس السوري جاهزاً، على أمل أن تبدأ المرحلة التالية في عملية سياسية جادة تنهي الأزمة، مع الإبقاء على وجود النظام. إنه «سيناريو» يشبه إلى حد كبير «سيناريو» التسوية في الشيشان، التي دانت فيها القيادة المحلية بالولاء للكرملين، في مرحلة مهمة من الصراع، وأطلقت معركة واسعة للإعمار واستعادة الحياة الطبيعية.
في هذا الإطار، كانت «المرحلة الثالثة» - التي أطلقتها روسيا في عام 2017 - تركز توجيه التسوية بشكل ينسجم مع توازن القوى الجديد على الأرض. وهنا برز «مسار آستانة»، ومبادرات إعادة اللاجئين لاحقاً، والدعوة الروسية لإطلاق مشروع دولي لإعادة الأعمار، وأيضاً محاولات موسكو تعويم النظام إقليمياً ودولياً.
ولكن بدا أن هذه المرحلة احيطت بتعقيدات كبرى، ولعب النظام دوراً في إفشال بعض الجهود الروسية في مسار «اللجنة الدستورية» مثلاً؛ ما ولّد الحاجة إلى إطلاق المرحلة الجديدة في فترة تعقيدات وتحديات كبرى.
علاقة موسكو ودمشق... صعوداً وهبوطاً
علاقة موسكو ودمشق... صعوداً وهبوطاً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة