ليبيا... «دليل للمبتدئين»

خلفيات الصراع وأطرافه الأساسية وموازين القوى

طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
TT

ليبيا... «دليل للمبتدئين»

طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)

في زمن «كورونا» ورغم هيمنة تداعيات هذا الوباء على عناوين الأخبار منذ شهور، ظلّت ليبيا، ولأسباب مختلفة، محافظة على موطئ قدم لها في مقدم تطورات العالم العربي، والآن، كما يبدو، في مقدم اهتمامات الدول الكبرى... وحروبها الخفية.
فماذا يحصل في ليبيا حقيقة؟ وكيف وصلت الأمور إلى هنا؟
يسلّط هذا التقرير - وهو بمثابة «دليل للمبتدئين» - الضوء على بعض خلفيات الصراع في ليبيا، وعلى أطرافه الأساسية، وموازين القوى فيه، وأيضاً على التحالفات الإقليمية والدولية، بما في ذلك «الحرب الباردة» الدائرة حالياً على الأرض الليبية بين الأميركيين والروس.

كيف وصلت الأمور إلى هنا؟
في فبراير (شباط) من عام 2011، وفي خضم ما عُرف آنذاك بـ«الربيع العربي» الذي أطاح لتوّه بنظامي الرئيسين الراحلين زين العابدين بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر، اندلعت «انتفاضة» ضد حكم العقيد الراحل معمر القذافي الذي رد بتهديد الثائرين ضد نظامه بملاحقتهم «زنقة زنقة» حتى القضاء عليهم. جمع القذافي جيشاً جراراً ضم متطوعين من أبرز مدن غرب البلاد وقبائلها التي ظلّت على ولائها لنظامه، وعندما وصلت هذه القوات إلى أبواب مدينة بنغازي، مهد الثورة ضده في شرق البلاد، تحركت دول غربية، على رأسها فرنسا، ونجحت في إصدار قرار من مجلس الأمن (القرار 1973) يسمح بإجراءات لـ«حماية المدنيين». تبيّن لاحقاً أن القرار كان في الواقع جزءاً من خديعة تعرضت لها روسيا، بحسب ما يقول مسؤولوها. إذ سرعان ما أصدرت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة موقفاً مشتركاً فسّرت فيه حماية المدنيين بأنه يعني تدخلاً عسكرياً لإطاحة النظام. وهكذا كان. لم تكتفِ الطائرات الفرنسية بضرب الرتل المتقدم نحو بنغازي وتدميره، بل شارك حلف «الناتو» بأكمله في عملية تدمير القوات الحكومية الليبية أينما وجدت، والسماح لجماعات الثوار بإسقاط القذافي وقتله في مسقط رأسه، مدينة سرت، في أكتوبر (تشرين الأول) 2011.
ما بعد القذافي

اقتراع 2012: أول برلمان لليبيا بعد سقوط نظام القذافي (غيتي)

خطت ليبيا خطوة مبشّرة نحو الانتقال إلى نظام ديمقراطي يخلف «جماهيرية العقيد»، فنظّمت في يوليو (تموز) 2012 انتخابات تعددية لاختيار برلمان انتقالي (المؤتمر الوطني). حقق «تحالف القوى الوطنية»، بزعامة الراحل محمود جبريل، تقدماً واضحاً في هذه الانتخابات، لكن تكتلات عدة يهيمن عليها الإسلاميون تدخلت لحرمانه من نيل منصب رئيس الوزراء. قيل وقتها الكثير في خصوص خلفيات استهداف جبريل، وربطها كثيرون بموقف قطر منه كونه اعترض، مع آخرين، على ما اعتبره تدخلاً واضحاً منها في فرض شخصيات بعينها لتولي مناصب أساسية في الدولة الليبية في فترة ما بعد القذافي.
في عام 2014، عادت ليبيا إلى صناديق الاقتراع واختارت برلماناً جديداً (مجلس النواب). ورغم أن جميع المرشحين تقدموا بوصفهم مستقلين، فإن نتيجة الاقتراع مثّلت هزيمة مدوية للإسلاميين الذين خسروا في مواجهة تحالف من الليبرالييين والوطنيين. لكن الاقتراع تمثّل في المقابل بمشاركة متدنية جداً من المواطنين (18 في المائة فقط)، ورفض الإسلاميون القبول بنتيجته. فقد كانت الأوضاع في البلاد تسير نحو مزيد من التأزم... والانفجار.

تنامي قوة الجماعات الإسلامية

مؤيدون وأعضاء في جماعة «أنصار الشريعة» في بنغازي عام 2012 (غيتي)

شهدت ليبيا، في السنوات التي تلت قلب نظام القذافي، تنامياً كبيراً في نشاط الجماعات الإسلامية التي كانت مقموعة ومحظورة على مدى عقود. فإلى جانب جماعة «الإخوان» التي أسست حزباً سياسياً (العدالة والبناء)، ظهر على الساحة تنظيم «أنصار الشريعة» الذي ضم متشددين أنشأوا لاحقاً فروعاً لتنظيم «القاعدة»، ومن بعده وريثه ومنافسه تنظيم «داعش». وقد انعكس خلاف «القاعدة» و«داعش» في سوريا على علاقة أنصارهما في ليبيا.
سيطر أنصار «القاعدة» على مدينة درنة التي عُرفت سابقاً بسيل المتطوعين الانتحاريين الذين شكلوا مدداً لا ينقطع لزعيم فرع «القاعدة» في العراق، أبي مصعب الزرقاوي، في الأعوام 2004 و2005 و2006. في المقابل، سيطر أنصار «داعش» على أجزاء من مدينة بنغازي، عاصمة شرق البلاد، قبل أن يقيموا «إمارة» في مدينة سرت، مسقط رأس القذافي. نفّذ «داعش» بعضاً من أبشع جرائمه خلال سيطرته على سرت (بما في ذلك قطع رؤوس أقباط مصريين وإثيوبيين كانوا يحاولون الهجرة إلى أوروبا)، لكنه لم يكن لوحده. فقد حصلت جرائم أخرى عديدة يُشتبه في أن متشددين قاموا بها - سواء قتل السفير الأميركي كريس ستيفنز في بنغازي عام 2012، أو اغتيال عشرات الضباط والعسكريين الذين كانوا يُقتلون واحداً تلو الآخر بدم بارد في شرق البلاد تحديداً.
ظهور حفتر

أسهمت تلك الاغتيالات في تنامي التأييد للمشير خليفة حفتر في محاولته إعادة تجميع ما تبقى من الجيش الليبي السابق الذي تفكك بعد سقوط نظام القذافي. كان الإسلاميون منذ البداية معارضين لأي دور لحفتر في مستقبل ليبيا. فهو ينتمي، في نظرهم، إلى حقبة القذافي. كان ضابطاً سابقاً في جيشه، وشارك في الحرب مع تشاد في ثمانينات القرن الماضي، وأسر، ثم انضم إلى المعارضة (جبهة الإنقاذ)، لكنه اختلف مع قادتها، وظل يعيش بالمنفى في الولايات المتحدة حتى اندلاع الثورة ضد القذافي فحزم حقائبه وعاد إلى ليبيا، حيث شارك في القتال ضد قوات الزعيم الليبي.
لكن دوره في تلك الحرب ظل هامشياً، وزاده تهميشاً تكتل الإسلاميين ضده في حقبة ما بعد العقيد. لكن كثيراً من الذين اعتبروا أنفسهم جزءاً من النظام السابق فضّلوا تجاهل دوره في الحرب لإطاحة العقيد عام 2011 والانخراط في جهده لإعادة تجميع القوات المسلحة باعتبارها جزءاً أساسياً من أي محاولة حقيقية هدفها وقف انحدار البلاد نحو مزيد من الفوضى والتفكك وسقوطها في أيدي الجماعات المتشددة.
لكن ذلك لم يعنِ بالطبع التحاق جميع أنصار النظام السابق بحفتر. فشريحة لا بأس بها من هؤلاء يبدو أنها ما زالت تراهن على دور ما لنجل القذافي، سيف الإسلام، الذي أفرج عنه في عام 2017 بعد احتجازه منذ عام 2011 في مدينة الزنتان (الجبل الغربي). ولم يظهر سيف علناً منذ إعلان الإفراج عنه، ما فتح باب التكهنات حول مكان وجوده (هو ما زال مطلوباً من المحكمة الجنائية الدولية لدوره في محاولة قمع الثورة ضد والده). وترددت معلومات أنه انتقل من الزنتان إلى جنوب ليبيا حيث ما زال هناك مؤيدون له، قبل أن ينتقل إلى مدينة بني وليد جنوب شرقي طرابلس. ومعروف أن هذه المدينة، وقبيلتها الورفلة، وقفت إلى جانب سيف الإسلام وحمته بعد فراره من طرابلس في صيف عام 2011. وفي هذه المدينة فقد سيف أصابع يده وأصيب بجروح شديدة بقصف لطائرات «الناتو»، ما اضطره إلى الفرار جنوباً حيث أسره ثوار قرب مدينة أوباري ونقلوه إلى الزنتان. وليس واضحاً اليوم كيف يمكن أن تكون العلاقة بين حفتر وسيف إذا كان عليهما التعايش في المنطقة ذاتها.

عمليتا «الكرامة» و«فجر ليبيا»

قوات «فجر ليبيا» عام 2014 (غيتي)

أطلق حفتر محاولته الأولى للإمساك بزمام الأمور في ليبيا في بدايات عام 2014، إذ أعلن في فبراير (شباط) حل المؤتمر الوطني العام الذي أراد التمديد لنفسه بعد انتهاء ولايته، ثم أطلق في مايو (أيار) حملة عسكرية ضد الجماعات الإسلامية (أنصار الشريعة) التي سيطرت على بنغازي. أطلق حفتر على هجومه «عملية الكرامة».
في المقابل وفي الوقت ذاته، أطلقت جماعات إسلامية، بعضها من طرابلس نفسها وبعضها من مدينة مصراتة، عملية «فجر ليبيا» لطرد جماعات منافسة لها من العاصمة ومحيطها، لا سيما الجماعات التي جاءت من الجبل الغربي (الزنتان تحديداً). ونجحت قوات «فجر ليبيا» في الواقع في طرد مقاتلي الزنتان من مواقعهم جنوب طرابلس، رغم أن ذلك أدى إلى تدمير مطار طرابلس الدولي بالطائرات الموجودة فيه.

اتفاق الصخيرات

في محاولة لإنقاذ ليبيا من الغرق في مزيد من الفوضى، نجحت الأمم المتحدة في جمع شريحة واسعة من الفرقاء الليبيين في الصخيرات (المغرب) حيث تم توقيع اتفاق، في ديسمبر (كانون الأول) 2015، نتج عنه قيام حكومة وفاق وطني برئاسة فائز السراج (في مارس/ آذار 2016). انتزعت هذه الحكومة تمثيل ليبيا أمام الأمم المتحدة، لكن معارضيها ظلوا يشككون في شرعيتها بحكم أنها لم تنل ثقة مجلس النواب الليبي الذي اتخذ من طبرق مقراً له في شرق البلاد بعد سيطرة الجماعات التي يهيمن عليها الإسلاميون على طرابلس (في أعقاب «فجر ليبيا»).
وهكذا اتسع الشرخ السياسي في ليبيا في أعقاب اتفاق الصخيرات عوض أن يتم جسره. سيطرت الجماعات المؤيدة للإسلاميين إلى حد كبير على مقاليد الأمور في طرابلس، ما أعطى الانطباع بأن السراج خاضع لها. في المقابل، نجح معارضو الإسلاميين بقيادة حفتر، وبتأييد من مجلس النواب، في فرض نفوذهم في شرق البلاد، ما جلب لهم دعماً من أطراف عربية ترى في الإسلاميين مصدراً للفوضى في العالم العربي.
القضاء على الجماعات المتشددة

سرت مدمرة بعد سيطرة القوات الموالية لـ«الوفاق» عليها عام 2016 (غيتي)

شكل ظهور الجماعات المتشددة في ليبيا بعد إسقاط نظام القذافي مصدر قلق للدول الغربية، خصوصاً في ضوء إقامة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» موطئ قدم لهما على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، الأمر الذي يسهّل لهما تنفيذ عمليات إرهابية على الأراضي الأوروبية.
تُرجم هذا القلق على صعيدين.
تمثل الأول في دعم الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى عملية ضخمة لطرد «داعش» من «إمارة سرت». راهنت هذه الدول في تنفيذ هذه العملية على قوات تابعة لحكومة «الوفاق» جاءت تحديداً من مدينة مصراتة، غرب سرت. وبعد قصف جوي عنيف استمر لشهور، نجحت قوات مصراتة (عملية البنيان المرصوص)، في ديسمبر (كانون الأول) 2016، في دخول سرت التي تحوّلت إلى أنقاض بعدما قاتل عناصر «داعش» فيها حتى الموت. قُتل مئات المقاتلين من شبان مصراتة في معارك سرت. لكن هذا الدم الباهظ رسّخ موقع المدينة في تركيبة السلطة الجديدة في طرابلس، وعزز، في المقابل، الشكاوى من دورها المتنامي في الهيمنة على مقاليد الأمور في البلاد منذ سقوط القذافي. ومعروف أن هذه المدينة عرضت على عامة الناس جثمان القذافي وابنه المعتصم بعد قتلهما عام 2011 ثم دفنتهما في مكان لا يعرفه أحد.
ورغم مغادرة القوات الغربية التي ساندت مصراتة ونسقت القصف الجوي ضد «داعش» في سرت، فإن إيطاليا أبقت على قوة عسكرية لتأمين حماية مستشفى أقامته في مصراتة. وفُسّرت تلك الخطوة من قبل معارضيها بأنها تعني دعماً إيطالياً لمصراتة في مواجهة خصومها.
في المقابل، برز المشير حفتر بدوره نتيجة قتاله الجماعات المتشددة في بنغازي ومناطق واسعة من شرق البلاد (ولاحقاً غربها). فرغم انطلاقه بعدد محدود من الجنود الذين كانوا محاصرين لوقت طويل ويتعرضون لهجوم تلو الآخر من الإسلاميين على مطار بنينا قرب بنغازي، فإن حفتر تمكن، ببطء، من استعادة زمام المبادرة ونجح في نهاية المطاف بطرد أنصار «داعش» و«القاعدة» من بنغازي، ثم من درنة، وبقية مدن شرق البلاد.
تم هذا الإنجاز بعد كثير من الدماء والتضحيات، ونتج عنه كم هائل من الدمار حوّل أجزاء من بنغازي إلى أنقاض. في الواقع، كان حفتر يحظى في تلك الفترة بدعم سري من فرنسا التي أرسلت جنوداً من قواتها الخاصة لمساندته. لكن سرعان ما انفضح الدور الفرنسي عندما سقطت مروحية فرنسية قرب مطار بنينا (في يوليو 2016) وقُتل فيها جنديان، فاضطرت فرنسا إلى الاعتراف بوجود لها في ليبيا. وعندما وسع حفتر هجومه ليشمل مشارف العاصمة الليبية في بدايات عام 2019، انكشف مجدداً أن فرنسا تلعب، على الأرجح، دوراً سرياً في دعمه، إذ عثرت القوات الموالية لـ«الوفاق» عندما استعادت السيطرة على مدينة غريان على صواريخ متطورة كانت في حوزة قوات فرنسية.
وليس واضحاً إذا كان حفتر قد شعر بأن الفرنسيين لا يقدمون له الدعم الكافي لـ«طرد الميليشيات» من طرابلس، بحسب وصفه. إلا أن الظاهر أنه لجأ إلى مصدر دعم آخر تمثّل بروسيا التي زارها المشير حفتر أكثر من مرة. ورغم النفي الروسي الرسمي لتقديم دعم لقواته، فإن الواضح - والموثّق وفق تقارير الأمم المتحدة - أنه يحظى بالفعل بدعم من «مرتزقة» جنّدتهم مجموعة «فاغنر» الروسية. يُقدّر عدد هؤلاء بنحو 1500 عنصر، وقد ساندوا، كما يبدو، تقدم قوات حفتر حتى أبواب طرابلس. لكن الإعلام الرسمي للجيش الوطني الذي يقوده حفتر، يصر على نفي وجود «مرتزقة روس».

التدخل التركي

التدخل التركي في ليبيا أوقف زحف قوات المشير حفتر على طرابلس (رويترز)

كانت هيمنة الجماعات المرتبطة بـ«الإخوان» على حكومة السراج مصدراً أساسياً للخلاف مع حفتر. ومع تقدم قوات الأخير نحو طرابلس العام الماضي ظهر إلى العلن مدى اعتماد حكومة السراج على دعم «الإخوان». إذ وقّع السراج، في نهايات 2019، اتفاقات أمنية وعسكرية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الداعم الرئيسي لـ«الإخوان» في العالم العربي. أرسل الرئيس التركي كميات ضخمة من السلاح إلى طرابلس ومصراتة ومدن أخرى في غرب البلاد، وتم ذلك علناً في بواخر حملت مئات العربات العسكرية وبجسر جوي نقل آلافاً من «المرتزقة السوريين» الذين جندتهم تركيا من الفصائل التابعة لها في سوريا (حكومة «الوفاق» هي من يدفع مرتباتهم من خزينة الدولة الليبية). وأتبع إردوغان كل ذلك بإرسال بعض من أحدث تقنيات جيشه العضو الأساسي في حلف «الناتو»: طائرات درون مسيّرة (بيرقدار)، وبوارج حربية، وأجهزة تشويش متطورة، وربما أيضاً منظومات صاروخية للدفاع الجوي (هوك) لحماية غرف عمليات القوات التركية في غرب ليبيا. أسهم هذا الدعم التركي الضخم في قلب موازين المعركة ضد حفتر. فقد نجحت الطائرات التركية في تدمير منظومات الدفاع الجوي (بانتسير) التي كانت تحمي قوات حفتر والقوات التي تقاتل إلى جانبه («مرتزقة فاغنر»). كما تمكنت الطائرات التركية من خنق قوات حفتر اقتصادياً. فقد كانت هذه القوات بحاجة إلى إمدادات، وبما أن ليبيا بلد صحراوي فإن صهاريج النفط وشاحنات نقل الغذاء كان عليها أن تقطع مسافات طويلة وهي مكشوفة للطيران التركي قبل الوصول إلى وجهتها جنوب طرابلس.

انسحاب قوات «فاغنر»

أرغمت الضربات التركية «مرتزقة فاغنر» على الانسحاب من معركة طرابلس، بحسب ما أكدت حكومة «الوفاق» التي قالت إن هذه القوات شوهدت وهي تنسحب بآلياتها باتجاه مدينة بني وليد ومنها إلى وجهة غير معروفة (جواً وبراً). وبما أن المنسحبين لم يتعرضوا لقصف تركي، فقد سرت تكهنات بأن خطوتهم تم التوافق عليها سراً بين الأتراك والروس. لكن تطوراً مفاجئاً أعاد خلط الأوراق. ففي وقت كانت فيه قوات «فاغنر» تنسحب من مدينة بني وليد، بحسب ما قالت حكومة «الوفاق»، وصل سرب من الطائرات الروسية الحديثة (ميغ 29 وسوخوي 24) إلى شرق ليبيا. حطت في طبرق في البداية، ثم انتقلت إلى قاعدة الجفرة بوسط البلاد. وبحسب القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، قاد الطائرات طيارون من القوات المسلحة الروسية. طاروا من روسيا مباشرة. توقفوا في سوريا، حيث أعيد طلاء طائراتهم لتمويه مصدرها، ومنها إلى ليبيا لمساندة «المرتزقة الروس» وقوات حفتر، بحسب ما أكد الأميركيون. لكن لم يُسجل حتى اليوم أي دور لهذه الطائرات في المعارك الجارية جنوب طرابلس حيث تعرضت قوات «الجيش الوطني الليبي» لنكسات متتالية هددت بخسارة كل مكاسبها في غرب ليبيا. وليس واضحاً تماماً إذا كان إرسال هذه الطائرات هدفه توجيه رسالة لتركيا وحلفائها لوقف تقدمهم نحو الشرق والجنوب، أم لضمان احتفاظ قوات حفتر بموطئ قدم جنوب طرابلس. ويرجح أن تتوضح هذه الصورة وفق التطورات التي ستحصل في الأيام المقبلة.
وإذا نجح الأتراك فعلاً في طرد قوات حفتر من غرب البلاد، فإن خطوتهم المقبلة قد تكون جنوب ليبيا أو وسطها. لكن المنطقة عبارة عن صحراء مترامية الأطراف من الصعب الحفاظ على السيطرة عليها في ظل غياب الدعم الجوي.

الموقف الأميركي

أميركا اتهمت روسيا بنشر طائرات حربية في مطار الجفرة بليبيا (أفريكوم)

كان واضحاً أن الأميركيين، في مواقفهم الأخيرة، أخذوا صف حكومة السراج في نزاعها مع حفتر. ولعل بيان «أفريكوم» الأخير في خصوص الطائرات الروسية كان الأكثر وضوحاً في المواقف الأميركية. إذ اعتبر أن إنشاء الروس قاعدة لهم في ليبيا سيشكل خطراً على أمن أوروبا، علماً بأن للروس قاعدة أخرى على سواحل المتوسط في طرطوس السورية. وبهذا يتضح أن الأميركيين يعتبرون الوجود الروسي في ليبيا أكثر خطراً، استراتيجياً، من الوجود التركي (العثماني بحسب إردوغان). واعتمد الأميركيون نفس هذه السياسة في سوريا، إذ وقفوا إلى جانب الأتراك لمنع روسيا وقوات النظام السوري من السيطرة على إدلب، رغم أنها معقل للإسلاميين بما في ذلك الجماعات المرتبطة بـ«القاعدة». وإضافة إلى هذه الجماعات، تنشط في إدلب جماعات عدة تنتمي إلى تيارات «إخوانية» وتعمل تحت إشراف تركي مباشر.
ويقول منتقدون للدور التركي إن سماح الأميركيين لإردوغان بإنشاء موطئ قدم له على سواحل ليبيا يمكن أن يشكل تهديداً لأوروبا ربما لا يصل إلى مستوى التهديد العسكري الروسي، لكنه يمكن أن يوازيه من نواحٍ أخرى. ويستحضر هؤلاء مواقف إردوغان الأخيرة، خلال عملية إدلب، عندما أعلن فتح أبواب بلاده أمام ملايين المهاجرين للعبور نحو أوروبا، وهو ما يمكن أن يكرره الرئيس التركي مع الأوروبيين عندما يريد أن يبتزهم فيهددهم بفتح سواحل ليبيا أمام المهاجرين الآتين من دول أفريقيا ما وراء الصحراء. لكن هذا الخطر لا يبدو أنه يُقلق الأميركيين - أو {الدولة العميقة} التي تخشى {الدب الروسي} في وزارتي الخارجية والدفاع - بقدر ما يقلقهم وجود «فاغنر» والروس في ليبيا.

وماذا عن دور دول الإقليم؟

كانت مصر من أوائل الداعمين لحفتر، إذ إن حدودها الغربية كانت مصدر قلق لها على مدى سنوات، حيث كان أعضاء في جماعات مسلحة يتسللون من ليبيا لتنفيذ هجمات وتهريب السلاح ثم يعودون إليها. وتأكدت مخاوف المصريين فعلاً عندما نجحت قوات حفتر في اعتقال أحد أبرز المطلوبين المصريين الضابط السابق المتطرف هشام عشماوي الذي كان يختبئ في مدينة درنة في أكتوبر 2018. سُلّم عشماوي إلى مصر حيث أُعدم. ولا تكشف مصر نوعية الدعم الذي تقدمه للجيش الوطني الليبي، لكن حكومة «الوفاق» دأبت على اتهامها، مع الإمارات والأردن على وجه الخصوص، بمساعدة حفتر.
وتتركز مزاعم «الوفاق» على قاعدتي الجفرة والخادم، حيث توجد طائرات مسيرة صينية الصنع (لونغ وينغ) يشغلها خبراء أجانب. لكن ليس كل ما تقول حكومة «الوفاق» يتبين أنه صحيح في هذا المجال، فقد روّجت وسائل إعلام مرتبطة بها لوجود قوات مصرية في قاعدة الوطية (عقبة بن نافع) بغرب ليبيا، لكن عندما سقطت القاعدة في أيدي {الوفاق} قبل أسابيع لم يظهر أي وجود لقوات مصرية فيها، بل تبيّن أن المدافعين عنها كانوا من أبناء المدن القريبة منها وتحديداً في الجبل الغربي. ولا تنفي الإمارات، من جهتها، معارضتها للميليشيات في ليبيا وتقول إنها تدعم الحل السياسي. وتولى الأردن، من جهته، تدريب قوات ليبية في إطار عملية بناء مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد القذافي. أما تونس والجزائر فتقولان إنهما لا تتدخلان في الشؤون الليبية، لكن رئيس البرلمان التونسي زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي أثار جدلاً في بلاده بتهنئته «الوفاق» على استعادة قاعدة الوطية. وتقول الجزائر، من جهتها، إنها مستعدة لاستضافة حوار ليبي - ليبي لإنهاء النزاع في البلاد.



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.