فيليب عرقتنجي: ضروري أن نوثّق اللحظة فالتاريخ لن يسامحنا

لا يتعب المخرج اللبناني فيليب عرقتنجي من حمل كاميرته تاركاً لعينيه اختيار المكان والزمان المناسبين، لالتقاط صور اللحظة. فكما في مراحل الحرب اللبنانية والسيارات المفخخة، كذلك في زمن «كورونا» وثورة «لبنان ينتفض»؛ فهو لم يوفر جهداً إلا قام به من أجل توثيق حقبات من تاريخ لبنان على طريقته حتى في زمن السلم. فهو صاحب أفلام كثيرة وثائقية وروائية، نابعة من حسّ صحافي لا يكتفي بالقليل.
اليوم يوثق عرقتنجي حقبة حديثة من تاريخ لبنان تتمثل بأيام الثورة. فقد انتفض اللبنانيون وعبّروا عن غضبهم في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، وقلبوا صفحة ليفتتحوا مشهدية حياتية لم يسبق لهم أن عاشوها في تاريخ لبنان الحديث... تظاهروا وطالبوا وصرخوا وافترشوا الساحات مصرّين على تحقيق أحلامهم عن طريق انتفاضة سلمية لا تشبه تلك التي عاشها آباؤهم وأجدادهم في زمن الحرب.
صوّر المخرج عرقتنجي 11 فيلماً قصيراً من إنتاج شركته «فانتاسكوب» لا تزيد مدة كل واحد منها على 4 دقائق، لتكون بمثابة شاهد حي على انتفاضة شعبية يجب أن تبقى شعلتها راسخة ومضاءة في ذاكرة اللبنانيين.
ويقول فيليب عرقتنجي في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «منذ أن بدأت العمل بالأفلام الوثائقية، تغيرت نظرتي للفنون التصويرية. فما عاد يهمني الحدث بحد ذاته قدر ما تهمني معرفة ما ينتظرنا من بعده. من هنا؛ جاءتني فكرة توثيق الثورة اللبنانية في صور فوتوغرافية وأخرى ضمن مقاطع سينمائية تنقل واقعاً ساد مختلف المناطق اللبنانية من دون استثناء».
ومن أجل أن تحظى أفلامه هذه بشمولية أكبر؛ لجأ عرقتنجي إلى عدد من أصدقائه المخرجين والمصورين الفوتوغرافيين كي يسهموا في تحقيق فكرته. وتعود الشهادات التسع إلى كلّ من المصوّرين: إيلي بخعازي، وكارلوس هيدموس، وعمّار عبد ربه، وباتريك باز، وثراء قبطان، ونذير حلواني، وحسين بيضون، ومروان طحطح، ولوسيان بو عبدو. والمخرج أيمن غالي، ومهندس الصوت هيثم عتمة.
قال عرقتنجي: «عندما انطلقت الثورة، دفعتني خلفيتي الوثائقية إلى أن أحمل كاميرتي وأجول على دراجتي لتلتقط عيني كل ما يلفتها. وجاءت الأفلام بعد ذلك مزيجاً مما صورته بنفسي، وما التقطه المصورون فوتوغرافياً أو بالفيديو أو من خلال (درون)، حيث توصلنا إلى توثيق ما يحدث في ساحات الثورة، بمختلف المناطق اللبنانية».
ووضع عرقتنجي في أفلامه الـ11 لمسة واقعية نابعة من مركز الحدث في مدن وبلدات لبنانية عدة. وجاءت الأفلام التي اشترت حقوق عرضها إحدى القنوات الفضائيات (الحرة)، بمثابة حكايات تروي مشاهدات حية للحظات حب وطن بجنونه وسلمه. ويمكن لأي شخص أن يشاهد هذه الأفلام عبر صفحة «فيسبوك» الخاصة بالمخرج اللبناني. فيتعرف من كثب على 11 قصة تختلف كل منها عن الأخرى؛ بناسها وصورها وسياق أحداثها، مع كل ما تحمله من معانٍ.
ويعلق عرقتنجي في سياق حديثه: «لم أكتفِ بأخذ هذه المقتطفات والصور، فصرت أبحث عن الرمزية التي تحملها وكذلك عن أبعادها الفلسفية. وهو ما جعلني أغربل الصور وأفضل واحدة على أخرى. وبرفقة المصورين تناولنا الثورة منذ بداياتها في أكتوبر؛ مروراً بشهري نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول)، وكأنّها تؤرخ نفسها بنفسها. فما نعيشه اليوم لا يشبه أياً من الحقبات السابقة من حروب واستشهادات وانفجارات واغتيالات مرّت علينا بلمح البصر. وبرأيي؛ لا وقت عندنا لنتذكر كل ما نشهده. فكان من الضروري أن نتوقّف عند الثورة ونوثقها، في ظل غياب تاريخ لا يخدمنا ولن يسامحنا».
وفي أحد هذه الأفلام؛ يروي المصور لوسيان بو عبدو تجربته التصويرية في أول أيام الثورة، وعن وردة رآها تزين درع أحد أفراد قوى الأمن الداخلي. «عندما سألته: لماذا هذه الوردة؟ أجابني بأنّها وردة الأمل، وعندما حاولت أن أستفهم منه عن أي أمل يتكلم، دلّني على حشود المتظاهرين ومفترشي ساحة الشهداء». ويأخذنا المصور باتريك باز في فيلم آخر ضمن رحلة صور ومقتطفات. «الثورة هي أنثى؛ لذلك هي بعيدة كل البعد عن العنف الذي رأيناه في حروب سابقة أدارها الذكور في لبنان»؛ يقول باز واصفاً دور المرأة اللبنانية الرئيسي في الخطوط الأمامية للثورة. أمّا المصورة ثراء قبطان وضمن فيلم يعرض مشاهد من ساحة عروس الثورة في مدينة طرابلس، فتتذكر أحداثاً حفرت في ذهنها... «لقد عشنا الأمل وحب الحياة، وأظهرت في صوري حماس الناس وردودهم. كما نقلت مشاهد متناقضة تنقلنا بين الفرح والغضب بين لحظة وأخرى». وتضيف: «اختبأنا وراء الأشجار مرة، وسمعنا أزيز الرصاص مرة أخرى، وتراشقنا بالدقيق لنعبّر ببراءة الأطفال عن أملنا بالغد».
ويتحدث فيليب عرقتنجي عن الفرق بين تجربته التصويرية الموثقة لزمن الحرب وتلك الخاصة بزمن الثورة، فيقول: «منذ صغري تعلقت بهواية التصوير، وبعد دراستي في لندن عدت إلى الوطن لأمارس هوايتي هذه. ومنذ ذلك الوقت اتخذت تجاربي منحى مغايراً يتعلق بما بعد الحدث. وهذا الأمر ترجمته في أعمالي السينمائية مثل (تحت القصف). في أيام الحرب؛ نقلت كاميرتي مشاهد قاسية؛ وبينها واحد دفع بي إلى توقف التصوير. يومها حفر في ذاكرتي مشهد امرأة تقطعت أوصالها بسبب انفجار سيارة، وبقيت متمسكاً بواجبي في توثيق اللحظة بأي طريقة». ويتابع عرقتنجي: «وفي زمن الثورة حملت كاميرتي أيضاً، ولكنّي لاحظت أنّها تختلف تماماً عن كل ما عشناه سابقاً، فأبعادها مختلفة، وانتشار الاحتجاجات معمم على كل مناطق لبنان. ومن هنا خطرت لي هذه الفكرة».
وعن علاقته ببيروت التي صوّر شوارعها مؤخراً خالية وهادئة في ظل الجائحة، يقول: «بيروت هي غرامي، ولعلي أغرمت بها من جديد في زمن (كورونا)؛ فقد سعدت برؤيتها تتنفس هواءً نظيفاً، بعيداً عن التلوث البيئي الذي كان يخنقها من قبل».