ماكس فيبر و«ثقافة العمل» في الأديان

ماكس فيبر
ماكس فيبر
TT

ماكس فيبر و«ثقافة العمل» في الأديان

ماكس فيبر
ماكس فيبر

يمثل المفكر الاجتماعي الألماني ماكس فيبر (Weber)، واحداً من أهم رواد المدرسة الألمانية والعالمية في علم الاجتماع، بعد تأسيسه على أيدي إميل دركهايم وأوجست كومت، من عدة حقب قبله. ورغم تعدد نظرياته، إلا أن واحدة من أهمها على الإطلاق كان في مجال علم الاجتماع الديني، أي دور الدين في التطور، أو في التخلف الاجتماعي والاقتصادي، وهنا المقصود ليس الدين بالمفهوم العقائدي أو التفسيري. وكان من أهم أعماله على الإطلاق كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» الصادر في 1905، فكانت رسالته الأساسية هي أن حركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) برؤيتها ورسائلها الجديدة، بعيداً عن الكاثوليكية وسيطرة الكنيسة بتعاليمها في أوروبا على مدار قرون ممتدة، ساهمت في وضع اللبنات الأساسية لإنجاح التجربة الرأسمالية في المناطق التي انتشرت فيها لأسباب تتعلق بتفسيراتها للكتاب المقدس والمخالفة للكاثوليكية، خصوصاً ما يتعلق منها بأخلاقيات العمل والثراء.
وقد انطلق فيبر من فرضية واقعية، وهي أن الدول والمقاطعات البروتستانتية كانت أكثر المناطق في القارة الأوروبية رأسماليةً ونجاحاً، وقد برر ذلك باتفاق الفرق البروتستانتية جميعها على رفض التفسير الكاثوليكي لآية النص المقدس «أن يدخل الجمل في ثَقْب الإبرة أيسرُ من أن يدخل الغني ملكوت الله»، حيث اتفقت الفرق على أن المقصود منها ليس الثراء في حد ذاته، ولكن «الجشع» المتولد عنه أو الغرور أو البخل، وهو ما فتح المجال أمام مفهوم العمل لإصابة الثراء من دون أي قيود.
لقد كان دور الراهب الإصلاحي مارتن لوثر، جوهرياً في توجيه دفة الرؤية الجديدة، ليس فقط لأنه فتح المجال أمام فرص الثراء، وشجعه، ولكن أيضاً لأنه أضفى لمفهوم الفردية بُعداً جديداً كان من نتائجه توجيه الدفة نحو الاهتمام بالفرد في الدنيا، بعيداً عن سيطرة أو وساطة الكنيسة الكاثوليكية، فمنح للفرد قيمة أكبر مقابل، ليس فقط الدعوة نحو الفكر الجماعي في الكاثوليكية، ولكن أيضاً نحو الحرية الفردية غير المقيدة إلا بتقوى الله ومراعاة تعاليمه دون رقيب، أو تسلط من قبل مؤسسة دينية، وقد أدت هذه الفردية لظهور مفهوم جديد نحو العمل، وأهميته، باعتباره جزءاً من رسالة الإنسان على الأرض، وما يستتبعه من ثراء بطبيعة الحال طالما أنه لا يتعارض مع التعاليم الإلهية.
وفي الفترة الزمنية نفسها، ظهر فريق جون كالفن، مؤسس الحركة «الكالفينية»، التي دفعت في الاتجاه نفسه، ولكن بوسيلة أخرى. ونظراً لإقرارها مفهوم «التسيير»، أي أن الإنسان مسيرٌ، لأن الله سبحانه وتعالي قد اصطفى بالفعل منذ البداية عباده الذين سيدخلون الجنة، ولكنهم لا يعرفون ذلك، فبالتالي يكون الثراء، في حد ذاته، إشارة إلهية بنعمته على العبد، ومن ثم يزيد فرصه في النجاة في الآخرة. وبهذا المفهوم قُضي على الربط بين الثراء والخطيئة، وذلك شريطة التقوى، وأن يُستخدم الثراء في صنع الخير، وهكذا أصبح توليد الثروة جزءاً مهماً من المعتقد، وهو نفس ما دعت إليه الكنائس البروتستانتية برؤى مختلفة. وقد أدى ذلك لتحول مفهوم العمل من مجرد وسيلة للحياة إلى حافز للثراء لإبراز رضاء المولى سبحانه على الفرد، وهو ما خلق مفهوم «أخلاقيات العمل» التي وردت في عنوان كتابه، وأدت إلى النجاح النسبي المقارن للتجربة الرأسمالية في المقاطعات البروتستانتية.
كان فيبر بطبيعة الحال على نقيض الفكر اليساري البازغ في أوروبا، فعارض فكر كارل ماركس، لا سيما وصفه للدين بأنه أفيون الشعوب، يُستخدم من أجل إخضاع الطبقات المختلفة لمصلحة الطبقة الغنية والحاكمة في الأطر، سواء الرأسمالية أو غيرها. وأياً كان هذا الخلاف، فقد أكد فيبر أن أخلاقيات العمل، وفقاً لكل الأديان، كانت من العوامل الحاسمة في تطور المجتمعات، ولكننا لا يجب إغفال رؤيته أن كثيراً من الأديان الأخرى، منها الإسلام، لم تفرز نتائج البروتستانتية نفسها، وذلك بالنظر إلى مستوى النمو في الدول الإسلامية في مطلع القرن الماضي، والتقدير هنا أن فيبر تجاهل أو لم يتعمق في أساسيات الدين الحنيف، ولكنه أخذه بالرؤية الإجمالية لأوضاع شعوبه، فمن أسباب التخلف وعدم انتشار الرأسمالية والتقدم في العالم الإسلامي آنذاك كان الحكم العثماني لقرون ضحلة ممتدة، إضافة إلى ما تلاه من حركات استعمار، إضافة إلى فساد النخب السياسية المرتبطة بالاثنين، وذلك إضافة لجملة من الأسباب الأخرى، التي لا يمكن إرجاعها للإسلام.
وهنا يكون التعميم الذي يشمل الإسلام في حاجة لمراجعة نقدية، فنحن أمة «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»، وقوله تعالى «المال والبنون زينة الحياة الدنيا»، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»، ولكن المشكلة في كثير من الأحيان ترتكز على نظرة الباحث للإسلام، ومدى عمق معرفته به، لتقييم دوره في المجتمع، فضلاً عن خطورة الخلط بين الإسلام وتاريخ المسلمين، ولهذا حديث آخر، ولكن يبدو أن الظواهر الاجتماعية صارت لما فُسرت له أو به... فرفقاً بالإسلام.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.