شوارع بيروت عند اجتماع الفقر والوباء

شوارع بيروت عند اجتماع الفقر والوباء
TT

شوارع بيروت عند اجتماع الفقر والوباء

شوارع بيروت عند اجتماع الفقر والوباء

يتجمع عند أحد مداخل مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين عشرات من الشبان والأطفال قرب محلات صغيرة؛ حيث يتبادلون الأحاديث ويلعبون، بينما تتجه عربة «توك توك» ترفع علماً فلسطينياً صغيراً إلى الطريق العام، وعلى متنها عدد من الصبية والفتيات يرددون أغنية شهيرة. عناصر الجيش اللبناني على الحاجزين المقامين قرب المخيم وعلى المدخل القريب للضاحية الجنوبية، لا يبدون أي ردة فعل على مشهد «التوك توك» العابر من بينهم.
في الشوارع الداخلية لحارة حريك وبرج البراجنة تبدو الحياة طبيعية، وسط حضور قليل لواضعي الكمامات السائرين بين الدراجات النارية المتزاحمة، والمتنافسة مع السيارات على المرور في الشوارع الضيقة دائمة الاحتفال بالمناسبات الدينية والحزبية.
في برج حمود، البلدة ذات الأكثرية الأرمنية والمتصلة ببيروت، وإن كانت تعتبر تابعة إدارياً لجبل لبنان، مشاهد مشابهة. أكثر المحلات فتح أبوابه وراح يستقبل زبائنه. ولا يقتصر النشاط على متاجر المأكولات والمطاعم؛ بل إن محلات الملبوسات والهواتف الجوالة وقطع غيار السيارات تعمل بوتيرتها العادية، على ما يبدو. ولئن تكرر المشهد في الطريق الجديدة، المنطقة الشعبية داخل بيروت، فإنه يختلف كلما اقتربت من وسط العاصمة؛ حيث الخواء والصمت والمحال المقفلة أبوابها، والمصارف التي تدرعت بالحديد خشية غضب المودعين الذين خسروا أموالهم، والمتظاهرين المتحمسين لقضية صغار المدخرين الذين خسروا «القرش الأبيض» في أيام سود تتوالى دون توقف.
فراغ الوسط التجاري يخرقه تجمع غير كبير في مطعم فخم بين باب إدريس ووادي أبو جميل، يظهر أن رواده لم يتأثروا بالفقر والوباء، وما زالوا قادرين على زيارة هذه الأماكن الحصرية، وأن يدعوا سائقيهم ينتظرونهم في سياراتهم التي يغلب عليها اللون الأسود اللامع.
قلب بيروت، شارع الحمرا، أصيب بضربة لن يبرأ منها على الأرجح. محلاته التجارية مقفل أكثرها. مقاهيه شبه خالية بسبب تعليمات التباعد الاجتماعي من جهة وصعوبة العمل ضمن الساعات المحددة للإقفال الإلزامي، وهي الأماكن التي كان السهر فيها يمتد إلى ساعات الصباح. أما تلك المتاجر التي غامر أصحابها بفتح أبوابها فانتصبت أمامها عوائق من كراسي صغيرة أو أشرطة ملونة تمنع الدخول، وتشير إلى الزبائن بضرورة طلب ما يحتاجون وهم يقفون خارج المتجر. التدابير ذاتها متَّبعة في المكتبات التي لم تجدد الكتب المعروضة لديها منذ شهور. ويتوقع عاملون في قطاع النشر والطباعة ركوداً ناجزاً أو شبه ناجز في الشهور المقبلة.
من المبكر -ربما- بناء استنتاجات اقتصادية واجتماعية على الكارثة المزدوجة التي أصابت لبنان في الشهور الماضية. فتضافر الانهيار الاقتصادي والأزمة السياسية مع تفشي مرض «كورونا» يترك انطباعاً شديد القسوة عند من اعتاد التجول في شوارع العاصمة وضواحيها في أيام أقل بؤساً.
بيد أن تقييماً سريعاً للمشاهدات أعلاه يُنبئ أن وطأة ما وقع لن تكون واحدة على سكان لبنان. بكلمات ثانية: ستهبط القطاعات التي وسمت الاقتصاد (بل الاجتماع والسياسة والثقافة) في لبنان إلى ما يشبه الموت السريري. قطاع المصارف فقد مكونه الأهم: الثقة. وهذه لن تستعاد من دون جهود كبيرة لا يبدو أن أحداً مقبل عليها. السياحة التي تحتضر منذ سنوات، والتي سعى القائمون عليها إلى تخفيف الأضرار التي تركها امتناع السياح العرب إلى لبنان، من خلال التركيز على السياحة الداخلية وبعض الزوار الغربيين، انتهت عملياً، وتعلن المؤسسات السياحة حتى التي تحملت مخاطر ودمار الحرب الأهلية إقفالها النهائي.
ينطبق الأمر ذاته وإن بنسب أقل على مؤسسات التعليم والاستشفاء، ومتاجر السلع المعمرة والاستهلاكية، في الوقت الذي تدور فيه مفاوضات بين القوى السياسية لتشريع الوضع المالي الجديد، تحت شعار ضبط خروج العملة الصعبة من لبنان، وهذه إجراءات كان الحديث عنها قبل عام واحد يستدعي ضحكاً بل استهجان رجال المال والسياسة في هذا البلد؛ لكن إجراءات «الكابيتال كونترول» التي يقترب مجلس النواب من اعتمادها، تشير إلى الحضيض الذي وصل إليه النظام الاقتصادي الآخذ في التحول إلى اقتصاد يعتمد العملة الورقية بعد انهيار النظام المصرفي برمته.
السير في هذا المنحى من الاستنتاج، يقود إلى اعتقاد بأن لبنان قد دخل مرحلة تغير بنيوي عميق، ولا عودة عنه في اقتصاده واجتماعه وثقافته، وأن إخفاق انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) في فرض إصلاح سياسي ملموس سيترك لبنان يعاني طويلاً من ممارسات الجماعة السياسية الحاكمة، وربطها البلاد بصراعات دولية وإقليمية لا تعود بالفائدة سوى على حفنة صغيرة من اللبنانيين.
أمام هذين: الفقر والوباء، يقف اللبنانيون غير قادرين على الاحتجاج والرفض، بعدما استنفدوا وسائل الاعتراض السلمية من دون أن يرف جفن لسياسيين فقراء إلى الأخلاق والمبادرة.


مقالات ذات صلة

صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.

آسيا رجل يرتدي كمامة ويركب دراجة في مقاطعة هوبي بوسط الصين (أ.ف.ب)

الصين ترفض ادعاءات «الصحة العالمية» بعدم التعاون لتوضيح أصل «كورونا»

رفضت الصين ادعاءات منظمة الصحة العالمية التي اتهمتها بعدم التعاون الكامل لتوضيح أصل فيروس «كورونا» بعد 5 سنوات من تفشي الوباء.

«الشرق الأوسط» (بكين)

«الرئاسي اليمني» يُطلق حرباً على الفساد في المؤسسات الحكومية

مجلس القيادة الرئاسي في اليمن يبدأ حملة واسعة لمكافحة الفساد وحماية المال العام (سبأ)
مجلس القيادة الرئاسي في اليمن يبدأ حملة واسعة لمكافحة الفساد وحماية المال العام (سبأ)
TT

«الرئاسي اليمني» يُطلق حرباً على الفساد في المؤسسات الحكومية

مجلس القيادة الرئاسي في اليمن يبدأ حملة واسعة لمكافحة الفساد وحماية المال العام (سبأ)
مجلس القيادة الرئاسي في اليمن يبدأ حملة واسعة لمكافحة الفساد وحماية المال العام (سبأ)

في خطوة غير مسبوقة تهدف إلى مواجهة الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية وحماية المال العام، أعلن مجلس القيادة الرئاسي في اليمن حزمة من الإجراءات المنسقة لمكافحة الفساد وغسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعزيز المركز القانوني للدولة، وذلك بعد تلقي المجلس تقارير من الأجهزة الرقابية والقضائية حول قضايا فساد كبرى وقعت في الأعوام الأخيرة.

وأفاد الإعلام الرسمي بأنه، بناءً على توصيات من رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، صدرت توجيهات مستعجلة لاستكمال إجراءات التحقيق في القضايا قيد النظر، مع متابعة الجهات المتخلفة عن التعاون مع الأجهزة الرقابية.

وشدد مجلس الحكم اليمني على إحالة القضايا المتعلقة بالفساد إلى السلطة القضائية، مع توجيهات صريحة بملاحقة المتهمين داخل البلاد وخارجها عبر «الإنتربول» الدولي.

رئيس مجلس القيادة الرئاسي في اليمن رشاد العليمي (سبأ)

وأمر العليمي -حسب المصادر الرسمية- بتشكيل فريق لتقييم أداء هيئة أراضي الدولة وعقاراتها، التي تواجه اتهامات بتسهيل الاستيلاء على أراضيها من قِبل شخصيات نافذة. كما شدد على إلغاء جميع التصرفات المخالفة للقانون وملاحقة المتورطين.

وبينما تشير هذه الخطوات الجادة من مجلس القيادة الرئاسي إلى التزام الحكومة اليمنية بمكافحة الفساد، وتحسين الأداء المؤسسي، وتعزيز الشفافية، يتطلّع الشارع اليمني إلى رؤية تأثير ملموس لهذه الإجراءات في بناء دولة القانون، وحماية موارد البلاد من العبث والاستغلال.

النيابة تحرّك 20 قضية

ووفقاً لتقرير النائب العام اليمني، تم تحريك الدعوى الجزائية في أكثر من 20 قضية تشمل جرائم الفساد المالي، وغسل الأموال، وتمويل الإرهاب، والتهرب الضريبي. ومن بين القضايا التي أُحيلت إلى محاكم الأموال العامة، هناك قضايا تتعلّق بعدم التزام بنوك وشركات صرافة بالقوانين المالية؛ مما أدى إلى إدانات قضائية وغرامات بملايين الريالات.

كما تناولت النيابة العامة ملفات فساد في عقود تنفيذ مشروعات حيوية، وعقود إيجار لتوليد الطاقة، والتعدي على أراضي الدولة، وقضايا تتعلق بمحاولة الاستيلاء على مشتقات نفطية بطرق غير مشروعة.

مبنى المجمع القضائي في العاصمة اليمنية المؤقتة عدن (سبأ)

ومع ذلك، اشتكت النيابة من عدم تجاوب بعض الجهات الحكومية مع طلبات توفير الأدلة والوثائق، مما أدى إلى تعثر التصرف في قضايا مهمة.

وأوردت النيابة العامة مثالاً على ذلك بقضية الإضرار بمصلحة الدولة والتهرب الجمركي من قبل محافظ سابق قالت إنه لا يزال يرفض المثول أمام القضاء حتى اليوم، بعد أن تمّ تجميد نحو 27 مليار ريال يمني من أرصدته مع استمرار ملاحقته لتوريد عشرات المليارات المختلسة من الأموال العامة. (الدولار يساوي نحو 2000 ريال في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية).

وعلى صعيد التعاون الدولي، أوضحت النيابة العامة أنها تلقت طلبات لتجميد أرصدة أشخاص وكيانات متورطين في غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وبينما أصدرت النيابة قرارات تجميد لبعض الحسابات المرتبطة بميليشيات الحوثي، طلبت أدلة إضافية من وزارة الخزانة الأميركية لتعزيز قراراتها.

تجاوزات مالية وإدارية

وكشف الجهاز المركزي اليمني للرقابة والمحاسبة، في تقريره المقدم إلى مجلس القيادة الرئاسي، عن خروقات جسيمة في أداء البنك المركزي منذ نقله إلى عدن في 2016 وحتى نهاية 2021. وتضمنت التجاوزات التلاعب في الموارد المالية، والتحصيل غير القانوني للرسوم القنصلية، وتوريد إيرادات غير مكتملة في القنصلية العامة بجدة وسفارتي اليمن في مصر والأردن.

وأفاد الجهاز الرقابي بأن التجاوزات في القنصلية اليمنية في جدة بلغت 156 مليون ريال سعودي، تم توريد 12 مليون ريال فقط منها إيرادات عامة، في حين استولت جهات أخرى على الفارق. أما في مصر فتم الكشف عن استيلاء موظفين في السفارة على 268 ألف دولار من إيرادات الدخل القنصلي باستخدام وثائق مزورة.

وفي قطاع الكهرباء، كشف تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة عن مخالفات جسيمة في عقود توفير المشتقات النفطية، تضمّنت تضخيم تكلفة التعاقدات وإهدار المال العام بقيمة تزيد على 285 مليون دولار. كما أشار التقرير إلى اختلالات في عقود السفينة العائمة لتوليد الطاقة التي تضمنت بنوداً مجحفة وإعفاءات ضريبية وجمركية للشركة المتعاقد معها.

وتحدّث الجهاز الرقابي اليمني عن اعتداءات ممنهجة على أراضي الدولة، تشمل مساحة تزيد على 476 مليون متر مربع، وقال إن هذه الاعتداءات نُفّذت بواسطة مجاميع مسلحة وشخصيات نافذة استغلّت ظروف الحرب لنهب ممتلكات الدولة. كما تم تسليم أراضٍ لمستثمرين غير جادين تحت ذرائع قانونية؛ مما تسبّب في إهدار أصول حكومية ضخمة.

وحسب التقارير الرقابية، تواجه شركة «بترومسيلة» التي أُنشئت لتشغيل قطاع 14 النفطي في حضرموت (شرق اليمن)، اتهامات بتجاوز نطاق عملها الأساسي نحو مشروعات أخرى دون شفافية، إلى جانب اتهامها بتحويل أكثر من مليار دولار إلى حساباتها الخارجية، مع غياب الرقابة من وزارة النفط والجهاز المركزي.