كوفيري مادهافان: أتيت من الهند إلى سليغو

مختارات ييتس دفعتها إلى كتابة رواية «الملوث»

كوفيري مادهافان: أتيت من الهند إلى سليغو
TT

كوفيري مادهافان: أتيت من الهند إلى سليغو

كوفيري مادهافان: أتيت من الهند إلى سليغو

الطبيعة بأكملها تتآمر ضد محب الكتب. السمكة الفضية تخرج من الأكمام إلى الأغلفة، والعفن الفطري يتريث، ودود الكتب يتضاعف، والغبار يهبط بكثافة، طبقة فوق أخرى. ومع ذلك فإنها البلد الأفضل في العالم للوقوع في حب الكتب، فإلهة المعرفة الهندوسية ساراسواتي هي نفسها، في نهاية المطاف، التي تحضن الكتب بإحدى يديها الكثيرة. تأمر: اعبدوني، اقرأوا بإخلاص، وستكافأون بملاذات تفقدون أنفسكم وتجدونها فيها.
لا بد أن أبي عرف ذلك حين أضرب عن الطعام في الحادية عشرة من عمره، حين رُفضت منحة الدراسة الثانوية التي حصل عليها بجهد جهيد على أنها مضيعة للوقت. كان والداه يعيشان على الفلاحة بطموحات لا تتعدى المحصول القادم، فبدا التعليم لهما غير ضروري. لكنه رفض الطعام بإصرار، وبعد خمسة أيام تراجع جدي فغادر أبي قريته جنوب الهند، ليلتحق بمدرسة الملك جورج العسكرية في أقصى الشمال. كان ذلك عام 1946 حين قطع بالقطار 2200 كيلو متر من شبه القارة على مدى خمسة أيام، وهو لا يعرف الإنجليزية، لكي يصل إلى المدرسة. كان عمره 19 عاماً، ونسف حين عُين ضابطاً في الجيش الهندي عام 1954.
يؤسفني أنني لم أسأل أبي كيف تمكن من السيطرة على التعقيدات الهائلة في اللغة الإنجليزية، الاستثناء لكل قاعدة، اللفظ المليء بالمفارقة، النحو المتناقض والجمل التي يستحيل سبر غورها. كل ما أعرفه أن أبي عرف كيف يصعد الحياة قارئاً ومرر حبه للكتب إلينا: أخي وأنا.
حين أنظر للخلف أدرك أن والدي لو كانا ثريين لما صرت مولعة بالقراءة. لكن مثل العائلات العسكرية في كل أنحاء العالم، كنا نتأرجح على حواف الحياة المريحة. الكتب، مستعملة في الغالب، كانت بسطاً سحرية رخيصة، تحملنا لأماكن أبعد من إمكانات والدينا، بعيداً عن المدن المحصنة بالنفعية، ومدارس الرهبنة الصارمة، بعيداً عن معاناة فصول الصيف الحارقة شمال الهند، وشتاءاته القارسة ورياحه الموسمية المرعدة.
كانت طفولة فردوسية؛ إن كان سلوكنا مرضياً عنه جاءتنا الكتب، إن لم يكن أيضاً جاءتنا الكتب. لم يستطع والدانا ببساطة أن يفعلا غير ذلك؛ حرماننا من الكتب كان عقاباً مبالغاً به. نظرتهما الليبرالية منحت طفولتي هويتها، مئات الكتب التي أغرقاني فيها هي ما صنع المرأة التي أنا اليوم.
كنت في التاسعة حين حدثت الحرب الهندية الباكستانية عام 1971. عشنا في معسكر للجيش في كانبور، في بيت متهدم على مساحة هكتارين - أثر تركه الراجا، أعيد تجهيزه ليكون مقراً للضباط المتزوجين. مصنع الأسلحة القريب كان هدفاً رئيساً لهجوم جوي فكان على كل أسرة أن تحفر في حديقتها ملجأ يحمي من القنابل. كان صراعاً قصيراً ودموياً، ولكن لأننا كنا أطفالاً لم نعشه خارج حدود الخوف من أجهزة الإنذار أثناء إطفاء الكهرباء في الليل.

خرائط
غير أن الحرب منحتنا اهتماماً استمر طوال حياتنا بالجغرافيا والمناظر الطبيعية. ليشرح الخلاف مع باكستان كان أبي يستخرج الأطالس ويفرش الخرائط فنتتبع بأصابعنا الحدود، شرقاً وغرباً، الحدود التي رُسمت بطريقة عبثية عام 1947، دون تفكير بالناس الذين سيمزق بعضهم عن بعض. ومع ذلك فقد كان بإمكاني أن أرى وراء شبه القارة المتحاربة بقية العالم مفروشاً أمامي وكان شديد الإغراء.
«كانت معظم صداقات طفولتي قصيرة على نقيض الكتب التي أثبتت أن صداقتها أكثر دواماً».
عندما انتهت الحرب، بقيت الخنادق، واستفدنا أخي وأنا من خنادقنا. بإلهام من عالم الطيور الهندي سليم علي، حولنا ملجأ ضد القنابل إلى مخبأ. أخي ذو السبعة أعوام استخدم أداة التطيين لعمل رفوف في الجدران من الطين الأحمر لتخزين كل شيء قد يحتاجه مراقبو الطيور المبتدئون. تضمنت تلك حلوى نمتصها أثناء جلوسنا هادئين وكتاباً للمذكرات لكتابة أسماء الطيور التي كنا نلاحظها. قصت جدتي ستارة خضراء قديمة وخاطت لنا بذلات تمويهية مع أقنعة. ولا بد أننا خدعنا الطيور لأننا صرنا خبراء في التعرف على الحشود التي جاءت إلى حديقتنا.
بعد ذلك بقليل، وبعد أن سمح لي بالاحتفاظ بجرو ضال أحضرته معي من المدرسة، قلّبنا المكتبات بحثاً عن كل سفر حول رعاية الكلاب، فتنامت بسرعة مجموعة محورها الحيوانات من كل نوع. رواية جاك لندن «الناب الأبيض» كان الكتاب الذي ظل معي - ونداء البراري تصعب مقاومته حتى اليوم.
كانت الوحدات تتحرك باستمرار وبعد إشعار قصير، الأمر الذي أدى إلى أن تكون صداقات طفولتي قصيرة المدى على نقيض الكتب التي أثبتت أنه يمكن الاعتماد على رفقتها أكثر. لحسن الحظ كان كل تحرك مزعج يجلب معه وعداً برحلة قطار مثيرة عبر ريف ظلت فيه محطات القطار متزاوجة مع «عربات» بيع الكتب حتى اليوم، زواج صنعته السماء. سلسلة مكتبات المحطات الأسطورية ذات 143 عاماً جزء من تاريخ السفر في شبه القارة منذ 1877. إنها لم تأت بالشاعر الإنجليزي رديارد كبلنغ وحده عندما نشرت أعماله، وإنما أتاحت «العربات» الفرصة للتجربة الكبلنغية أيضاً.
بعد فترة طويلة من انطلاقة القطار من المحطة، لم يكن عليك سوى أن ترفع عينيك عن كتابك لتجد نفسك في قصة أخرى أبطالها غرباء تماماً يشتركون في القيود الحميمة للعربة معك، أو أولئك الذين عبر النوافذ يشاركونك المشاهد الريفية البانورامية التي هيأت خلفية لحيوات متخيلة. كل تلك القراءة والمشاهدة رسمت طرقاً لرحلتي في الكتابة نهاية الأمر.
كنت في الثانية عشرة من العمر حين انتقلنا إلى مومباي، ووجدنا أنفسنا في فردوس للقارئ، ذلك الذي تُفرش فيه الشوارع بالكتب، مع أنه كان يمكن أن تكون ذهباً. في سبعينيات القرن الماضي، كانت حوانيت الكتب المستعملة تصطف طوال الأرصفة عند تقاطع الطرق الخمسة في كالا غودا، حيث تبيع كل أنواع الرسومات الهزلية، إلى جانب الكتب والمجلات. تلك التجارة لا تزال مزدهرة في كل الهند، تدعمها الحالة النفسية الهندية التي ستتقبل تشويه كل شيء ما عدا الكتب. ساراسواتي، في حكمتها الإلهية، تصر على تقديس كل شيء ينير العقل، ولكن باستثناء النصوص المقدسة، لا أحد سيلقي بكتاب طالما أمكن بيعه بالكيلو.

أساطير هندية
أيام الأحد كان سراحنا يُطلق بين الأكشاك، بينما والداي يتصفحان على مرمى أذن. التهمنا ما انتقينا من المختارات - خدع المخلوقات النهرية التي قضت وقتاً طويلاً تجدف أو مغامرات رعاة البقر وخيولهم التي كانت دائماً قوية وتسمى «رعد». مزجنا الأساطير الهندية بحكايات الغابات، نسينا أنفسنا في مدارس داخلية حالمة وتأملنا دون توقف موضوع الشَعر الأحمر.
اشترى أبي أعداداً قليلة، لم يغيرها، من «الميكانيكي الشعبي» بخططها التوضيحية لبيوت الأشجار، الإسطبلات أو حتى الحوامات المصنوعة من أجهزة نفخ الأوراق - كلها مما يستحيل الحصول عليه في شقتنا الخالية من الأشجار، والخيول أو أوراق الشجر، لكن حياكة الأحلام المستحيلة مع والدي كانت ممتعة. أمي أحبت «ريدرز دايجست» بحكاياته المرهقة عن الهرب في آخر لحظة من براكين متفجرة وكوارث أخرى، كنا نتمنا بشغف أن نكون وسطها. لقد هيئنا والدانا للحياة بطريقة حلوة. مثلما هيئتنا عصابة من النساء بخُمُر بيضاء يابسة، قاسية لكنها أحياناً لطيفة، جاءت من مكان ما يبدو أنه مملوء بالضباب والخضرة، يسمى آيرلندا.
كنت أدندن حول البلد القديم قبل فترة طويلة من وضع قدمي على شاطئه، لأن حنين الراهبات للوطن أراد أن يغنّي ولم يكن لدينا خيار سوى الانضمام إليهن. أحياناً، في «أيام الأعياد»، كن يُصبن كلهن بالجنون التام وهن يجعلننا نعثر في طريقنا عبر «حصار إنِّس». ولكنهن في الغالب جعلننا نقرأ، نقرأ كثيراً. تعرفنا على صباحات سبتمبر (أيلول) المليء بالتفاح وبالناس الصغار في وديان صاخبة، وعلى طريق راغلان وتلك اللعنة التي عرفت في دروس الإلقاء - «جزيرة بحيرة إنيزفري» (قصيدة ييتس The Lake Isle of Innisfree). أنا متأكد أن «الأم المشرفة» هناك في الأعلى، وقد شقت طريقها عبر البوابات اللؤلؤية، تبتسم ابتسامة ملتوية وهي تراني، حين جئت من الهند إلى مسقط رأس الشاعر ييتس، سليغو، بعد عقد ونصف العقد، مزهوة بإلقاء القصيدة على شواطئ لاك غل (Lough Gill).
لقد كان ييتس، في مختارات مستعملة، هو الذي دفعني من على الحافة لأبدأ كتابة روايتي الجديدة «الملوث». خطر لي أن أطور أحداث العصيان في «كوفينوت رينجرز» لتصير رواية عندما التقطت عام 2001، وأنا أتسكع في يوم صيفي في السوق الأسبوعية، كتاباً ورقي الغلاف ومغبراً فتحت صفحاته عند قصيدة «الطيار الآيرلندي يتنبأ بموته». وقف شعر رأسي حين رددت: «أولئك الذين أحارب لا أكرههم/ وأولئك الذين أحرس لا أحبهم». كانت تلك روايتي في سطرين، وأدركت أن عليّ أن أكتبها.

- مادهافان كاتبة هندية المولد مقيمة في آيرلندا. والمقال منشور في صحيفة «آيريش تايمز» في 25 مايو (أيار) 2020، وهي الصحيفة التي تنشر فيها مادهافان.



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).