ميكيافيلّي الذي لم يكن «ميكيافيلياً»

سيرة ضخمة أكثر اتزاناً أنجزها مؤرخ بريطاني متخصص بثقافة عصر النهضة

ألكسندر لي
ألكسندر لي
TT

ميكيافيلّي الذي لم يكن «ميكيافيلياً»

ألكسندر لي
ألكسندر لي

تنقل إليناور ماركس قصّة طريفة عن والدها كارل، وملخصها أنّ مجموعة تسمي نفسها بالماركسيّة أصرت على دعوة ملهمها، صاحب كتاب «رأس المال»، لحضور مؤتمر للتّداول في الأحوال السياسية القائمة من وجهة نظر ماركسيّة. خرج كارل (وفق إليناور) من المؤتمر غاضباً، يضرب كفاً بكفّ، قائلاً: «إذا كانت تلك الماركسيّة، فأنا لست بماركسيّ أبداً». ولعلّ خيبة الأمل التي تلقاها المفكر العجوز ممّا فعله التّابعون بتراثه، ستكون مضاعفة عند المفكر وفيلسوف السياسة والتّاريخ الإيطالي الفلورنسيّ نيقولو ميكيافيلّي (1469 – 1527) الذي لو قدّرت له العودة يوماً، فيرى أي سمعة سيّئة ألصقت به.
يتجرّأ كثيرون، من أنصاف العارفين والجهلة بالتّاريخ وبالفكر السياسيّ معاً، على ذمّ ميكيافيلّي، ووصف كل سياسة حكم قائمة على الخداع والكذب والتّدليس وحكم المصالح المحضة وتبني اللامبدأ بـ«الميكيافيلّيّة». وهم بذلك يبخسون الرّجل حقّه، ويتجاوزون على فكر سياسيّ تأسيسي كان حاسماً في تطوير فلسفة الحكم عشيّة اللّحظة بين موت العصور الوسطى وولادة العصور الحديثة عند بداية القرن السادس عشر.
وللحقيقة، فإن كل أساطين الفكر والسّياسة اعتبروا ميكيافيلّي بوابة لا بدّ من عبورها لفهم الممارسة السياسيّة والفهم الحقيقي للتاريخ دون ألبسة الأدلجة المخادعة، من سبينوزا إلى ألتوسير، مروراً بمونيسيكيو، وهوبس، وروسّو، وهيغل، وماركس، وكروتشه، وغرامشي، وغيرهم. ولا يزال كتاباه «الأمير» و«المطارحات» الأشهر متداولين بكثافة، رغم أن اللّغة فيهما تعود لثقافة ومناخات مضت عليها 5 قرون. وقد بنى غرامشي نظريته المتقدّمة عن الأمير المعاصر (بمعنى الجهة التي تتولى القيادة في مرحلة انتقاليّة لتحقيق مهمة تاريخيّة) قياساً على مفهوم الأمير الجديد، كما رسمه ميكيافيلّي تحديداً، فيما سمّاه ألتوسير فيلسوف البدايات، لدوره الذي يصعب تجاوزه في إطلاق فكر سياسي جديد يقطع بالكليّة مع ممارسات العصور القديمة والوسطى.
ولعل الصّبغة الشعبيّة المُشينة التي منحت لميكيافيلّي مردّها إلى إقدامه على وصف العمل السياسيّ وفنّ الحكم كما هي، «لا كما نحبّ أن نتخيلها» على حد تعبيره في «الأمير»، أي تلك الممارسات العمليّة الموضوعيّة للحكم، كما إدانته الحاسمة للرؤى الآيديولوجيّة للسياسة، ولا سيّما إطار الثقافة الدينيّة لممالك العصور الوسطى القائمة على الحقوق الإلهيّة والتكليفات المقدّسة والفلسفات المثاليّة.
كتب عن ميكيافيلّي كثير، ولا سيّما تجاه تحليل خطابه السياسي ونظريّته في التأريخ، كما تقديم قراءات معاصرة لكتابيه الشهيرين، فيما نحت سِيَرَهُ إلى تصوّرات مبالغ بها أو سوّق الأحداث بانتقائية للتأكيد على وجهة نظر مسبّقة بشأنه، والتّركيز على ملمح التناقض الظاهريّ بين حكمة النصوص التي تركها وتقلبات مصيره الشخصي مع مراهنته شبه الدائمة على الأطراف الخاسرة في لعبة الحكم على مسرح دويلة فلورنسة الإيطاليّة. ولذا فإن السيرة الضخمة الجديدة (768 صفحة) «ميكيافيلّي... حياته وزمانه» التي وضعها أليكسندر لي، الأستاذ بجامعة ووريك بالمملكة المتحدة والمؤرخ المتخصص بثقافة عصر النهضة في إيطاليا، تبدو كأنها أشملها وأوسعها وأكثرها اتزاناً، لناحية قراءة أحداث حياته وتفسيرها في سياق زمانه التاريخيّ، وستحتل دون شكّ بسرعة موقع مدخل، لا يُستغنى عنه لفهم ميكيافيلّي الشّخصيّة والإنسان، وراء الأفكار والطّروحات، وستملأ مساحة غير مكتملة عنه في نهج دراسة معاصر يعتمد لتفكيك النصوص التاريخيّة على فهم دقيق للظروف الموضوعيّة والمناخات الماديّة والثقافيّة التي مكنّت أفراداً معينين أن يبدعوا وينجزوا باستثناء.
عاش ميكيافيلّي في زمان سائل، كانت فيه شبه الجزيرة الإيطاليّة مقسّمة إلى دويلات كثيرة متنافسة، تتبدل تحالفاتها بأسرع من سقوط حكوماتها، وملعباً للقوى الأوروبيّة الكبرى (فرنسا، وإسبانيا، والإمبراطوريّة الرومانيّة المقدسة)، كما البابوات. وفلورنسا، مسقط رأسه ومسرح حياته، بالذّات شهدت تحولات سياسيّة عاصفة وتقلبات، فلم يقضِ أوّل 25 عاماً من حياته إلا وكان شهد رأي العين القمع الدّموي لانقلاب البيازا على أسرة المديشي، والطّاعون، وأيّام سافونارولا الثائر الدونميكيانيّ المتطرّف، وثورة مدينة بيزا، وإقصاء الميديشيين، وتأسيس أوّل جمهوريّة فلورنسيّة. كما تبدلت أحواله الشخصية أيضاً، فنشأ بداية في أجواء ثراء ووفرة، قبل أن تمرّ عليه أيّام عاش فيها فقراً مدقعاً حتى إنّه كتب قصيدة لاحقاً يسخر فيها من ذاته لكثرة ما كان هزيلاً «فكأنه منقار نقّار الخشب الرفيع»، إذ لم يكن يأكل وقتها سوى الخبز دون أيّ مرق. ويبدو أن والده كان جابياً للضرائب معادياً للمديشيين الممسكين بالسّلطة، ولذا خسر كل فرصة للترقي في عمله الحكوميّ.
التحق الشّاب نيقولو بالسنغوريا، أي الحكومة الجمهوريّة التي تشكلت في فلورنسة عام 1494 بعد إقصاء الميدشيين، موظفاً إداريّاً بدءاً من العام 1498. وقد جلبت مهاراته التنظيميّة وثقافته الرفيعة انتباه بيرو سوديريني، رئيس الجمهوريّة، فعيّنه مستشاراً وكلّفه بمهمات دبلوماسيّة للتفاوض مع الدويلات الإيطاليّة الأخرى، أخذته أحياناً عبر جبال الألب إلى فرنسا. لكن تلك كانت مهمّة صعبة بعدما وجدت بلاده نفسها دائماً أسيرة الجغرافيا والموارد المحدودة، وبين خيار الخضوع للشيطان الفرنسيّ أو اللجوء إلى البحر. ولم يحقق نجاحات تذكر أثناء تلك الفترة، وكثيراً ما انتصر عليه مفاوضون خبراء وأخذوا منه ما يريدون. لكنّه مع ذلك تشرّب فهماً عميقاً للعلاقات الدوليّة، واختلط بنخبة النّخبة في عصره، واستوعب عن كثب تأثير مصادر القوّة في المفاوضات الدبلوماسيّة ومصائر الدّول. ويبدو أن الميزانيّة المخصصة لتلك المهمّة كانت محدودة، إذ هناك إشارة عند مايكل أنجلو، النحات والرّسام الشهير، أنّه صادف ميكيافيلّي في إحدى مهمات الأخير إلى فرنسا، وأنّه قبِل أن يعطيه بعض المال على سبيل الاستدانة بانتظار وصول التحويل الماليّ له من السنغوريا. ولعل أفضل إنجازاته مع الحكومة كان تنظيمه لميليشيا شعبيّة كحرس للجمهوريّة، لكن تلك أيضاً فشلت على المدى البعيد، فقد كان تسهل رشوة قادتها بالمال والوعود.
لم تعش الجمهوريّة أكثر من 18 عاماً، قبل أن يتمكّن المديشيّون من استعادة السلطة مجدداً عام 1512. واعتقل وقتها نيقولو من قبل الحكام العائدين مجدداً إلى السلطة، وأُلقي داخل السجن، وتعرّض للتعذيب والعيش في ظروف قاسية، قبل الإفراج عنه لاحقاً بواسطة بعض المتنفذين، أو وفق رواية أخرى بعفو عشية فوز أحد المديشيين بمنصب البابا. وقد حاول بعدها التقربّ من الأسرة الحاكمة فعكف على وضع كتاب «الأمير» الذي كان على نحو ما أوراق اعتماد لاستعادة الحظوة عند أصحاب السّلطة، ونوعاً من دليل عمل للحاكم في إدارة لعبة القوّة والسيطرة مع الرعيّة والدول الأخرى. ويذكر المؤلفّ عن ذلك قصة لطيفة، إذ كان ميكيافيلّي حصل أخيراً على موعد مع لورونز مديشي الثاني، وشرع بتقديم محتوى الكتاب إليه، ليتحوّل اهتمام الأخير عنه سريعاً بعدما اقتحم مجلسهما متسلّق آخر أحضر معه كلبي صيّد نادرين هديّة للأمير. ومع ذلك، فهو بشخصيته ومعارفه نجح بالعودة إلى جوار النخبة الحاكمة، وكلّف رسمياً في 1520 بمهمة جليلة لتدوين تاريخ شامل لفلورنسة، لكنّه لم يهنأ بالاستمتاع بمجد كتابه «التواريخ» إلا وكان المديشيون قد أُجبروا على اللجوء إلى المنفى عام 1527. وتوفي بعدها بشهرين، قبل أن يتمكّن هؤلاء من العودة مجدداً للسلطة إثر حصار قاسٍ للمدينة.
لا شكّ أن هذه التجارب المكثفّة والعمليّة بالقرب من محيط صناعة الحدث السياسي في عصره منحت ذلك الفلورنسيّ المثقّف ذا البصيرة، القدرة على استخلاص الدّروس والعبر من الوقائع والتاريخ المتقلّب، متحرراً من الأفكار المسبقّة والديماغوجيّات. وإذا لم يستفد منه حكام عصره كثيراً، لقصور فيهم، فإنه عندنا اليوم مفتتح العصور الحديثة، وفيلسوفاً للبدايات، مهما حاولت الثقافة الشعبيّة النيل منه.
لا... لم يكن ميكيافيلّي «ميكيافيلياً» كما يتصوره البعض. لقد كان درّة التجربة السياسيّة لزمانه، في المساحة المظلمة لأمّة مات قديمها، ولم يكن جديدها قد ولد بعد.


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».