ميكيافيلّي الذي لم يكن «ميكيافيلياً»

سيرة ضخمة أكثر اتزاناً أنجزها مؤرخ بريطاني متخصص بثقافة عصر النهضة

ألكسندر لي
ألكسندر لي
TT

ميكيافيلّي الذي لم يكن «ميكيافيلياً»

ألكسندر لي
ألكسندر لي

تنقل إليناور ماركس قصّة طريفة عن والدها كارل، وملخصها أنّ مجموعة تسمي نفسها بالماركسيّة أصرت على دعوة ملهمها، صاحب كتاب «رأس المال»، لحضور مؤتمر للتّداول في الأحوال السياسية القائمة من وجهة نظر ماركسيّة. خرج كارل (وفق إليناور) من المؤتمر غاضباً، يضرب كفاً بكفّ، قائلاً: «إذا كانت تلك الماركسيّة، فأنا لست بماركسيّ أبداً». ولعلّ خيبة الأمل التي تلقاها المفكر العجوز ممّا فعله التّابعون بتراثه، ستكون مضاعفة عند المفكر وفيلسوف السياسة والتّاريخ الإيطالي الفلورنسيّ نيقولو ميكيافيلّي (1469 – 1527) الذي لو قدّرت له العودة يوماً، فيرى أي سمعة سيّئة ألصقت به.
يتجرّأ كثيرون، من أنصاف العارفين والجهلة بالتّاريخ وبالفكر السياسيّ معاً، على ذمّ ميكيافيلّي، ووصف كل سياسة حكم قائمة على الخداع والكذب والتّدليس وحكم المصالح المحضة وتبني اللامبدأ بـ«الميكيافيلّيّة». وهم بذلك يبخسون الرّجل حقّه، ويتجاوزون على فكر سياسيّ تأسيسي كان حاسماً في تطوير فلسفة الحكم عشيّة اللّحظة بين موت العصور الوسطى وولادة العصور الحديثة عند بداية القرن السادس عشر.
وللحقيقة، فإن كل أساطين الفكر والسّياسة اعتبروا ميكيافيلّي بوابة لا بدّ من عبورها لفهم الممارسة السياسيّة والفهم الحقيقي للتاريخ دون ألبسة الأدلجة المخادعة، من سبينوزا إلى ألتوسير، مروراً بمونيسيكيو، وهوبس، وروسّو، وهيغل، وماركس، وكروتشه، وغرامشي، وغيرهم. ولا يزال كتاباه «الأمير» و«المطارحات» الأشهر متداولين بكثافة، رغم أن اللّغة فيهما تعود لثقافة ومناخات مضت عليها 5 قرون. وقد بنى غرامشي نظريته المتقدّمة عن الأمير المعاصر (بمعنى الجهة التي تتولى القيادة في مرحلة انتقاليّة لتحقيق مهمة تاريخيّة) قياساً على مفهوم الأمير الجديد، كما رسمه ميكيافيلّي تحديداً، فيما سمّاه ألتوسير فيلسوف البدايات، لدوره الذي يصعب تجاوزه في إطلاق فكر سياسي جديد يقطع بالكليّة مع ممارسات العصور القديمة والوسطى.
ولعل الصّبغة الشعبيّة المُشينة التي منحت لميكيافيلّي مردّها إلى إقدامه على وصف العمل السياسيّ وفنّ الحكم كما هي، «لا كما نحبّ أن نتخيلها» على حد تعبيره في «الأمير»، أي تلك الممارسات العمليّة الموضوعيّة للحكم، كما إدانته الحاسمة للرؤى الآيديولوجيّة للسياسة، ولا سيّما إطار الثقافة الدينيّة لممالك العصور الوسطى القائمة على الحقوق الإلهيّة والتكليفات المقدّسة والفلسفات المثاليّة.
كتب عن ميكيافيلّي كثير، ولا سيّما تجاه تحليل خطابه السياسي ونظريّته في التأريخ، كما تقديم قراءات معاصرة لكتابيه الشهيرين، فيما نحت سِيَرَهُ إلى تصوّرات مبالغ بها أو سوّق الأحداث بانتقائية للتأكيد على وجهة نظر مسبّقة بشأنه، والتّركيز على ملمح التناقض الظاهريّ بين حكمة النصوص التي تركها وتقلبات مصيره الشخصي مع مراهنته شبه الدائمة على الأطراف الخاسرة في لعبة الحكم على مسرح دويلة فلورنسة الإيطاليّة. ولذا فإن السيرة الضخمة الجديدة (768 صفحة) «ميكيافيلّي... حياته وزمانه» التي وضعها أليكسندر لي، الأستاذ بجامعة ووريك بالمملكة المتحدة والمؤرخ المتخصص بثقافة عصر النهضة في إيطاليا، تبدو كأنها أشملها وأوسعها وأكثرها اتزاناً، لناحية قراءة أحداث حياته وتفسيرها في سياق زمانه التاريخيّ، وستحتل دون شكّ بسرعة موقع مدخل، لا يُستغنى عنه لفهم ميكيافيلّي الشّخصيّة والإنسان، وراء الأفكار والطّروحات، وستملأ مساحة غير مكتملة عنه في نهج دراسة معاصر يعتمد لتفكيك النصوص التاريخيّة على فهم دقيق للظروف الموضوعيّة والمناخات الماديّة والثقافيّة التي مكنّت أفراداً معينين أن يبدعوا وينجزوا باستثناء.
عاش ميكيافيلّي في زمان سائل، كانت فيه شبه الجزيرة الإيطاليّة مقسّمة إلى دويلات كثيرة متنافسة، تتبدل تحالفاتها بأسرع من سقوط حكوماتها، وملعباً للقوى الأوروبيّة الكبرى (فرنسا، وإسبانيا، والإمبراطوريّة الرومانيّة المقدسة)، كما البابوات. وفلورنسا، مسقط رأسه ومسرح حياته، بالذّات شهدت تحولات سياسيّة عاصفة وتقلبات، فلم يقضِ أوّل 25 عاماً من حياته إلا وكان شهد رأي العين القمع الدّموي لانقلاب البيازا على أسرة المديشي، والطّاعون، وأيّام سافونارولا الثائر الدونميكيانيّ المتطرّف، وثورة مدينة بيزا، وإقصاء الميديشيين، وتأسيس أوّل جمهوريّة فلورنسيّة. كما تبدلت أحواله الشخصية أيضاً، فنشأ بداية في أجواء ثراء ووفرة، قبل أن تمرّ عليه أيّام عاش فيها فقراً مدقعاً حتى إنّه كتب قصيدة لاحقاً يسخر فيها من ذاته لكثرة ما كان هزيلاً «فكأنه منقار نقّار الخشب الرفيع»، إذ لم يكن يأكل وقتها سوى الخبز دون أيّ مرق. ويبدو أن والده كان جابياً للضرائب معادياً للمديشيين الممسكين بالسّلطة، ولذا خسر كل فرصة للترقي في عمله الحكوميّ.
التحق الشّاب نيقولو بالسنغوريا، أي الحكومة الجمهوريّة التي تشكلت في فلورنسة عام 1494 بعد إقصاء الميدشيين، موظفاً إداريّاً بدءاً من العام 1498. وقد جلبت مهاراته التنظيميّة وثقافته الرفيعة انتباه بيرو سوديريني، رئيس الجمهوريّة، فعيّنه مستشاراً وكلّفه بمهمات دبلوماسيّة للتفاوض مع الدويلات الإيطاليّة الأخرى، أخذته أحياناً عبر جبال الألب إلى فرنسا. لكن تلك كانت مهمّة صعبة بعدما وجدت بلاده نفسها دائماً أسيرة الجغرافيا والموارد المحدودة، وبين خيار الخضوع للشيطان الفرنسيّ أو اللجوء إلى البحر. ولم يحقق نجاحات تذكر أثناء تلك الفترة، وكثيراً ما انتصر عليه مفاوضون خبراء وأخذوا منه ما يريدون. لكنّه مع ذلك تشرّب فهماً عميقاً للعلاقات الدوليّة، واختلط بنخبة النّخبة في عصره، واستوعب عن كثب تأثير مصادر القوّة في المفاوضات الدبلوماسيّة ومصائر الدّول. ويبدو أن الميزانيّة المخصصة لتلك المهمّة كانت محدودة، إذ هناك إشارة عند مايكل أنجلو، النحات والرّسام الشهير، أنّه صادف ميكيافيلّي في إحدى مهمات الأخير إلى فرنسا، وأنّه قبِل أن يعطيه بعض المال على سبيل الاستدانة بانتظار وصول التحويل الماليّ له من السنغوريا. ولعل أفضل إنجازاته مع الحكومة كان تنظيمه لميليشيا شعبيّة كحرس للجمهوريّة، لكن تلك أيضاً فشلت على المدى البعيد، فقد كان تسهل رشوة قادتها بالمال والوعود.
لم تعش الجمهوريّة أكثر من 18 عاماً، قبل أن يتمكّن المديشيّون من استعادة السلطة مجدداً عام 1512. واعتقل وقتها نيقولو من قبل الحكام العائدين مجدداً إلى السلطة، وأُلقي داخل السجن، وتعرّض للتعذيب والعيش في ظروف قاسية، قبل الإفراج عنه لاحقاً بواسطة بعض المتنفذين، أو وفق رواية أخرى بعفو عشية فوز أحد المديشيين بمنصب البابا. وقد حاول بعدها التقربّ من الأسرة الحاكمة فعكف على وضع كتاب «الأمير» الذي كان على نحو ما أوراق اعتماد لاستعادة الحظوة عند أصحاب السّلطة، ونوعاً من دليل عمل للحاكم في إدارة لعبة القوّة والسيطرة مع الرعيّة والدول الأخرى. ويذكر المؤلفّ عن ذلك قصة لطيفة، إذ كان ميكيافيلّي حصل أخيراً على موعد مع لورونز مديشي الثاني، وشرع بتقديم محتوى الكتاب إليه، ليتحوّل اهتمام الأخير عنه سريعاً بعدما اقتحم مجلسهما متسلّق آخر أحضر معه كلبي صيّد نادرين هديّة للأمير. ومع ذلك، فهو بشخصيته ومعارفه نجح بالعودة إلى جوار النخبة الحاكمة، وكلّف رسمياً في 1520 بمهمة جليلة لتدوين تاريخ شامل لفلورنسة، لكنّه لم يهنأ بالاستمتاع بمجد كتابه «التواريخ» إلا وكان المديشيون قد أُجبروا على اللجوء إلى المنفى عام 1527. وتوفي بعدها بشهرين، قبل أن يتمكّن هؤلاء من العودة مجدداً للسلطة إثر حصار قاسٍ للمدينة.
لا شكّ أن هذه التجارب المكثفّة والعمليّة بالقرب من محيط صناعة الحدث السياسي في عصره منحت ذلك الفلورنسيّ المثقّف ذا البصيرة، القدرة على استخلاص الدّروس والعبر من الوقائع والتاريخ المتقلّب، متحرراً من الأفكار المسبقّة والديماغوجيّات. وإذا لم يستفد منه حكام عصره كثيراً، لقصور فيهم، فإنه عندنا اليوم مفتتح العصور الحديثة، وفيلسوفاً للبدايات، مهما حاولت الثقافة الشعبيّة النيل منه.
لا... لم يكن ميكيافيلّي «ميكيافيلياً» كما يتصوره البعض. لقد كان درّة التجربة السياسيّة لزمانه، في المساحة المظلمة لأمّة مات قديمها، ولم يكن جديدها قد ولد بعد.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.