«ألف ليلة وليلة» على طرف المائدة الأوروبية

لماذا تروي شهرزاد على شهريار وليس شاه زمان؟!

من منمنمات الواسطي
من منمنمات الواسطي
TT

«ألف ليلة وليلة» على طرف المائدة الأوروبية

من منمنمات الواسطي
من منمنمات الواسطي

يشكو ميلان كونديرا في كتابه «الستارة» من إهمال بلاده عند الحديث عن رواد التجديد الأدبي الأوروبي، ويعتبر أن هذا الظلم الأدبي ينسجم مع الظلم السياسي الأوروبي، عندما تفاوض الأربعة الكبار بشأن «بلد صغير» أنكروا عليه حق الكلام، حيث انتظر دبلوماسيان تشيكيان النتيجة طوال الليل في غرفة منفصلة. وفي الصباح اقتيدا عبر ممرات طويلة إلى رئيسي الوزراء البريطاني تشامبرلين والفرنسي دالادييه المتعبين، اللذين أخبراهما، وهما يتثاءبان نتيجة التفاوض، وهي التضحية ببلادهما، وبلغة كونديرا: أبلغاهما حكماً بالموت، على بلد بعيد تعرف عنه أوروبا القليل. مستخدماً عبارة شامبرلين (a far away Country of which we know little) ، الإشارة بالطبع إلى مفاوضات ميونيخ التي ضمت ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا في ٣٠ سبتمبر (أيلول) عام ١٩٣٨، والتي انتهت باسترضاء هتلر ومنحه تسوية تسمح له بضم منطقة السوديت التابعة لتشيكوسلوفاكيا.
وللمفارقة، فإن الكاتب المتألم من ظلم بلاده هو أكثر من رسَّخ للمركزية الأوروبية في الأدب خلال العقود الماضية. لا يمكن لأحد أن يطعن في فهم كونديرا لجوهر الفن الروائي. رؤيته شديدة التماسك طرحها في: «فن الرواية»، «الوصايا المغدورة»، و«الستار». وبينما يقدّم في ثلاثيته النقدية وصفاً متقناً لجزيرة كان يتوهم أنه يصف الكوكب.
وزَّع الفتوح الروائية على روائيي أوروبا الغربية: ريتشاردسون فحص ما يدور في الداخل، بلزاك نبه على تجذّر الإنسان في التاريخ، فلوبير كشف الحياة اليومية، وبروست قصاص أثر اللحظة الماضية، وجيمس جويس القابض على الحاضر سريع الزوال، بالكاد منح واحداً من خارج أوروبا حصة، فاعتبر تولستوي فاتح دويلة مفاجآت السلوك غير العقلاني لدى البشر. وقبل كل هؤلاء، فإن سرفانتس هو الأب الذي قدم سبراً لكيان الكائن المنسيّ. كونديرا ليس الوحيد الذي يعتبر «دون كيخوته» بداية الزمن الروائي، جاعلاً من خيال وأسلوب وتقنيات تلك الرواية مثالاً لكمال الخيال، معتبراً أن قيمة كل روائي معاصر ترتبط بمدى التزامه بوصايا سرفانتس في الكتابة، ثم يعود في «الستارة»، ليتخذ من كافكا بداية جديدة، باعتباره أول من أطلق حدود حرية الكاتب في مخالفة الواقع، وتركه مكشوفاً بلا شرطة، ولا جمارك!
درجة قصوى من الحماسة لرجلين أوروبيين، بينهما ثلاثة قرون تلفت انتباهنا إلى أن الروائي عندما يكتب النقد يمنح نفسه حرية مخالفة التاريخ، ويمضي بعيداً وراء جمال جملته بصرف النظر عن دقتها. حماسته تنبع من حماسته للمركزية الأوروبية التي لا يرفضها، بل يرفض توزيع الحصص فيها. ماذا عن خيال الأمم الأخرى؟ ماذا عن الأدب الياباني مثلاً؟!
بالنسبة لنا نحن؛ أمة العرب، منحتنا المركزية الأوروبية جائزة ترضية باهتمامها المبكر بـ«ألف ليلة»، سبقتنا بكثير للأسف، لكنها أبقت الليالي العربية على طرف المائدة في المكان المخصص لأشكال القص البدائية التي يمكن تفكيك بعض مشاهدها وتوليد معان جديدة، كما في مشروع بورخيس مثلاً.
وكوننا تأخرنا في الاهتمام بالليالي لا يسلبنا الحق في استدراك خطئنا، وإعادة التفاوض حول توصيفها الذي تم في غيابنا نحن سكان العالم العربي الذي تعرف عنه أوروبا القليل!
حكم الأوروبيون على الليالي من خلال المعايير التي وضعوها منفردين لتعريف الرواية. ومن بينها وجود مؤلف معروف للعمل. وهو ما تفتقده «ألف ليلة» بالطبع، لكنها تتمتع بالمعيار الأهم؛ فهي تروي عن البشر العاديين، بما يباعد بينها وبين الملاحم التي تتناول الآلهة والبشر الخارقين.
وإذا كانت «دون كيخوته» انقلاباً على مبالغات روايات الفروسية المنحدرة من الملاحم الأوروبية، فالليالي انقلاب على ملاحم الآلهة الشرقية القديمة كالهندية «المهابهارتا» وملحمة الرافدين «جلجامش»، وتختلف عن ملاحم البطولات البشرية الخارقة مثل سيرة عنترة والسيرة الهلالية وسيرة الظاهر بيبرس، التي يمكن وضعها بمبالغاتها في منزلة روايات الفروسية الإسبانية.
تجافي الليالي العظمة التراجيدية التي للملحمة، وتحتفي بهشاشة الإنسان من البداية: ملكان شقيقان مطعونان بخيانة زوجتيهما، أخوة مخذولون في حب أخوتهم، حمالون، صيادون، إسكافية يعانون الفقر. وتزخر بالخيال الساخر الذي يعد مأثرة دون كيخوته، كما أنها اجتازت قبل سرفانتس وكافكا «حدود عدم مشابهة الواقع» وأزالت قبلهما نقاط الحراسة للواقع وألغت الجمارك على الخيال.
ومن حيث البناء، هناك معمار روائي متماسك. ربما يموه تكنيك توالد الحكايات المراوغ هذا المعمار باستطرادات وتفرعات حكائية تبدأ وتنتهي، لكن هناك شخصيات أساسية يقوم عليها العمل: شهرزاد ودنيا زاد، شهريار وشاه زمان. وهناك مدماك قوي يشد سقف الرواية، يختفي ويظهر هو الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد وتابعه الوزير جعفر البرمكي، الذي يصاحبه كظله، حيث ينعدم الظل في الليل عندما يخرجان لتفقد الرعية.
وقد أعاد مارسيل بروست امتحان بنية الليالي في روايته الضخمة «البحث عن الزمن المفقود»، ولم ينكر عليه أحد تسميتها رواية.
تصف فريال غزول «ألف ليلة» بـ«أسطورة تكوين قصصية» تحمل في طياتها تجريد أساطير الخلق: لعنة يعقبها تمزق، ثم الخلاص أو إبطال اللعنة. (البنية والدلالة في ألف ليلة ـ مجلة فصول، عدد شتاء ١٩٩٤).
التركيب الحاذق لنص الليالي يقوم بالعبء الأكبر في توليد المعنى، وإذا كانت عمارة الليالي تحتمل حذف بعض الحكايات الداخلية، التي يبدو جلياً أن ترتيبها ونموها كان متروكاً لارتجالات الرواة، فإن الحبكة المحكمة للقصة الإطار لا تختلف من طبعة إلى أخرى. وسيكون مجهوداً أخرق، لو خصصنا الجهد للبحث عن اسم مؤلف للقصة الإطار، لمجرد التماشي مع المعايير التي وضعها النقد الغربي لاعتبار عمل ما رواية. وعلى كل حال، فقد جعل اختلاف الرواة من «ألف ليلة» نصاً لا نهائياً، ووفرت كثرتهم خيارات فنية متعددة، حيث تختلف خيارات الحذف والإرجاء والاستباق للقصة الواحدة في الطبعات المختلفة، كما تتعدد استراتيجيات اللغة بين التقريرية والتهكمية.
وعلى الرغم من أن أعداد الباحثين تفوق عدد الليالي، يقف النص مستعداً بهدايا مجهولة لكل مستكشف جديد.
تُقدم القصة الإطار ملكين أخوين، وفيها يتم التأسيس للعنة والتمزق التي ستصيب الاثنين، ثم تتولى شهر زاد علاج شهريار بالقصص التي ترويها عليه كل ليلة، ويحملنا هذا التيار العارم، فلا ننتبه لانقطاع ذكر شاه زمان.
هناك تفصيل صغير لا نلتفت إليه، يتعلق بسلوك الملكين في مواجهة الخيانة، وهو الحاسم في هذا الخيار السردي. لقد قتل شاه زمان زوجته والعبد الذي وجده معها في التو واللحظة، لكن شهريار عرف من أخيه بخيانة زوجته؛ فتريث حتى يرى بنفسه. أمر بإعداد رحلة صيد جديدة وخرج فيها، ثم غافل مرافقيه وعاد متخفياً ورأى بنفسه زوجته والجواري مع العبيد، ومع ذلك تريث للمرة الثانية وطلب من أخيه الخروج لتأمل أحوال البشر، ومعرفة إن كان هناك من جرى له ما جرى لهما، وهذه هي بادرة التريث الثالثة.
ملكان يخرجان لتأمل الخلق في مملكة أحدهما؛ فلن يلتقيا ملوكاً. هنا يجب أن ننتبه إلى تواضع شهريار الذي يجعله مستعداً لتقبل العبرة من حدث مماثل يقع لرجل أدنى منزلة، لكن تشاء الأقدار أن يقابلا امرأة تخون عفريتاً، رغم أن سلطة الجان تفوق سلطة البشر، وعند ذلك فقط تمكن الغضب من شهريار.
لم يكن عبثاً إذن أن يختار مبدع (مبدعو) الليالي الملك الذي ستروي عليه شهرزاد، فاستعداده للصفح عالٍ، وحلمه هو الذي جعله يُقدم التنازل الأخير بإعطاء سمعه لشهرزاد. وأستعير ملاحظة فريال غزول بأن قبوله لطلبها هو قبول بتبادل المواقع بينهما، فالإملاء حق مقصور على العاهل.
نهاية الليالي تبدو أكثر فنية في «طبعة برسلاو»، حيث يعود شاه زمان، الذي سكت عنه النص. فعندما يعفو شهريار عن شهرزاد ويقرر الزواج منها، يتذكر أخاه ويذكرنا به. يدعوه لحضور الزفاف، ونعرف بشكل عابر أن شاه زمان كان يواصل قتل العذارى طوال سنوات القص الثلاث!
ويخطب من أخيه دنيا زاد، وينقل شهريار هذه الرغبة لشهرزاد، فتشترط عليه أن يبقى في بلاد أخيه لأنها لا تقوى على فراق أختها؛ فيوافق على الشرط: «هذا ما كان في خاطري» ويتزوج الأخوان من الأختين، ويسافر الوزير والد العروسين إلى سمرقند ليحكم مملكة شاه زمان بالنيابة.
في هذه الطبعة لا تطلب شهرزاد من شهريار أن يعفو عنها ويتزوجها إكراماً لأطفالها الثلاثة الذكور. لا ذكر لأطفال أصلاً، فقط تخاطب الملك بأمنيتها أن يكون قد اعتبر من قصص الأولين، وهو يشكرها لأنها أوقفته من قتل بنات الناس، ويطلب يدها، في اتساق مع ما عرفناه عنه في البداية.
يمكننا أن ننظر إلى هذا التخلي بصفته هدية لدنيا زاد كي لا تفارق أختها، ويالها من هدية ضخمة بل وغير معقولة، والاحتمال الثاني أن يكون هذا التنازل عن السلطة نوعاً من العقاب أنزله شاه زمان بنفسه، يُذكِّرنا بفقء أوديب لعينيه. والسلطة أغلى من نور العينين ومن الأخ والولد.
من طبعة إلى أخرى، نرى اختلافات تجعل من الليالي مكتبة لا نهائية كالتي حلم بها بورخيس، بعض الطبعات تستكمل نقصاً فنياً في طبعة أخرى، بما يضعنا في مواجهة معمار روائي متقن، بأعمدته الأساسية وواجهته قاعاته وسراديبه وأبوابه المغلقة وموتيفاته الصغيرة يساهم في توليد المعنى جنباً إلى جنب مع الأساليب اللغوية والألعاب البلاغية والفكاهة والتهكم. ولو تأملنا العلاقة بين الواقع التاريخي والليالي نرى مقترحاً جمالياً فذاً للعلاقة بين التاريخ والرواية، يكشف عن آليات صناعة العجائبي استناداً إلى شخصيات ومواقف حقيقية.
كل دروب الإتقان هذه تجعل من الواجب استئناف نظر الحكم بطرد الليالي من جنة الرواية، لمجرد أن مؤلفها مجهول.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!