اشتعلت الاحتجاجات والمظاهرات الغاضبة لليوم السادس على التوالي وامتدت من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي. وواجهت السلطات الأميركية المتظاهرين في عشرات المدن، التي شهدت بعضها حالات شغب وتحطيم الممتلكات العامة وحرق سيارات الشرطة وسرقة المتاجر في مشهد لم تشهده من قبل بهذا القدر منذ أعمال الشغب التي أعقبت اغتيال مارتن لوثر كينج زعيم حركة الحقوق المدنية والاحتجاجات الطلابية في ستينات القرن الماضي. وتناقلت وسائل الإعلام الأميركية والدولية العديد من الصور والفيديوهات لأعمال الشغب واشتعال النيران بالقرب من البيت الأبيض ونهب المتاجر في مدن مثل نيويورك ولوس أنجليس وبوسطن وشيكاغو وفيلادلفيا وبورتلاند وأوريغون، وتم إغلاق كل الطرق المؤدية إلى مدينة منيابوليس (التي وقع بها حادث مقتل جورج فلوريد) بولاية مينيسوتا في الشمال عند الحدود مع كندا.
وكثفت الشرطة حضورها بضباط يرتدون ملابس مكافحة الشغب وأطلقوا القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي ورذاذ الفلفل واستخدموا أسلحة دفاعية مثل مسدسات الصعق والهراوات. وأعلنت سلطات إنفاذ القانون اعتقال العشرات من المحتجين بلغت بحلول مساء الأحد 2552 شخصا في عشرين مدينة وفقا لإحصاء نشرته صحيفة «واشنطن بوست»، ونقلت وسائل الإعلام مقتل ما لا يقل عن خمسة أشخاص. وتعرض العديد من الصحفيين الذين يغطون التظاهرات للإصابات، كما تعرضت بعض مباني الصحف الأميركية لتحطيم الواجهات وقبض على بعض المتظاهرين عند متحف بروكلين وهم يلقون قنابل المولوتوف.
وفي المقابل استعانت 26 ولاية على الأقل بقوات الحرس الوطني، حيث انتشر الآلاف من الجنود لاحتواء الاضطرابات في عدد من المدن. وقال الجنرال جوزيف لينجيل رئيس مكتب الحرس الوطني في بيان إن أفراد الحرس الوطني مدربون ومجهزون لمساعدة سلطات إنفاذ القانون وحماية الأرواح والحفاظ على الممتلكات، وضمان حق الناس في التظاهر السلمي مع الالتزام بتدابير الوقاية من «كوفيد 19». ومن المقرر أن يقوم عناصر الحرس الوطني بمجموعة من المهام منها تسهيل حركة المرور ودعم رجال الشرطة والسلطات المحلية وإدارات الإطفاء، وشرطة مكافحة الشغب ودعم الاتصالات. ووسط تلك الأجواء المحتقنة، فرضت أكثر من عشرين مدينة أميركية حظر التحول مثل لوس أنجليس وفيلادلفيا وأتلانتا ودنفر، وأعلنت عمدة العاصمة واشنطن موريل بوزر مساء الأحد فرض قرار حظر التجول ليسري من الحادية عشرة مساء حتى السادسة صباحا، كما أعلنت خلال مؤتمر صحافي مساء الأحد أنها طلبت المزيد من جنود الحرس الوطني ليصل عددهم إلى 500 جندي في العاصمة واشنطن.
وسادت تلك المظاهرات - التي اعتبرها البعض أنها تهدد بحرب أهلية أميركية - في وقت كان من المقرر أن تستأنف العاصمة واشنطن ومدن أخرى النشاط الاقتصادي وإعادة فتح المتاجر والشركات بعد أكثر من شهرين من أوامر البقاء بالمنزل بسبب فيروس «كورونا». وأبدى الكثير من الخبراء والمحللين مخاوفهم ما إذا كانت الاحتجاجات والمظاهرات الغاضبة مع تصعيد الشرطة لتكتيكاتها ضد المتظاهرين ستكون ذروة الاضطرابات أم بدايتها. وكان الرئيس ترمب قد صب مزيدا من الزيت على النار، واصفا المتظاهرين في تغريداته بأنهم بلطجية وحث محافظي الولايات بمزيد من الصرامة، كما هدد باستخدام الجيش الأميركي وألقى الاتهامات على الديمقراطيين وعلى حركات يسارية متشددة مثل أنتيفا التي أشار إلى نيته إدراجها كمنظمة إرهابية محلية، وإلى العديد من التيارات ومن سماهم مندسين غرباء بين المتظاهرين السلميين. وهدد ترمب المتظاهرين أمام البيت الأبيض بالكلاب الشرسة.
وشهد محيط البيت الأبيض تجمهر أكثر من ألف شخص تجمع أغلبهم خلال عطلة نهاية الأسبوع عند حديقة لافاييت المواجهة للبيت الأبيض، رافعين اللافتات المناهضة للعنصرية. كما أضرموا النيران في السيارات وبعض المباني بالقرب من مبنى الغرفة التجارية الأميركية، وألقوا بالحجارة وزجاجات المياه على شرطة الخدمة السرية، وقال البيت الأبيض إن أكثر من 60 عنصرا من الخدمة السرية أصيبوا خلال تلك الاشتباكات.
واضطرت الشرطة إلى إغلاق كافة الشوارع المحيطة بالبيت الأبيض ووزارة الخزانة الأميركية الملاصقة للبيت الأبيض. ودارت نقاشات بين الرئيس ترمب وكبار مساعديه حول الخطوات التي يجب على البيت الأبيض اتخاذها لتهدئة التوترات وانقسم مساعدي ترمب إلى فريقين الأول يقوده رئيس طاقم الموظفين مارك ميدوز الذي شدد على ضرورة قيام ترمب بإلقاء خطاب رسمي للأمة للتأكيد على دعمه للقانون والنظام ودعمه لضباط الشرطة، فيما كان الفريق الثاني يقوده مستشار وصهر الرئيس جاريد كوشنر وعدد من كبار المساعدين يحذر من تأثير مثل هذه النبرة في الخطاب من إثارة الناخبين وإثارة الأميركيين من أصول سوداء خاصة في ظل تحديات كثيرة مثل وفاة أكثر من 100 ألف شخص بسبب فيروس «كورونا» وارتفاع نسب البطالة بشكل غير مسبوق.
ويقول الخبراء إن إدارة ترمب تحاول العزف على النغمة الصحيحة لتهدئة البلاد بعد تصوير المتظاهرين كأفراد خارجين عن القانون أو فوضويين. وربما وجدت ضالتها في كبش فداء من خلال إلقاء اللوم على الاحتجاجات على حركة أنتيفا وهي مجموعة من اليساريين الذين يعارضون الفاشية والرأسمالية، وإلقاء اللوم على الفوضويين.
وأجرى ترمب صباح الاثنين العديد من الاتصالات مع حكام الولايات ومسؤولي تطبيق القانون ومسؤولي الأمن القومي، واجتمع مع المدعي العام ويليام بار لبحث كيفية تهدئة الرأي العام والتعامل مع الاحتجاجات.
وتباينت ردود الفعل لدى الأميركيين بمختلف أعراقهم وأديانهم وطوائفهم ما بين تيار غاضب بشدة من عنف الشرطة وتكرر الحوادث ضد السود الأميركيين، وبين تيار منزعج من تزايد مخاطر العنصرية وتيارات أخرى تعاطفت مع أجهزة الشرطة التي تواجه تحديات للحفاظ على الأمن وتيارات أخرى راغبة في إجراءات صارمة في مواجهة الشغب وسرقة المتاجر وضرورة مواجهة الجريمة. وتباينت أيضا مواقف حكام الولايات ورؤساء البلديات في المدن وفقا لانتماءاتهم الفكرية والآيديولوجية والحزبية.
وقالت كاي جيمس رئيسة معهد هيراتيغ بواشنطن إن القتل غير المبرر لجورج فلوريد على يد ضابط أبيض يجب أن يصدم ضمير أميركا، وبينما أتفهم الإحباط والغضب لا أتغاضى عن العنف المنتشر، لأن أعمال الشغب لن تؤدي إلى شيء سوى المزيد من المعاناة. وتساءلت في تصريحات لشبكة فوكس نيوز عن عدد السود الذين يجب أن يموتوا حتى تعترف الولايات المتحدة أن العنصرية لا تزال مشكلة في هذا البلد. وأوضحت أن اعتقال ضابط شرطة مينيابوليس المطرود ديريك تشوفين وتوجيه تهمة القتل غير العمد والقتل من الدرجة الثالثة هي خطوة مرحب بها لكنها مجرد «ضمادة».