«الأزياء تصنع الرجل» مثل قديم تتداوله الأوساط السياسية بين فترة وأخرى. ومعناه واضح وهو أن ما يلبسه الإنسان له تأثير مباشر وقوي على المتلقي، سواء تعلق الأمر بجذب اهتمامه أو نيل ولائه.
بالنسبة للرجل تلعب الأزياء دورا مهما في تحديد أسلوب حياته وطريقة تفكيره، بل وحتى مدى قدرته على القيادة والعكس. وبالنسبة للمرأة، ورغم الخيارات الكثيرة أمامها والمسموح لها بها مقارنة بالرجل، فإنها عندما تكون في مركز كبير، خصوصا في المجال السياسي أو المال والأعمال، فإن مظهرها قد يكون عائقا بالنسبة لها حين تخرج عن السيناريو المكتوب لها. السبب أنها، وعوض أن تسلط الأضواء على أفكارها وأجندتها، فإنها تتسلط على ما تلبسه. وليس أدل على هذا من هيلاري كلينتون، خلال حملتها الانتخابية التي كانت تأخذ فيها أزياؤها وإكسسواراتها وقصة شعرها نفس الحيز الذي كانت تأخذه سياستها الانتخابية، إن لم نقل أكثر، في المجلات البراقة تحديدا.
لهذا ليس غريبا أن ينظم متحف التصميم بلندن معرضا يركز على هذه النقطة ويتناولها بإسهاب. المعرض بعنوان «قوة أزياء المرأة»، ويستعرض تصاميم تعود إلى 150 عاما مضت وأصبحت مرتبطة بلحظات مهمة في مسيرات نساء كن أو لا يزلن في مواقع السلطة. كان بعضهن عضوات في حركات منادية بحق التصويت للمرأة البريطانية في القرن التاسع عشر، وأخريات عبدن الطريق لنا الآن، وهنا تقفز صورة رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر إلى جانب الأميرة الراحلة ديانا وغيرهما.
تقول دونا لافداي، وهي إحدى منظمات المعرض، إن النساء «استخدمن الأزياء بشكل متعمد لإبراز القوة والسلطة، عبر التاريخ، لهذا حاولنا هنا أن نقدم سياقا تاريخيا وأن نطرح الفكرة الكاملة من استخدام الملابس للتعبير عن القوة». لكن الجميل في المعرض أنه لم يغرق في هذه النقطة، بل حرص على التمييز بين الأزياء كوسيلة لتمكين المرأة ومنحها قوة في عالم الرجال، وبينها كوسيلة موضة تعبر عن تطورات العصر وتوجهاته. وغني عن القول أن نسبة عالية من الأزياء المعروضة تعود إلى الثمانينات، الحقبة التي شهدت دخول المرأة عالم الرجل بقوة، مما أنعش موضة التايور المكون من بنطلون وجاكيت بأكتاف صارمة وكبيرة، إضافة إلى قمصان بياقات تربط على شكل «بابيون» أو فيونكة لكي لا تترك المجال لأي جزء من الجسم أن يزيح الانتباه عن مؤهلاتها وقدراتها. ونظرا للتنوع الموجود في المعرض، تشعر بأن التصاميم التي ظهرت بها جون كولينز مثلا في مسلسل «ديناستي» أو ليندا غراي في مسلسل «دالاس» أو حتى ميلاني غريفيث في فيلم «ووركينغ غيرل» (فتاة عاملة)، أصبحت من الكليشيهات القديمة، للموضة والقوة على حد سواء، ربما لأن منظمي المعرض كانوا يريدون أن يخرج الزائر وصورة امرأة قوية وناجحة مترسخة في ذهنه وليست صورة لامرأة استعراضية أو محاربة. ما ساعدهم على هذا أنهم أولوا نفس القدر من الاهتمام لأزياء نساء معاصرات وناجحات في مجالاتهن، وصل عددهن إلى 26، تألقن في مجالات متنوعة، من السياسة والاقتصاد إلى الفن والثقافة، مثل المعمارية العراقية زها حديد، والمصممة فيفيان ويستوود، وعمدة باريس آن هيدالغو، وغيرهن.
تشرح دونا لافداي أنها بدأت العمل على تنظيم هذا المعرض بمساعدة الصحافي كولين ماكدويل، منذ أكثر من 10 أشهر. وكانت المعمارية زها حديد، التي نجحت في مجالها وعبدت الطريق لبنات جنسها في مجال كان حكرا على الرجل قبلها، هي التي صممته على مساحة 6.500 قدم مربع، تم تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: قسم يحلل معنى القوة، ويستعرض فيه 16 فستانا من أهم الفساتين تأثيرا عبر التاريخ، من الملكة المصرية حتشبسوت التي كانت تضيف لمسات رجالية على أزيائها لتثبت قوتها بعد وفاة زوجها، إلى هيلاري كلينتون. وقسم مخصص للطريقة التي فقدت فيها الموضة تعقيداتها المكبلة، مثل الكورسيه، على مدى 150 عاما. وأخيرا وليس أخيرا، قسم عن أهم النساء المعاصرات القويات وكيف ينظرن إلى الموضة وإلى دور الأزياء في منحهن الثقة بالنفس والتعبير عن تطلعاتهن. من هؤلاء، نذكر ناتالي ماسيني، مؤسسة موقع «نت أبورتيه دوت كوم»، والعارضة ناعومي كامبل، والمصممة فيفيان ويستوود، وآن هيدالغو عمدة باريس، التي افتتحت المعرض، وغيرهن من الناجحات من مختلف الجنسيات.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المعرض هو أهمية توقيته، التي تتزامن مع ظهور شريحة جديدة من النساء، ناجحات وفي مواقع مؤثرة، نذكر منهن الطاهية العالمية، المفعمة بالأنوثة، أنجيلا لوسون، والنجمة أنجلينا جولي التي تجوب العالم مدافعة عن حقوق الإنسان مستفيدة من شهرتها وجمالها، والمحامية الحقوقية أمل كلوني (علم الدين سابقا)، وغيرهن. هذه الشريحة من النساء لا تخفي اهتمامها بالموضة أو تتخوف من التعامل معها بأسلوب يجمع الأناقة والأنوثة من دون أن يتعارض الأمر مع قوتها، أو يجعل أيا كان يتجرأ ويفكر بأنهن يستغللن جمالهن عوض كفاءتهن. فالزمن الذي كانت تشعر فيه جدتها أو والدتها بأن عليها أن تخفي كل معالم جسدها لكي تؤخذ بجدية في أماكن العمل ولى إلى غير رجعة، والمرأة العصرية رسخت مكانتها من دون أن تحتاج إلى كتافيات صارمة أو تايورات مفصلة بصرامة، أو بنطلونات كلاسيكية تفتقد إلى الأنوثة، كالتي تلبسها أنجيلا ميركل أو هيلاري كلينتون، بل ولا تحتاج حتى إلى تايورات بتنورات مستقيمة محرومة من أي زخرفات أو تطريزات خوفا من اتهامها بالسطحية.
عندما ظهرت ميشيل أوباما أول مرة إلى الواجهة، بدأت في تكسير تلك الصورة المترسخة في الذهن ومعها الكثير من الكليشيهات، بارتدائها أزياء تلبسها أي امرأة عادية، سواء كانت فساتين ناعمة بنقشات متضاربة، أو تنورات مستديرة، بل وحتى فساتين من دون أكمام. كان لسان حالها يقول بأنها لن تغير أسلوبها وتخضع لإملاءات قديمة لكي يتم تقبلها، وأنها ستلبس ما يروق لها ويُشعرها بالراحة والرضا عن النفس، حتى وإن أدى بها الأمر إلى إثارة غضب مصمم مخضرم ومشهور مثل الراحل أوسكار دي لاورنتا. فهذا الأخير لم يتقبل عزوفها عنه بسهولة، بعد أن تعود، ولعدة عقود، أن يصمم لسيدات البيت الأبيض فساتين تضج بالأناقة الكلاسيكية. كان من الطبيعي ألا يتقبل أن تدير له ميشيل أوباما ظهرها مفضلة مصممين أصغر، سنا ومكانة، وغير معروفين أحيانا، فقط لأنها تحب ما يقدمونه وترتاح فيه.
في المقابل، هللت لها أوساط الموضة. أما المرأة العادية فرغم أنها استغربت في البداية هذا التوجه على أساس أن زوجات رؤساء الدول يجب أن يكون لهن أسلوب يبتعد عن الموضة الموسمية ويجعلهن يحلمن به، فإنها لم تمانعه، بل رحبت به، لأنه كان إشارة إلى ولادة عهد جديد، أو على الأصح نوع جديد من القوة النسائية تفهمه جيدا وتتطلع إليه في الوقت ذاته. وهي قوة تستمدها من كفاءتها وتوظف لها الأزياء لكي تعكسها للآخر. والأجمل من كل هذا أنها لم تعد تخفي اهتمامها بالموضة، ولم تعد تتكلم عنها بهمس وكأنها تهمة يجب أن تتجنبها بأي ثمن. هذا ما أكدته دونا لافداي بقولها «منذ عهد طويل، ومنذ أن بدأت المرأة تدخل مجالات العمل وتتبوأ مناصب كانت حكرا على الرجل، ظل موضوع الموضة مركونا ومهمشا على أساس أنه لهو سطحي عليها ألا تخوض فيه». طبعا الأمر تغير في العقد الأخير، وليس أدل على هذا من ظهور ويندي ديفيس، السياسية الأميركية في الكثير من المناسبات بفساتين أنيقة وحذاء رياضي «سنيكرز» مفضلة الراحة على أي انتقادات قد تتعرض لها.
كل هذا نستخلصه بعد زيارة معرض «قوة الأزياء النسائية»، من خلال الأزياء المعروضة، وأيضا من خلال تعليقات بعض النساء المؤثرات مثل موروينا ويلسون، وهي سيدة أعمال حققت الكثير من النجاح في مجال العقارات. فقد شرحت أسلوبها قائلة «الجاكيت جد مهم بالنسبة لي، لأنني صغيرة الحجم ولأنني امرأة لها مسؤوليات كبيرة وأتمتع بسلطة في عالم ذكوري». وتضيف «أيضا أعمل في غالب الأحيان مع أشخاص أكبر مني سنا». نفس الفكرة تكررت على لسان معظم، إن لم نقل كل، من تم استجوابه في هذا المعرض، إلى حد القول إن القاسم المشترك بينهن رفضهن وأد أنوثتهن في سبيل أن يتقبلهن الآخر. فالزمن تغير، وقوة المرأة أصبحت تظهر في قدرتها على التميز فيما تقوم به من أعمال وفي الوقت ذاته التألق فيما يروق لها من أزياء. في هذا الصدد، لا بد أن نستشهد بالمحامية أمل علم الدين (كلوني). فكونها محامية ناجحة لم يجعلها تخاصم الموضة، بل العكس عانقتها بكل ما تملكه من قوة، بأسلوبها الهادئ وغير الاستعراضي لتصبح أيقونة موضة تحتذي بها العديد من النساء، لأنها سواء ظهرت بتايور مزين بتفاصيل من اللؤلؤ أو فستان مستقيم وناعم من دون أكمام، فإن القوة تشع منها. فقد ظهرت في عدة مناسبات عمل بأزياء تصرخ بألوان الطبيعة، مثل البرتقالي أو الوردي أو الأخضر الزمردي، وأخرى تضج بالنقوشات المتضاربة، سواء في أزيائها أو إكسسوارتها، ومع ذلك كانت الإطلالة دائما موفقة وغير مشوشة للعين، لأن التصاميم ظلت دائما كلاسيكية وبخطوط بسيطة.
يستمر المعرض حتى 26 أبريل (نيسان) المقبل، وهناك احتمال كبير أن ينتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية ووجهات أخرى من العالم.
* غالبية من عايشن موضة الثمانينات يتذكرن الكتافيات الضخمة التي تجعل المرأة تبدو، في عيون امرأة اليوم، وكأنها مصارعة ثيران. وتشرح الجدات أن الرجل في تلك الفترة لم يكن مستعدا لتقبلها في مجال احتكره لعقود، مما اضطرهن للدخول معه في صراع صامت لم يكن من الممكن أن يخرجن منه بالفشل، حتى وإن كانت إحدى هذه الوسائل سرقة تصاميم من خزانته للتشبه به. وبالفعل حققن قفزة مهمة، ساعدت على تعبيد الطريق للجيل التالي، وإن صح القول فالفضل يعود لهن في إمكانية استمتاع المرأة العصرية بالموضة واختيار ما يروق لها من دون إملاءات أحد، الأمر الذي التقطه المصممون وترجموه بطريق مختلفة، كلها تصب في صالحها.