«نهاية الخصوصية»... تحولات الثقافة الرقمية وانكشاف الذات

يسعى كتاب «نهاية عصر الخصوصية... انكشاف الذات في الثقافة الرقمية» تأليف الكاتب الألماني أندرياس برنارد، إلى تأصيل التاريخ المعرفي للثقافة الرقمية واسعة النطاق التي تكونت منذ خريف 2006 وحتى الآن، بعد ظهور «فيسبوك»، والكثير من مواقع التواصل الاجتماعي مثل «تويتر» و«إنستغرام»، وغيرها من المواقع الإلكترونية مع بحث آليات اندماج تقنيات تلك الوسائط الرقمية في تاريخ العلوم الإنسانية.
ويشير المؤلف في كتابه، الذي أصدرت نسخته العربية عن أصله الألماني دار صفصافة بالقاهرة بترجمة المصرية الدكتورة سمر منير، إلى أن هناك شيئاً ما يلفت الأنظار في أساليب تمثيل الذات ومعرفتها في أيامنا، سواء في «الملفات الشخصية» في وسائل التواصل الاجتماعي، أو في وظائف تحديد المواقع الموجودة في الهواتف الذكية، والتي يتم استخدامها بشكلٍ متنوع، أو في قياسات الجسم وفقاً لحركة القياس الكمي للذات. ويذكر برنارد، أن ما يلفت النظر يتمثل في حقيقة أن هذه الأساليب ترجع جميعها إلى طرق تم ابتكارها في علم البحث الجنائي وعلم النفس والطب النفسي منذ نهاية القرن التاسع عشر. وأصبحت اليوم من الأشياء العادية التي تخص أي مستخدم للهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي. فالأوصاف الشخصية المتعلقة بالمظهر الخارجي للأشخاص والمرتبطة ببيانات سيرهم الذاتية والـ«جي بي إس» صارت تُستخدم بمفهوم تواصلي، كما يتم استلهامها اقتصادياً أو عاطفياً. ويعد ما يعرف بـ«الملف الشخصي» ذا أهمية بالغة في هذا الصدد؛ ذلك أنه يلعب الدور المحوري في تحديد الهوية والتواصل بين الأفراد داخل نطاق شبكات التواصل الاجتماعي، فهي المكان الذي تتجمَّع فيه البيانات الشخصية والنصوص والصور ومقاطع الفيديو ما يجعله بمثابة مركز للتفاعل فيما بينهم.
ويذكر المؤلف أنديانا بويد، وهي باحثة في شركة «مايكروسوفت»، شددت على هذا العنصر في مقالاتها ذات التأثير الكبير، التي ترى فيها أن هذه الملفات صارت بمثابة الشكل السائد لعرض الهوية الشخصية على شبكة الإنترنت، وأن من ينشئونها يتمتعون بقدرٍ كبير من الاستقلالية في عرض ذواتهم على الملأ، ولفتت إلى أنه كلما زاد الابتكار والغلو في بناء شكل الملف الشخصي، زادت قوة ردود أفعال المستخدمين الآخرين لشبكة التواصل الاجتماعي.
قسّم برنارد كتابه خمسة محاور، هي «قوة الاستبطان»، و«الأماكن... نظام الـ(جي بي إس) وجماليات الشك»، و«حالات التفتيش الجسدي»، و«الخوف من تسجيل البيانات والرغبة في تسجيلها»، فضلاً عن «الملف الشخصي... مسيرة تطور ذلك الشكل».
وتتبع برنارد سياقات وتوقيت ظهور «الملف الشخصي» الكتابي ومن يؤلفه وما موضوعه ولماذا تم إنشاؤه، وذكر أن كلمة «بروفيل» وردت لأول مرة في العلوم الإنسانية، بوصفها «مفهوماً متخصصاً في مجال علم النفس التقني»، وذلك في دراسات الطبيب النفسي الروسي جريجوري روسوليمو، الذي نشر في عام 1910 مقالاً تحت عنوان «الملف النفسي». وصمم في دراسة صدرت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى أيضاً باللغة الألمانية إجراءات القيام باختبار للأطفال بدءاً من عمر سبع سنوات من أجل قياس المواهب المختلفة ومدى التركيز وأداء الذاكرة وقوة تداعي الأفكار، وذلك وفقاً لمقياس متدرج من واحد إلى عشرة، وفي نهاية إجراءات الاختبار هذه يمكن ربط كل نقاط الجدول بعضها مع بعض، والحصول على منحنى مستويات التطور لكل عملية على حدة، من أجل تخصيص نمط المدرسة المناسب للأطفال ذوي السلوك غير المنضبط.
ويمكن القول، إن الاهتمام المعرفي بالملف النفسي، حسب استدعاءات المؤلف لوجهات نظر كثير من علماء النفس، يكمن في تقديم إيضاح عن هوية وسلوك الأفراد المنحرفين لمرجعية تقوم بفحصهم وتقييمهم، فحيثما يتم إنشاء ملف نفسي، وحيثما يتم النظر بشكل عرضي للإنسان من منظور علم النفس، فإن الحالة الطبيعية وصحة الأشخاص الخاضعين للتجربة والتحليل تصبحان على المحك.
وذكر برنارد، أنه بحلول عام 1930 ضعف تأثير مفهوم «الملف النفسي» في علم النفس التقني. لكن هذا المفهوم سرعان ما ظهر بعد ذلك في سياقٍ معرفي جديد، أكسبه في أواخر القرن العشرين شعبية واسعة. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ازدادت حالات التعاون بين الخبراء الجنائيين والمحللين النفسيين في الولايات المتحدة الأميركية من أجل دفع عملية الكشف عن ملابسات القضايا الجنائية نحو الأمام؛ لا سيّما تلك القضايا التي يُرجَح أن من يقف خلفها جانٍ سبق له ارتكاب جرائم. وقد بدأ منظور علم النفس الجنائي يُركِّز على الآثار الانفعالية وغير المادية، التي يُخلِّفها الجاني وكيف ترتسم في مسرح الجريمة مشاعر الكراهية والخوف والغضب والاحتياج إلى الحب أو الانفعالات الأخرى التي تختلج في نفسه، ولكي يعمل كل ذلك بفاعلية كبيرة كان لا بد من تطوير هذه العمليات، وهو ما لم يحدث بدقة منهجية إلا مع نهاية السبعينات، وذلك في نطاق قسم تم تأسيسه مؤخراً في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي وحمل اسم «وحدة العلوم السلوكية».
وكان معنى مفهوم بروفيل، أو بروفايل كما يلفظ في الإنجليزية، يعني فنياً منظراً جانبياً للوجه، وهو المفهوم الذي استخدم منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر. وما دامت بعض التأثيرات المعرفية المنهجية والتصنيفية المحددة مرتبطة بعرض الوجه، فقد حوَّل عالم الفراسة السويسري يوهان كاسبر لافاتر صورة خيال الظل في المنظر الجانبي للوجه من عمل فني، يؤدى بعناية، إلى شفرة كتابية، تُمكِّن من يقرأها من الولوج إلى مكنون نفس كل إنسان، كما يعتقد.
وبعد ذلك بنحو مائة عام برهن العالم الفرنسي المتخصص في مجال البحث الجنائي ألفونس بيرتيون على أمرٍ مشابه تماماً؛ عندما قدَّم نظامه الجديد لتحديد هوية الجناة المعتادين على الإجرام تحت اسم «الأنثروبومترية»، وهي عبارة عن سلسلة من قياسات الجسم يتم إكمالها بصورة فوتوغرافية ملتقطة لجانب وجوه المذنبين. فقد كان يرى أن المنظر الجانبي للوجه يعد بما فيه من خطوطٍ دقيقة مناسباً لعرض السمات الفردية المحددة لكل وجه، وربما يعزي سبب هذا إلى إمكانية تحديد الهوية بشكل ممتاز عن طريق الأذن التي يختلف شكلها عند كل إنسان، ولا يمكن تغيير شكلها أثناء التقاط الصورة الفوتوغرافية. وتوضح شروحات لافاتر وبيرتيون، أنه من المفترض أن تعطينا الصورة الملتقطة لجانب الوجه معطيات معرفية عن الأفراد الخاضعين للتحليل والتصنيف، وتشبه بذلك الوثيقة المكتوبة على هيئة جدول وتحمل الاسم ذاته.