الهولندي روتخر برغمان «يطرح رؤية جديدة للطبيعة البشرية»

يحلل نصوصاً قديمة عن خطايا الإنسان وصولاً للظواهر الحاضرة

روتخر برغمان - غلاف الكتاب
روتخر برغمان - غلاف الكتاب
TT

الهولندي روتخر برغمان «يطرح رؤية جديدة للطبيعة البشرية»

روتخر برغمان - غلاف الكتاب
روتخر برغمان - غلاف الكتاب

«لقد حان الوقت لرؤية جديدة للطبيعة البشرية»، بهذه العبارة يفتتح المفكر الباحث الهولندي روتخر برغمان (32 عاماً) كتابه «النوع البشري.. تاريخ متفائل» الذي سبقته شهرته، وتناولته كبريات الصحف بالمراجعات قبل نشر نسختيه الإلكترونية والورقية. والكاتب نفسه شغل المختصين بسرعة. فرغم حداثة سنه، تمت دعوته إلى مؤتمر دافوس، العام الماضي، ليتحدث بحضور نخبة الاقتصاد والمال، حديثاً هاجمهم فيه بشراسة، وطالبهم بدفع الضرائب لا الإحسان، ما دفع بموقع «فوكس نيوز» لعدم بث الحديث.
يقدم الكاتب تحليله لأدبيات كثيرة في التاريخ البشري، منذ الإغريق حتى اليوم، بدءاً من النصوص القديمة عن خطايا الإنسان وصولاً للظواهر الحاضرة، كبيرة كانت مثل الاحتباس الحراري، أو عابرة مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو رئاسة شخص مثل ترمب لأكبر دول العالم.
ولا يغفل برغمان دور الأدب في سرديات التاريخ، فيضع رواية ملك الذباب موضع تساؤل يخص زمن نشرها (منتصف الخمسينيات)، وسر النجاح الهائل الذي حالفها، وبيع ملايين النسخ منها، وترجمتها إلى عشرات اللغات، مع أن مؤلفها كان مدرساً، وليس كاتباً أو أديباً معروفاً، والرواية تسرد حكاية أطفال نجوا من حادثة غرق، وعاشوا على جزيرة نائية في الباسيفيك، فتحولوا إلى متوحشين يقتل بعضهم بعضاً... ويذهب الكاتب إلى أن ويليام غولدينغ، مؤلف الرواية، أراد أن يحدث صدمة لتسويق وجهة نظره بأن البشر أشرار وأنانيون بطبعهم!
يرصد برغمان بإيجاز تطور جنسنا البشري على الأرض، أي منذ عصر الكهوف إلى غزو الفضاء، مروراً بعهود الزراعة والصناعة، وأخيراً ثورة المعلوماتية. وللتوسع في تمهيد الأرضية هذه، اعتمد الكاتب منهجاً شمولياً، إذ بحث ودقق كماً كبيراً من الدراسات والكتب، مستعيناً بأدلة بحثية وعلمية في الجيولوجيا والأركيولوجيا والأحياء والإحصاء وعلوم النفس والاجتماع. لكن يمكن ملاحظة تتبعه لنسقين فلسفيين في الثقافة الغربية، ومن عصر النهضة تحديداً: النسق الأول يمثله توماس هوبز، الفيلسوف الإنجليزي المسمى «فيلسوف التشاؤم»، من خلال تقريره «أن الطبيعة البشرية الشريرة لن ينقذها إلا التمدن»؛ والنسق الثاني يمثله جان جاك روسو، الفيلسوف الفرنسي المعبر أكثر عن فلسفلة التفاؤل وحسن الظن والثقة بالطبيعة البشرية الأصيلة... والمفارقة أن روسو المتفائل يقول إن «الحضارة هي التي تدمرنا»، كما لو أنها شيء مفارق للإنسان المفطور على الخير!
ثم يقابل برغمان قول داروين بأن الصراع للبقاء هو المحرك الأساسي لتطورنا، مع قول ريتشارد دوكينغ بأن سر تفوقنا وبقائنا يكمن في أننا ورثة الجين الأناني.
ويتوقف عند المكيافلية القائمة على الوصولية بأي ثمن، التي ترى أن الوقاحة هي المفتاح السحري للسيادة البشرية، فيسأل عن سر تفرد البشر بصفة الخجل| الحرج واحمرار الوجه، من دون أفراد المملكة الحيوانية، وهي الصفة التي يعدها داروين «من أكثر المشاعر الإنسانية غرابة وتميزاً».
ومن خلال كل ذلك، يتأمل الكاتب في كيفية تطور الإنسان عبر التاريخ، ذلك المخلوق اللطيف القادر على ارتكاب أشياء مريعة، محاولاً تقديم تعليل منطقي بإيراده لقصة مشهورة حدثت عشية عيد الميلاد في ديسمبر (كانون الأول) 1914، تسرد تفاصيل احتفال الجنود المتحاربين بالمناسبة، على الجبهتين، بشكل عفوي، رافضين إطلاق النار بعضهم على بعض تلك الليلة. ليكشف الكاتب النقاب عن استغلال الإعلام للحادثة بصورة تزكي روح الكراهية عند الجنود على كلا الجبهتين، كقول صحيفة «الديلي ميل» البريطانية آنذاك: «الجنود الألمان يقتلون الحوامل والأطفال ويعلقونهم في الشجر».
ويقدم مثال صمود لندن أربع سنوات، تحت قصف 80 ألف قنبلة من الطيران النازي، شاهداً على أن «الكوارث تقرب البشر بعضهم من بعض، وتظهر أفضل ما فيهم»، وليس العكس. فقد أبدى البريطانيون تعاضداً فريداً، رغم القصف والفقر والفقدان.
ويقدم برغمان للقسم الثاني بجملة من مذكرات آن فرانك (1929-1945): «من الغريب أنني لم أتخلَّ عن مثالياتي التي تبدو سخيفة غير عملية، بل على العكس تمسكت بها لأنني ما زلت أؤمن بأن كل الناس طيبون بالعمق». ثم يتناول قصصاً مشهورة في أدبيات علم النفس، ما تزال تدرس في كثير من جامعات العالم، كقصة «Robbers cave»، محاولاً تفنيد الحكم المسبق على سيكولوجيا الإنسان بأنها تتشكل بدوافع عنفية أصيلة، فيسأل: كيف يمكن أن يكون الإنسان متوحشاً على درجة يقترف معها أوشفيتز (محارق النازية) في بلد متطور متقدم كألمانيا، بلد غوته وكانط وبيتهوفن وباخ؟ مؤكداً وجاهة كلام روسو بأن الحضارة دمرتنا.
وركز برغمان على تجربة قبو جامعة ستانفورد، وهي تجربة شهيرة أجراها الباحث الاجتماعي فيليب زيمباردو (1971) على عينة من طلابه، حيث قسمهم إلى قسمين: قسم يمثل الحراس، وقسم يمثل السجناء. وسرعان ما يتمثل كل من الطرفين دوره. ونظراً للقسوة البالغة التي أظهرها السجانون على زملائهم المساجين، فقد تم إيقاف التجربة بعد عدة أيام.
لكن ما أدهش الكاتب في الدراسات المتناولة المفارقة بين حقيقة ما حصل وما تم نقله وتعميمه إعلامياً وجماهيرياً. فتجربة ستانفورد لم تكن عفوية، كما زعم من أجراها، بل خطط ورسم لها. ونستنتج أن هناك كذباً استمر أربعين عاماً حول حقيقة خطة التجربة التي اقترحها أحد طلابه الساديين (ديفيد جافي)، وحقيقة أن زيمباردو ساهم في كثير من الاقتراحات السادية، كفكرة إيقاظ السجناء ليلاً بفترات متقاربة كي يعكر نومهم، ويجعلهم أكثر عرضة للغضب.
القسم الثالث يفتتح بقول سبينوزا: لقد سعيت أن لا أضحك من الأفعال البشرية ولا أبكي منها ولا أكرهها بل أفهمها فقط.
ويتابع برغمان كثيراً من الدراسات والمبادرات والأبحاث، لمحاولة فهم ما حصل في الحرب العالمية الثانية من باب سيكولوجي، من قبيل البحث في دوافع البشر لبناء السجون وغرف الغاز، لتأتي النتائج مثيرة للاستغراب، وربما الدهشة. فمن خلال التحقيقات مع سجناء ألمان في الحرب العالمية الثانية، ومن الإحصائيات الهائلة لدراسة شخصيات الإرهابيين والانتحاريين في الزمن الحديث، يورد برغمان أدلة يستغربها الإنسان العاقل، ولنقل العادي. فجنود النازية ظاهرياً قاتلوا بروح عالية نادرة في التاريخ، فهل كان ذلك فقط بسبب الآيديولوجيا النازية؟ لمَ لم تضعف هممهم رغم آلاف القصاصات الورقية التي ألقيت عليهم في ساحات المعارك، وفي المدن والقرى، بأن الحلفاء سيهزمونهم، وقد عرفوا سلفاً -أي الألمان- أنهم مهزومون؟ يجيب الكاتب بأنهم قاتلوا بصفتهم رفاقاً وأصدقاء، وليس فقط بصفتهم مؤمنين بعقيدة هتلر.
ويتصدر القسم الخامس (الأخير) اقتباس عن جورج برنارد شو: إن عاقبت شخصاً باستمرار ستؤذيه، وإن كنت تريد تغييره يجب أن تطوره؛ لا يتغير البشر بالأذى. ويدعم وجهة نظره بتجربة السجون النرويجية التي لا يتسع المجال لعرضها هنا، بغية إتاحة حيز يكفي لاستعراض محتوى أهم (ربما) من فصول الكتاب حول وسائل علاج الكراهية والظلم والتكبر. وقد اختار الكاتب قصة نيلسون مانديلا المؤثرة، لتكون درساً تاريخياً عابراً للزمن والثقافات، يخص مفهوم التسامح ومعنى العدو، ومخاطبته باللغة التي تمس قلبه (حين تخاطب الإنسان بلغة يفهمها، فإنك تخاطب عقله، ولكن حين تخاطبه بلغته هو فإنك تلامس قلبه). فحين اختار مانديلا هذه اللغة، استطاع تغيير صورته في عيون البيض. لقد جعل الآلاف منهم يهتفون باسمه، بعد أن كانوا يلقبونه بالإرهابي!
الإيمان بالإنسان وطاقاته هو الذي جعل الفيلسوف يوفال هاراري يقول: قراءة هذا الكتاب جعلتني أرى البشرية من منظور جديد.

* كاتبة سورية


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.