«ألف ليلة وليلة» على طرف المائدة الأوروبية

لماذا تروي شهرزاد على شهريار وليس شاه زمان؟!

من منمنمات الواسطي
من منمنمات الواسطي
TT

«ألف ليلة وليلة» على طرف المائدة الأوروبية

من منمنمات الواسطي
من منمنمات الواسطي

يشكو ميلان كونديرا في كتابه «الستارة» من إهمال بلاده عند الحديث عن رواد التجديد الأدبي الأوروبي، ويعتبر أن هذا الظلم الأدبي ينسجم مع الظلم السياسي الأوروبي، عندما تفاوض الأربعة الكبار بشأن «بلد صغير» أنكروا عليه حق الكلام، حيث انتظر دبلوماسيان تشيكيان النتيجة طوال الليل في غرفة منفصلة. وفي الصباح اقتيدا عبر ممرات طويلة إلى رئيسي الوزراء البريطاني تشامبرلين والفرنسي دالادييه المتعبين، اللذين أخبراهما، وهما يتثاءبان نتيجة التفاوض، وهي التضحية ببلادهما، وبلغة كونديرا: أبلغاهما حكماً بالموت، على بلد بعيد تعرف عنه أوروبا القليل. مستخدماً عبارة شامبرلين (a far away Country of which we know little) ، الإشارة بالطبع إلى مفاوضات ميونيخ التي ضمت ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا في ٣٠ سبتمبر (أيلول) عام ١٩٣٨، والتي انتهت باسترضاء هتلر ومنحه تسوية تسمح له بضم منطقة السوديت التابعة لتشيكوسلوفاكيا.
وللمفارقة، فإن الكاتب المتألم من ظلم بلاده هو أكثر من رسَّخ للمركزية الأوروبية في الأدب خلال العقود الماضية. لا يمكن لأحد أن يطعن في فهم كونديرا لجوهر الفن الروائي. رؤيته شديدة التماسك طرحها في: «فن الرواية»، «الوصايا المغدورة»، و«الستار». وبينما يقدّم في ثلاثيته النقدية وصفاً متقناً لجزيرة كان يتوهم أنه يصف الكوكب.
وزَّع الفتوح الروائية على روائيي أوروبا الغربية: ريتشاردسون فحص ما يدور في الداخل، بلزاك نبه على تجذّر الإنسان في التاريخ، فلوبير كشف الحياة اليومية، وبروست قصاص أثر اللحظة الماضية، وجيمس جويس القابض على الحاضر سريع الزوال، بالكاد منح واحداً من خارج أوروبا حصة، فاعتبر تولستوي فاتح دويلة مفاجآت السلوك غير العقلاني لدى البشر. وقبل كل هؤلاء، فإن سرفانتس هو الأب الذي قدم سبراً لكيان الكائن المنسيّ. كونديرا ليس الوحيد الذي يعتبر «دون كيخوته» بداية الزمن الروائي، جاعلاً من خيال وأسلوب وتقنيات تلك الرواية مثالاً لكمال الخيال، معتبراً أن قيمة كل روائي معاصر ترتبط بمدى التزامه بوصايا سرفانتس في الكتابة، ثم يعود في «الستارة»، ليتخذ من كافكا بداية جديدة، باعتباره أول من أطلق حدود حرية الكاتب في مخالفة الواقع، وتركه مكشوفاً بلا شرطة، ولا جمارك!
درجة قصوى من الحماسة لرجلين أوروبيين، بينهما ثلاثة قرون تلفت انتباهنا إلى أن الروائي عندما يكتب النقد يمنح نفسه حرية مخالفة التاريخ، ويمضي بعيداً وراء جمال جملته بصرف النظر عن دقتها. حماسته تنبع من حماسته للمركزية الأوروبية التي لا يرفضها، بل يرفض توزيع الحصص فيها. ماذا عن خيال الأمم الأخرى؟ ماذا عن الأدب الياباني مثلاً؟!
بالنسبة لنا نحن؛ أمة العرب، منحتنا المركزية الأوروبية جائزة ترضية باهتمامها المبكر بـ«ألف ليلة»، سبقتنا بكثير للأسف، لكنها أبقت الليالي العربية على طرف المائدة في المكان المخصص لأشكال القص البدائية التي يمكن تفكيك بعض مشاهدها وتوليد معان جديدة، كما في مشروع بورخيس مثلاً.
وكوننا تأخرنا في الاهتمام بالليالي لا يسلبنا الحق في استدراك خطئنا، وإعادة التفاوض حول توصيفها الذي تم في غيابنا نحن سكان العالم العربي الذي تعرف عنه أوروبا القليل!
حكم الأوروبيون على الليالي من خلال المعايير التي وضعوها منفردين لتعريف الرواية. ومن بينها وجود مؤلف معروف للعمل. وهو ما تفتقده «ألف ليلة» بالطبع، لكنها تتمتع بالمعيار الأهم؛ فهي تروي عن البشر العاديين، بما يباعد بينها وبين الملاحم التي تتناول الآلهة والبشر الخارقين.
وإذا كانت «دون كيخوته» انقلاباً على مبالغات روايات الفروسية المنحدرة من الملاحم الأوروبية، فالليالي انقلاب على ملاحم الآلهة الشرقية القديمة كالهندية «المهابهارتا» وملحمة الرافدين «جلجامش»، وتختلف عن ملاحم البطولات البشرية الخارقة مثل سيرة عنترة والسيرة الهلالية وسيرة الظاهر بيبرس، التي يمكن وضعها بمبالغاتها في منزلة روايات الفروسية الإسبانية.
تجافي الليالي العظمة التراجيدية التي للملحمة، وتحتفي بهشاشة الإنسان من البداية: ملكان شقيقان مطعونان بخيانة زوجتيهما، أخوة مخذولون في حب أخوتهم، حمالون، صيادون، إسكافية يعانون الفقر. وتزخر بالخيال الساخر الذي يعد مأثرة دون كيخوته، كما أنها اجتازت قبل سرفانتس وكافكا «حدود عدم مشابهة الواقع» وأزالت قبلهما نقاط الحراسة للواقع وألغت الجمارك على الخيال.
ومن حيث البناء، هناك معمار روائي متماسك. ربما يموه تكنيك توالد الحكايات المراوغ هذا المعمار باستطرادات وتفرعات حكائية تبدأ وتنتهي، لكن هناك شخصيات أساسية يقوم عليها العمل: شهرزاد ودنيا زاد، شهريار وشاه زمان. وهناك مدماك قوي يشد سقف الرواية، يختفي ويظهر هو الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد وتابعه الوزير جعفر البرمكي، الذي يصاحبه كظله، حيث ينعدم الظل في الليل عندما يخرجان لتفقد الرعية.
وقد أعاد مارسيل بروست امتحان بنية الليالي في روايته الضخمة «البحث عن الزمن المفقود»، ولم ينكر عليه أحد تسميتها رواية.
تصف فريال غزول «ألف ليلة» بـ«أسطورة تكوين قصصية» تحمل في طياتها تجريد أساطير الخلق: لعنة يعقبها تمزق، ثم الخلاص أو إبطال اللعنة. (البنية والدلالة في ألف ليلة ـ مجلة فصول، عدد شتاء ١٩٩٤).
التركيب الحاذق لنص الليالي يقوم بالعبء الأكبر في توليد المعنى، وإذا كانت عمارة الليالي تحتمل حذف بعض الحكايات الداخلية، التي يبدو جلياً أن ترتيبها ونموها كان متروكاً لارتجالات الرواة، فإن الحبكة المحكمة للقصة الإطار لا تختلف من طبعة إلى أخرى. وسيكون مجهوداً أخرق، لو خصصنا الجهد للبحث عن اسم مؤلف للقصة الإطار، لمجرد التماشي مع المعايير التي وضعها النقد الغربي لاعتبار عمل ما رواية. وعلى كل حال، فقد جعل اختلاف الرواة من «ألف ليلة» نصاً لا نهائياً، ووفرت كثرتهم خيارات فنية متعددة، حيث تختلف خيارات الحذف والإرجاء والاستباق للقصة الواحدة في الطبعات المختلفة، كما تتعدد استراتيجيات اللغة بين التقريرية والتهكمية.
وعلى الرغم من أن أعداد الباحثين تفوق عدد الليالي، يقف النص مستعداً بهدايا مجهولة لكل مستكشف جديد.
تُقدم القصة الإطار ملكين أخوين، وفيها يتم التأسيس للعنة والتمزق التي ستصيب الاثنين، ثم تتولى شهر زاد علاج شهريار بالقصص التي ترويها عليه كل ليلة، ويحملنا هذا التيار العارم، فلا ننتبه لانقطاع ذكر شاه زمان.
هناك تفصيل صغير لا نلتفت إليه، يتعلق بسلوك الملكين في مواجهة الخيانة، وهو الحاسم في هذا الخيار السردي. لقد قتل شاه زمان زوجته والعبد الذي وجده معها في التو واللحظة، لكن شهريار عرف من أخيه بخيانة زوجته؛ فتريث حتى يرى بنفسه. أمر بإعداد رحلة صيد جديدة وخرج فيها، ثم غافل مرافقيه وعاد متخفياً ورأى بنفسه زوجته والجواري مع العبيد، ومع ذلك تريث للمرة الثانية وطلب من أخيه الخروج لتأمل أحوال البشر، ومعرفة إن كان هناك من جرى له ما جرى لهما، وهذه هي بادرة التريث الثالثة.
ملكان يخرجان لتأمل الخلق في مملكة أحدهما؛ فلن يلتقيا ملوكاً. هنا يجب أن ننتبه إلى تواضع شهريار الذي يجعله مستعداً لتقبل العبرة من حدث مماثل يقع لرجل أدنى منزلة، لكن تشاء الأقدار أن يقابلا امرأة تخون عفريتاً، رغم أن سلطة الجان تفوق سلطة البشر، وعند ذلك فقط تمكن الغضب من شهريار.
لم يكن عبثاً إذن أن يختار مبدع (مبدعو) الليالي الملك الذي ستروي عليه شهرزاد، فاستعداده للصفح عالٍ، وحلمه هو الذي جعله يُقدم التنازل الأخير بإعطاء سمعه لشهرزاد. وأستعير ملاحظة فريال غزول بأن قبوله لطلبها هو قبول بتبادل المواقع بينهما، فالإملاء حق مقصور على العاهل.
نهاية الليالي تبدو أكثر فنية في «طبعة برسلاو»، حيث يعود شاه زمان، الذي سكت عنه النص. فعندما يعفو شهريار عن شهرزاد ويقرر الزواج منها، يتذكر أخاه ويذكرنا به. يدعوه لحضور الزفاف، ونعرف بشكل عابر أن شاه زمان كان يواصل قتل العذارى طوال سنوات القص الثلاث!
ويخطب من أخيه دنيا زاد، وينقل شهريار هذه الرغبة لشهرزاد، فتشترط عليه أن يبقى في بلاد أخيه لأنها لا تقوى على فراق أختها؛ فيوافق على الشرط: «هذا ما كان في خاطري» ويتزوج الأخوان من الأختين، ويسافر الوزير والد العروسين إلى سمرقند ليحكم مملكة شاه زمان بالنيابة.
في هذه الطبعة لا تطلب شهرزاد من شهريار أن يعفو عنها ويتزوجها إكراماً لأطفالها الثلاثة الذكور. لا ذكر لأطفال أصلاً، فقط تخاطب الملك بأمنيتها أن يكون قد اعتبر من قصص الأولين، وهو يشكرها لأنها أوقفته من قتل بنات الناس، ويطلب يدها، في اتساق مع ما عرفناه عنه في البداية.
يمكننا أن ننظر إلى هذا التخلي بصفته هدية لدنيا زاد كي لا تفارق أختها، ويالها من هدية ضخمة بل وغير معقولة، والاحتمال الثاني أن يكون هذا التنازل عن السلطة نوعاً من العقاب أنزله شاه زمان بنفسه، يُذكِّرنا بفقء أوديب لعينيه. والسلطة أغلى من نور العينين ومن الأخ والولد.
من طبعة إلى أخرى، نرى اختلافات تجعل من الليالي مكتبة لا نهائية كالتي حلم بها بورخيس، بعض الطبعات تستكمل نقصاً فنياً في طبعة أخرى، بما يضعنا في مواجهة معمار روائي متقن، بأعمدته الأساسية وواجهته قاعاته وسراديبه وأبوابه المغلقة وموتيفاته الصغيرة يساهم في توليد المعنى جنباً إلى جنب مع الأساليب اللغوية والألعاب البلاغية والفكاهة والتهكم. ولو تأملنا العلاقة بين الواقع التاريخي والليالي نرى مقترحاً جمالياً فذاً للعلاقة بين التاريخ والرواية، يكشف عن آليات صناعة العجائبي استناداً إلى شخصيات ومواقف حقيقية.
كل دروب الإتقان هذه تجعل من الواجب استئناف نظر الحكم بطرد الليالي من جنة الرواية، لمجرد أن مؤلفها مجهول.



هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».