ليبيا... «دليل للمبتدئين»

خلفيات الصراع وأطرافه الأساسية وموازين القوى

طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
TT

ليبيا... «دليل للمبتدئين»

طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)

في زمن «كورونا» ورغم هيمنة تداعيات هذا الوباء على عناوين الأخبار منذ شهور، ظلّت ليبيا، ولأسباب مختلفة، محافظة على موطئ قدم لها في مقدم تطورات العالم العربي، والآن، كما يبدو، في مقدم اهتمامات الدول الكبرى... وحروبها الخفية.
فماذا يحصل في ليبيا حقيقة؟ وكيف وصلت الأمور إلى هنا؟
يسلّط هذا التقرير - وهو بمثابة «دليل للمبتدئين» - الضوء على بعض خلفيات الصراع في ليبيا، وعلى أطرافه الأساسية، وموازين القوى فيه، وأيضاً على التحالفات الإقليمية والدولية، بما في ذلك «الحرب الباردة» الدائرة حالياً على الأرض الليبية بين الأميركيين والروس.

كيف وصلت الأمور إلى هنا؟
في فبراير (شباط) من عام 2011، وفي خضم ما عُرف آنذاك بـ«الربيع العربي» الذي أطاح لتوّه بنظامي الرئيسين الراحلين زين العابدين بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر، اندلعت «انتفاضة» ضد حكم العقيد الراحل معمر القذافي الذي رد بتهديد الثائرين ضد نظامه بملاحقتهم «زنقة زنقة» حتى القضاء عليهم. جمع القذافي جيشاً جراراً ضم متطوعين من أبرز مدن غرب البلاد وقبائلها التي ظلّت على ولائها لنظامه، وعندما وصلت هذه القوات إلى أبواب مدينة بنغازي، مهد الثورة ضده في شرق البلاد، تحركت دول غربية، على رأسها فرنسا، ونجحت في إصدار قرار من مجلس الأمن (القرار 1973) يسمح بإجراءات لـ«حماية المدنيين». تبيّن لاحقاً أن القرار كان في الواقع جزءاً من خديعة تعرضت لها روسيا، بحسب ما يقول مسؤولوها. إذ سرعان ما أصدرت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة موقفاً مشتركاً فسّرت فيه حماية المدنيين بأنه يعني تدخلاً عسكرياً لإطاحة النظام. وهكذا كان. لم تكتفِ الطائرات الفرنسية بضرب الرتل المتقدم نحو بنغازي وتدميره، بل شارك حلف «الناتو» بأكمله في عملية تدمير القوات الحكومية الليبية أينما وجدت، والسماح لجماعات الثوار بإسقاط القذافي وقتله في مسقط رأسه، مدينة سرت، في أكتوبر (تشرين الأول) 2011.
ما بعد القذافي

اقتراع 2012: أول برلمان لليبيا بعد سقوط نظام القذافي (غيتي)

خطت ليبيا خطوة مبشّرة نحو الانتقال إلى نظام ديمقراطي يخلف «جماهيرية العقيد»، فنظّمت في يوليو (تموز) 2012 انتخابات تعددية لاختيار برلمان انتقالي (المؤتمر الوطني). حقق «تحالف القوى الوطنية»، بزعامة الراحل محمود جبريل، تقدماً واضحاً في هذه الانتخابات، لكن تكتلات عدة يهيمن عليها الإسلاميون تدخلت لحرمانه من نيل منصب رئيس الوزراء. قيل وقتها الكثير في خصوص خلفيات استهداف جبريل، وربطها كثيرون بموقف قطر منه كونه اعترض، مع آخرين، على ما اعتبره تدخلاً واضحاً منها في فرض شخصيات بعينها لتولي مناصب أساسية في الدولة الليبية في فترة ما بعد القذافي.
في عام 2014، عادت ليبيا إلى صناديق الاقتراع واختارت برلماناً جديداً (مجلس النواب). ورغم أن جميع المرشحين تقدموا بوصفهم مستقلين، فإن نتيجة الاقتراع مثّلت هزيمة مدوية للإسلاميين الذين خسروا في مواجهة تحالف من الليبرالييين والوطنيين. لكن الاقتراع تمثّل في المقابل بمشاركة متدنية جداً من المواطنين (18 في المائة فقط)، ورفض الإسلاميون القبول بنتيجته. فقد كانت الأوضاع في البلاد تسير نحو مزيد من التأزم... والانفجار.

تنامي قوة الجماعات الإسلامية

مؤيدون وأعضاء في جماعة «أنصار الشريعة» في بنغازي عام 2012 (غيتي)

شهدت ليبيا، في السنوات التي تلت قلب نظام القذافي، تنامياً كبيراً في نشاط الجماعات الإسلامية التي كانت مقموعة ومحظورة على مدى عقود. فإلى جانب جماعة «الإخوان» التي أسست حزباً سياسياً (العدالة والبناء)، ظهر على الساحة تنظيم «أنصار الشريعة» الذي ضم متشددين أنشأوا لاحقاً فروعاً لتنظيم «القاعدة»، ومن بعده وريثه ومنافسه تنظيم «داعش». وقد انعكس خلاف «القاعدة» و«داعش» في سوريا على علاقة أنصارهما في ليبيا.
سيطر أنصار «القاعدة» على مدينة درنة التي عُرفت سابقاً بسيل المتطوعين الانتحاريين الذين شكلوا مدداً لا ينقطع لزعيم فرع «القاعدة» في العراق، أبي مصعب الزرقاوي، في الأعوام 2004 و2005 و2006. في المقابل، سيطر أنصار «داعش» على أجزاء من مدينة بنغازي، عاصمة شرق البلاد، قبل أن يقيموا «إمارة» في مدينة سرت، مسقط رأس القذافي. نفّذ «داعش» بعضاً من أبشع جرائمه خلال سيطرته على سرت (بما في ذلك قطع رؤوس أقباط مصريين وإثيوبيين كانوا يحاولون الهجرة إلى أوروبا)، لكنه لم يكن لوحده. فقد حصلت جرائم أخرى عديدة يُشتبه في أن متشددين قاموا بها - سواء قتل السفير الأميركي كريس ستيفنز في بنغازي عام 2012، أو اغتيال عشرات الضباط والعسكريين الذين كانوا يُقتلون واحداً تلو الآخر بدم بارد في شرق البلاد تحديداً.
ظهور حفتر

أسهمت تلك الاغتيالات في تنامي التأييد للمشير خليفة حفتر في محاولته إعادة تجميع ما تبقى من الجيش الليبي السابق الذي تفكك بعد سقوط نظام القذافي. كان الإسلاميون منذ البداية معارضين لأي دور لحفتر في مستقبل ليبيا. فهو ينتمي، في نظرهم، إلى حقبة القذافي. كان ضابطاً سابقاً في جيشه، وشارك في الحرب مع تشاد في ثمانينات القرن الماضي، وأسر، ثم انضم إلى المعارضة (جبهة الإنقاذ)، لكنه اختلف مع قادتها، وظل يعيش بالمنفى في الولايات المتحدة حتى اندلاع الثورة ضد القذافي فحزم حقائبه وعاد إلى ليبيا، حيث شارك في القتال ضد قوات الزعيم الليبي.
لكن دوره في تلك الحرب ظل هامشياً، وزاده تهميشاً تكتل الإسلاميين ضده في حقبة ما بعد العقيد. لكن كثيراً من الذين اعتبروا أنفسهم جزءاً من النظام السابق فضّلوا تجاهل دوره في الحرب لإطاحة العقيد عام 2011 والانخراط في جهده لإعادة تجميع القوات المسلحة باعتبارها جزءاً أساسياً من أي محاولة حقيقية هدفها وقف انحدار البلاد نحو مزيد من الفوضى والتفكك وسقوطها في أيدي الجماعات المتشددة.
لكن ذلك لم يعنِ بالطبع التحاق جميع أنصار النظام السابق بحفتر. فشريحة لا بأس بها من هؤلاء يبدو أنها ما زالت تراهن على دور ما لنجل القذافي، سيف الإسلام، الذي أفرج عنه في عام 2017 بعد احتجازه منذ عام 2011 في مدينة الزنتان (الجبل الغربي). ولم يظهر سيف علناً منذ إعلان الإفراج عنه، ما فتح باب التكهنات حول مكان وجوده (هو ما زال مطلوباً من المحكمة الجنائية الدولية لدوره في محاولة قمع الثورة ضد والده). وترددت معلومات أنه انتقل من الزنتان إلى جنوب ليبيا حيث ما زال هناك مؤيدون له، قبل أن ينتقل إلى مدينة بني وليد جنوب شرقي طرابلس. ومعروف أن هذه المدينة، وقبيلتها الورفلة، وقفت إلى جانب سيف الإسلام وحمته بعد فراره من طرابلس في صيف عام 2011. وفي هذه المدينة فقد سيف أصابع يده وأصيب بجروح شديدة بقصف لطائرات «الناتو»، ما اضطره إلى الفرار جنوباً حيث أسره ثوار قرب مدينة أوباري ونقلوه إلى الزنتان. وليس واضحاً اليوم كيف يمكن أن تكون العلاقة بين حفتر وسيف إذا كان عليهما التعايش في المنطقة ذاتها.

عمليتا «الكرامة» و«فجر ليبيا»

قوات «فجر ليبيا» عام 2014 (غيتي)

أطلق حفتر محاولته الأولى للإمساك بزمام الأمور في ليبيا في بدايات عام 2014، إذ أعلن في فبراير (شباط) حل المؤتمر الوطني العام الذي أراد التمديد لنفسه بعد انتهاء ولايته، ثم أطلق في مايو (أيار) حملة عسكرية ضد الجماعات الإسلامية (أنصار الشريعة) التي سيطرت على بنغازي. أطلق حفتر على هجومه «عملية الكرامة».
في المقابل وفي الوقت ذاته، أطلقت جماعات إسلامية، بعضها من طرابلس نفسها وبعضها من مدينة مصراتة، عملية «فجر ليبيا» لطرد جماعات منافسة لها من العاصمة ومحيطها، لا سيما الجماعات التي جاءت من الجبل الغربي (الزنتان تحديداً). ونجحت قوات «فجر ليبيا» في الواقع في طرد مقاتلي الزنتان من مواقعهم جنوب طرابلس، رغم أن ذلك أدى إلى تدمير مطار طرابلس الدولي بالطائرات الموجودة فيه.

اتفاق الصخيرات

في محاولة لإنقاذ ليبيا من الغرق في مزيد من الفوضى، نجحت الأمم المتحدة في جمع شريحة واسعة من الفرقاء الليبيين في الصخيرات (المغرب) حيث تم توقيع اتفاق، في ديسمبر (كانون الأول) 2015، نتج عنه قيام حكومة وفاق وطني برئاسة فائز السراج (في مارس/ آذار 2016). انتزعت هذه الحكومة تمثيل ليبيا أمام الأمم المتحدة، لكن معارضيها ظلوا يشككون في شرعيتها بحكم أنها لم تنل ثقة مجلس النواب الليبي الذي اتخذ من طبرق مقراً له في شرق البلاد بعد سيطرة الجماعات التي يهيمن عليها الإسلاميون على طرابلس (في أعقاب «فجر ليبيا»).
وهكذا اتسع الشرخ السياسي في ليبيا في أعقاب اتفاق الصخيرات عوض أن يتم جسره. سيطرت الجماعات المؤيدة للإسلاميين إلى حد كبير على مقاليد الأمور في طرابلس، ما أعطى الانطباع بأن السراج خاضع لها. في المقابل، نجح معارضو الإسلاميين بقيادة حفتر، وبتأييد من مجلس النواب، في فرض نفوذهم في شرق البلاد، ما جلب لهم دعماً من أطراف عربية ترى في الإسلاميين مصدراً للفوضى في العالم العربي.
القضاء على الجماعات المتشددة

سرت مدمرة بعد سيطرة القوات الموالية لـ«الوفاق» عليها عام 2016 (غيتي)

شكل ظهور الجماعات المتشددة في ليبيا بعد إسقاط نظام القذافي مصدر قلق للدول الغربية، خصوصاً في ضوء إقامة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» موطئ قدم لهما على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، الأمر الذي يسهّل لهما تنفيذ عمليات إرهابية على الأراضي الأوروبية.
تُرجم هذا القلق على صعيدين.
تمثل الأول في دعم الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى عملية ضخمة لطرد «داعش» من «إمارة سرت». راهنت هذه الدول في تنفيذ هذه العملية على قوات تابعة لحكومة «الوفاق» جاءت تحديداً من مدينة مصراتة، غرب سرت. وبعد قصف جوي عنيف استمر لشهور، نجحت قوات مصراتة (عملية البنيان المرصوص)، في ديسمبر (كانون الأول) 2016، في دخول سرت التي تحوّلت إلى أنقاض بعدما قاتل عناصر «داعش» فيها حتى الموت. قُتل مئات المقاتلين من شبان مصراتة في معارك سرت. لكن هذا الدم الباهظ رسّخ موقع المدينة في تركيبة السلطة الجديدة في طرابلس، وعزز، في المقابل، الشكاوى من دورها المتنامي في الهيمنة على مقاليد الأمور في البلاد منذ سقوط القذافي. ومعروف أن هذه المدينة عرضت على عامة الناس جثمان القذافي وابنه المعتصم بعد قتلهما عام 2011 ثم دفنتهما في مكان لا يعرفه أحد.
ورغم مغادرة القوات الغربية التي ساندت مصراتة ونسقت القصف الجوي ضد «داعش» في سرت، فإن إيطاليا أبقت على قوة عسكرية لتأمين حماية مستشفى أقامته في مصراتة. وفُسّرت تلك الخطوة من قبل معارضيها بأنها تعني دعماً إيطالياً لمصراتة في مواجهة خصومها.
في المقابل، برز المشير حفتر بدوره نتيجة قتاله الجماعات المتشددة في بنغازي ومناطق واسعة من شرق البلاد (ولاحقاً غربها). فرغم انطلاقه بعدد محدود من الجنود الذين كانوا محاصرين لوقت طويل ويتعرضون لهجوم تلو الآخر من الإسلاميين على مطار بنينا قرب بنغازي، فإن حفتر تمكن، ببطء، من استعادة زمام المبادرة ونجح في نهاية المطاف بطرد أنصار «داعش» و«القاعدة» من بنغازي، ثم من درنة، وبقية مدن شرق البلاد.
تم هذا الإنجاز بعد كثير من الدماء والتضحيات، ونتج عنه كم هائل من الدمار حوّل أجزاء من بنغازي إلى أنقاض. في الواقع، كان حفتر يحظى في تلك الفترة بدعم سري من فرنسا التي أرسلت جنوداً من قواتها الخاصة لمساندته. لكن سرعان ما انفضح الدور الفرنسي عندما سقطت مروحية فرنسية قرب مطار بنينا (في يوليو 2016) وقُتل فيها جنديان، فاضطرت فرنسا إلى الاعتراف بوجود لها في ليبيا. وعندما وسع حفتر هجومه ليشمل مشارف العاصمة الليبية في بدايات عام 2019، انكشف مجدداً أن فرنسا تلعب، على الأرجح، دوراً سرياً في دعمه، إذ عثرت القوات الموالية لـ«الوفاق» عندما استعادت السيطرة على مدينة غريان على صواريخ متطورة كانت في حوزة قوات فرنسية.
وليس واضحاً إذا كان حفتر قد شعر بأن الفرنسيين لا يقدمون له الدعم الكافي لـ«طرد الميليشيات» من طرابلس، بحسب وصفه. إلا أن الظاهر أنه لجأ إلى مصدر دعم آخر تمثّل بروسيا التي زارها المشير حفتر أكثر من مرة. ورغم النفي الروسي الرسمي لتقديم دعم لقواته، فإن الواضح - والموثّق وفق تقارير الأمم المتحدة - أنه يحظى بالفعل بدعم من «مرتزقة» جنّدتهم مجموعة «فاغنر» الروسية. يُقدّر عدد هؤلاء بنحو 1500 عنصر، وقد ساندوا، كما يبدو، تقدم قوات حفتر حتى أبواب طرابلس. لكن الإعلام الرسمي للجيش الوطني الذي يقوده حفتر، يصر على نفي وجود «مرتزقة روس».

التدخل التركي

التدخل التركي في ليبيا أوقف زحف قوات المشير حفتر على طرابلس (رويترز)

كانت هيمنة الجماعات المرتبطة بـ«الإخوان» على حكومة السراج مصدراً أساسياً للخلاف مع حفتر. ومع تقدم قوات الأخير نحو طرابلس العام الماضي ظهر إلى العلن مدى اعتماد حكومة السراج على دعم «الإخوان». إذ وقّع السراج، في نهايات 2019، اتفاقات أمنية وعسكرية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الداعم الرئيسي لـ«الإخوان» في العالم العربي. أرسل الرئيس التركي كميات ضخمة من السلاح إلى طرابلس ومصراتة ومدن أخرى في غرب البلاد، وتم ذلك علناً في بواخر حملت مئات العربات العسكرية وبجسر جوي نقل آلافاً من «المرتزقة السوريين» الذين جندتهم تركيا من الفصائل التابعة لها في سوريا (حكومة «الوفاق» هي من يدفع مرتباتهم من خزينة الدولة الليبية). وأتبع إردوغان كل ذلك بإرسال بعض من أحدث تقنيات جيشه العضو الأساسي في حلف «الناتو»: طائرات درون مسيّرة (بيرقدار)، وبوارج حربية، وأجهزة تشويش متطورة، وربما أيضاً منظومات صاروخية للدفاع الجوي (هوك) لحماية غرف عمليات القوات التركية في غرب ليبيا. أسهم هذا الدعم التركي الضخم في قلب موازين المعركة ضد حفتر. فقد نجحت الطائرات التركية في تدمير منظومات الدفاع الجوي (بانتسير) التي كانت تحمي قوات حفتر والقوات التي تقاتل إلى جانبه («مرتزقة فاغنر»). كما تمكنت الطائرات التركية من خنق قوات حفتر اقتصادياً. فقد كانت هذه القوات بحاجة إلى إمدادات، وبما أن ليبيا بلد صحراوي فإن صهاريج النفط وشاحنات نقل الغذاء كان عليها أن تقطع مسافات طويلة وهي مكشوفة للطيران التركي قبل الوصول إلى وجهتها جنوب طرابلس.

انسحاب قوات «فاغنر»

أرغمت الضربات التركية «مرتزقة فاغنر» على الانسحاب من معركة طرابلس، بحسب ما أكدت حكومة «الوفاق» التي قالت إن هذه القوات شوهدت وهي تنسحب بآلياتها باتجاه مدينة بني وليد ومنها إلى وجهة غير معروفة (جواً وبراً). وبما أن المنسحبين لم يتعرضوا لقصف تركي، فقد سرت تكهنات بأن خطوتهم تم التوافق عليها سراً بين الأتراك والروس. لكن تطوراً مفاجئاً أعاد خلط الأوراق. ففي وقت كانت فيه قوات «فاغنر» تنسحب من مدينة بني وليد، بحسب ما قالت حكومة «الوفاق»، وصل سرب من الطائرات الروسية الحديثة (ميغ 29 وسوخوي 24) إلى شرق ليبيا. حطت في طبرق في البداية، ثم انتقلت إلى قاعدة الجفرة بوسط البلاد. وبحسب القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، قاد الطائرات طيارون من القوات المسلحة الروسية. طاروا من روسيا مباشرة. توقفوا في سوريا، حيث أعيد طلاء طائراتهم لتمويه مصدرها، ومنها إلى ليبيا لمساندة «المرتزقة الروس» وقوات حفتر، بحسب ما أكد الأميركيون. لكن لم يُسجل حتى اليوم أي دور لهذه الطائرات في المعارك الجارية جنوب طرابلس حيث تعرضت قوات «الجيش الوطني الليبي» لنكسات متتالية هددت بخسارة كل مكاسبها في غرب ليبيا. وليس واضحاً تماماً إذا كان إرسال هذه الطائرات هدفه توجيه رسالة لتركيا وحلفائها لوقف تقدمهم نحو الشرق والجنوب، أم لضمان احتفاظ قوات حفتر بموطئ قدم جنوب طرابلس. ويرجح أن تتوضح هذه الصورة وفق التطورات التي ستحصل في الأيام المقبلة.
وإذا نجح الأتراك فعلاً في طرد قوات حفتر من غرب البلاد، فإن خطوتهم المقبلة قد تكون جنوب ليبيا أو وسطها. لكن المنطقة عبارة عن صحراء مترامية الأطراف من الصعب الحفاظ على السيطرة عليها في ظل غياب الدعم الجوي.

الموقف الأميركي

أميركا اتهمت روسيا بنشر طائرات حربية في مطار الجفرة بليبيا (أفريكوم)

كان واضحاً أن الأميركيين، في مواقفهم الأخيرة، أخذوا صف حكومة السراج في نزاعها مع حفتر. ولعل بيان «أفريكوم» الأخير في خصوص الطائرات الروسية كان الأكثر وضوحاً في المواقف الأميركية. إذ اعتبر أن إنشاء الروس قاعدة لهم في ليبيا سيشكل خطراً على أمن أوروبا، علماً بأن للروس قاعدة أخرى على سواحل المتوسط في طرطوس السورية. وبهذا يتضح أن الأميركيين يعتبرون الوجود الروسي في ليبيا أكثر خطراً، استراتيجياً، من الوجود التركي (العثماني بحسب إردوغان). واعتمد الأميركيون نفس هذه السياسة في سوريا، إذ وقفوا إلى جانب الأتراك لمنع روسيا وقوات النظام السوري من السيطرة على إدلب، رغم أنها معقل للإسلاميين بما في ذلك الجماعات المرتبطة بـ«القاعدة». وإضافة إلى هذه الجماعات، تنشط في إدلب جماعات عدة تنتمي إلى تيارات «إخوانية» وتعمل تحت إشراف تركي مباشر.
ويقول منتقدون للدور التركي إن سماح الأميركيين لإردوغان بإنشاء موطئ قدم له على سواحل ليبيا يمكن أن يشكل تهديداً لأوروبا ربما لا يصل إلى مستوى التهديد العسكري الروسي، لكنه يمكن أن يوازيه من نواحٍ أخرى. ويستحضر هؤلاء مواقف إردوغان الأخيرة، خلال عملية إدلب، عندما أعلن فتح أبواب بلاده أمام ملايين المهاجرين للعبور نحو أوروبا، وهو ما يمكن أن يكرره الرئيس التركي مع الأوروبيين عندما يريد أن يبتزهم فيهددهم بفتح سواحل ليبيا أمام المهاجرين الآتين من دول أفريقيا ما وراء الصحراء. لكن هذا الخطر لا يبدو أنه يُقلق الأميركيين - أو {الدولة العميقة} التي تخشى {الدب الروسي} في وزارتي الخارجية والدفاع - بقدر ما يقلقهم وجود «فاغنر» والروس في ليبيا.

وماذا عن دور دول الإقليم؟

كانت مصر من أوائل الداعمين لحفتر، إذ إن حدودها الغربية كانت مصدر قلق لها على مدى سنوات، حيث كان أعضاء في جماعات مسلحة يتسللون من ليبيا لتنفيذ هجمات وتهريب السلاح ثم يعودون إليها. وتأكدت مخاوف المصريين فعلاً عندما نجحت قوات حفتر في اعتقال أحد أبرز المطلوبين المصريين الضابط السابق المتطرف هشام عشماوي الذي كان يختبئ في مدينة درنة في أكتوبر 2018. سُلّم عشماوي إلى مصر حيث أُعدم. ولا تكشف مصر نوعية الدعم الذي تقدمه للجيش الوطني الليبي، لكن حكومة «الوفاق» دأبت على اتهامها، مع الإمارات والأردن على وجه الخصوص، بمساعدة حفتر.
وتتركز مزاعم «الوفاق» على قاعدتي الجفرة والخادم، حيث توجد طائرات مسيرة صينية الصنع (لونغ وينغ) يشغلها خبراء أجانب. لكن ليس كل ما تقول حكومة «الوفاق» يتبين أنه صحيح في هذا المجال، فقد روّجت وسائل إعلام مرتبطة بها لوجود قوات مصرية في قاعدة الوطية (عقبة بن نافع) بغرب ليبيا، لكن عندما سقطت القاعدة في أيدي {الوفاق} قبل أسابيع لم يظهر أي وجود لقوات مصرية فيها، بل تبيّن أن المدافعين عنها كانوا من أبناء المدن القريبة منها وتحديداً في الجبل الغربي. ولا تنفي الإمارات، من جهتها، معارضتها للميليشيات في ليبيا وتقول إنها تدعم الحل السياسي. وتولى الأردن، من جهته، تدريب قوات ليبية في إطار عملية بناء مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد القذافي. أما تونس والجزائر فتقولان إنهما لا تتدخلان في الشؤون الليبية، لكن رئيس البرلمان التونسي زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي أثار جدلاً في بلاده بتهنئته «الوفاق» على استعادة قاعدة الوطية. وتقول الجزائر، من جهتها، إنها مستعدة لاستضافة حوار ليبي - ليبي لإنهاء النزاع في البلاد.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.