جماليات الظل... عندما يتوارى الفنانون

مجموعة صغيرة لكن عالية التأثيرات تفضّل أن تتحدث أعمالها عن نفسها

جماليات الظل... عندما يتوارى الفنانون
TT

جماليات الظل... عندما يتوارى الفنانون

جماليات الظل... عندما يتوارى الفنانون

في هذه الأيام يُتوقع من الفنانين في كل المجالات أن يكونوا مستعدين للاستهلاك العام. غير أن مجموعة صغيرة وعالية التأثير منهم اختارت أن تتوارى عن المجتمع مفضّلة أن تدع أعمالها تتحدث عن نفسها. ماذا يعني ألا يكون المرء قريب المتناول في عصر التشارك المكثف؟
بالنسبة لأولئك منّا الذين بلغوا من العمر ما يجعلهم يتذكرون عصراً لم نحتج فيه إلى أن نفسر وجودنا على شبكات التواصل الاجتماعي، عندما كان يمكننا أن نحضر حفل عشاء دون أن تُلصق صورُنا مثل الوعول في «إنستغرام» شخص ما، حين كانت الخصوصية تُحترم وكان للمعاني العميقة فسحة كافية لتتجذر وتزهر، ليس من المدهش أن نرى الفنانين يهربون من ضجيح الحياة العامة. كيف يمكننا أن ننظر ونستمع إذا كنا مشغولين بنظر الناس واستماعهم إلينا؟
لقد اكتسب الفن، كما كتبت سوزان سونتاغ في مقالة تعود لعام 1967 عنوانها «جماليات الصمت»، صفة روحية في ثقافة علمانية، صار مكاناً لمحاسبة المشروع الإنساني ومساءلته وربما حتى تجاوزه. الإبداع، بتعبير آخر، لا يتعلق فقط بالتعبير الذاتي؛ إنه أيضاً عالم من الضبابية، يرضي «حنيننا إلى غيمة اللامعرفة فيما وراء المعرفة، إلى الصمت فيما وراء الكلام». الصمت جزء أساس من العملية الإبداعية، فهو يفتح فضاء للتأمل. تقول سونتاغ: «بقدر ما أن الفنان جاد فإن ثمة ما يغريه باستمرار بأن يوقف حواره مع الجمهور». الانسحاب من الحياة العامة هو «إيماءة الفنان القصوى خارج هذا العالم: بالصمت يحرر نفسه من قيد الخضوع للعالم الذي يبدو كراعٍ، عميل، زبون، ضد، حكم، ومشوّه لعمله».
يسن الفن القوانين ما بين منطقتي الخاص والعام؛ لقد كان في الغالب نوعاً من الاختباء في العلن، مكاناً للهويات المرمزة، للمبهم من الغنائية. يرى مارسيل بروست أن «ما يمكّننا من النظر عبر أجساد الشعراء ويتيح لنا رؤية أرواحهم، ليس عيونهم، ولا أحداث حياتهم، وإنما هي كتبهم، وبالذات حيث تود أرواحهم، برغبة غريزية، أن تخلد». ولذا فإن من المناسب أن تعجب سونتاغ، وهي الناقدة الصريحة والروائية، بهذه التوترات: حاجة الفنان إلى التجريدات والغموض، رغبة الناقد في التوضيح.
أنها كتبت هذا قبل انفجار عالم الفن، قبل أن يؤلّه الفنانون ويصوروا كما لو كانوا منقذين لعالم مكسور، قبل أن ننظر إليهم ليس بحثاً عن الجمال والإلهام والتوكيد فحسب وإنما عن شكل من أشكال النقد الذاتي، له صلة وثيقة بالتأكيد بعلاقتها بالنجوم. لقد عرفت سونتاغ، وهي واحدة من آخر المثقفين العامين حتى وفاتها عام 2004، وبشكل مباشر ثمن ذلك الاهتمام: أي تشتيت للانتباه يمكن لذلك أن يكون؛ إلى جانب خطورة الرقابة الذاتية بغية النفخ في صورة الذات. (حتى بعد رحيل سونتاغ، انتقدها كاتب سيرتها بنجامين موزر، في «سونتاغ: حياتها وأعمالها» 2019 لأنها لم تتحدث علناً عن ميولها الجنسية في أثناء أزمة الإيدز).
اليوم نتوقع من الفنانين أن يقوموا بدور في الحياة العامة، أن يذعنوا للمقابلات وملفات المجلات ليشرحوا ويبرروا عملهم، أن يحضروا حفلات الافتتاح بملابس باذخة، أن يتحدثوا بقوة وبتفصيل حول النسوية والعنصرية وغياب العدالة الاجتماعية وآخر الكوارث سواء كانت سياسية أو بيئية.
ومع ذلك ظل هناك دائماً عالم ظل صغير وقوي لمبدعين نجحوا في مخادعة التوقعات العامة بدرجات متفاوتة، متجنبين الصحافة المدققة وجولات الكتب بينما يظل الشعور قوياً بتأثيرهم. بعضهم حقق ذلك باللجوء لأسماء مستعارة، بينهم بانكسي وإلينا فيرانتي التي كتبت بكثافة عن التحرر الذي عثرت عليه بفصل صورتها العامة عن عملها. آخرون وظّفوا ذواتهم البديلة لإيصال رسائلهم، مثل ديفيد باوي الذي تبنى شخصية زغي ستاردكت، وهو مغني روك غريب يأتي إلى الأرض برسالة أمل وينتهي بأن يقضي عليه معجبوه وشطحاته. إنها إحدى التعليقات الموسيقية العظيمة على الشهرة، تعليقة أبدعت في زمن كان فيه باوي نفسه يدمر نفسه في ضوء الشهرة.
بوصفي ناقداً يتمحور عمله على فكرة أن هناك الكثير من القيمة التي يمكن تعلمها من السياقات الخاصة، سواء كانت شخصية أو غير ذلك، سياقات يصنع فيها الفن، أجد نفسي أتنقل بين نزعتين: الرغبة في الاقتراب من تلك الحقائق الصعبة وفهم الثمن الحقيقي للانكشاف. أود حماية منابع الإلهام، تلك الخواطر الرومانسية «القادمة من عزلة أعمق» بتعبير وردزورث، بينما أتيح فضاء لذلك النوع من القص القوي والممكن في الفن، القصص التي كثيراً ما تسعى هذه الأيام لملء الفراغ التاريخي.
نادر في الحقيقة هو الفنان الذي ينجح في الفصل التام بين الهوية الشخصية والعمل، مثلما فعل مارتن مارغييلا، أحد أكثر المصممين تأثيراً على الإطلاق على الرغم من حقيقة أن قلة من أهل الأزياء يعرفون شكله. صار اسمه كناية عن الهدوء الطليعي. في الفنون الجميلة غالباً ما يفسَّر الانسحاب من الحياة العامة بأنه امتداد لمشروع فني، كما حدث حين أخذ الفنان المفاهيمي لي لوزانو عملاً دشامبياً (نسبةً إلى مارسيل دشامب) وانسحب «بقطعة ساقطة» نحو عام 1970 رافضة الاتصال بأصدقاء قدامى وشركاء، راسمة بشكل أساسي إطاراً حول غيابها، مدونة في مذكراتها أن ذلك كان «أصعب عمل قمت به» لأنه «يتضمن تدميراً للعادات العاطفية القوية (أو على الأقل فهماً تاماً لها)». كادي نولاند، التي لا تزال واحدة من أعلى الفنانات الأحياء في المبيعات، توقفت عن عرض أعمالها نحو عام 2000 بل وأخذت في التنكر لبعضها: في عام 2011 أعلنت أنها تخلت عن شاشة حرير فيها تلف تعود للعام 1990 اسمها «رعاة بقر يحلبون»؛ في عام 2014 كان دور عملها النحتي «واجهة كوخ خشبي» التي تعود لعام 1990 والتي أُعيد ترميمها بصورة مكثفة من دون موافقتها أو حتى استشارتها.
مغادرة هؤلاء النساء، مثل الفنانة التدخلية لوري بارسونز، التي تركت حياتها الفنية لتصير ناشطة اجتماعية، لا تبدو كما لو كانت «إيماءة زهد قصوى» بقدر ما هي شكل من أشكال المقاومة لعالم فنون أبوي يهيمن عليه اقتصاد السوق.
لكن قلة من الفنانين نجحوا في هذا النوع من الرفض بوصفه احتجاجاً كما نجح ديفيد هامونز، الذي يعد من أكثر الفنانين المعاصرين تقديراً على الرغم من حقيقة أنه من النادر أن يقبل بإجراء حوار (يشبهها باستجوابات البوليس) أو أن يحضر افتتاح أعماله. لقد نظر إلى هذا أيضاً وعلى نطاق واسع على أنه إيضاح لغرور العالم الفني الذي يهيمن عليه البيض، لكن الفنان، وهو أسود، ذكر أنه أكثر حرصاً على خصوصيته من أن يتحدث عن مصادر أعماله، إنه إن فعل ذلك فسيشعر كما لو كان ذلك إساءة جسدية.
إن هامونز شهير بما يكفي ليدع عمله يتحدث عن نفسه، على عكس الكاتب توماس بينشن الذي لم تقلل انعزاليته من مكانته وتأثيره على الأدب الأميركي (ربما العكس هو الصحيح). ومع ذلك فإن الانسحاب من الحياة العامة بشكل تام لا يخلو من مخاطر: ففي مقابل كلٍّ بنشن أو غريتا غاربو أو هامونز هناك شخص مثل لي بونتيكو التي كانت من أكثر الأسماء الفنية إثارة في ستينات القرن الماضي قبل أن تترك نيويورك في أوائل السبعينات وتتوارى عن الأنظار.
لقد عرفت بونتيكو، وهي أول امرأة يمثلها صاحب المعارض القوي ليو كاستيلي، بأصالتها المذهلة، نتوءاتها الجدارية المصنوعة من الفولاذ والقماش؛ اتسم أغلبها بموتيف الثقب الأسود. في ذلك الوقت بدا كأنها تقريباً اختفت في أحد أعمالها في حين أنها في الحقيقة تركت المدينة مع زوجها وابنتها (واستمرت تدرّس في كلية بروكلين على مدى العقدين التاليين). لم تتوقف أبداً عن صنع الأعمال الفنية، كما يتضح من معرض عام 2003 في متحف هامر التابع لجامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس: على مدى ثلاثة عقود من العزلة النسبية تطور عملها إلى منحوتات مرهفة وعالية التركيب توحي بأجسام سماوية، وأنظمة شمسية وخرائط النجوم.
إن من الصعب تصور أنه من دون تلك الفترة من الانعزال أن الأمور كانت ستبدو كما بدت. قصتها تقول لَكم هي اعتباطية –وعديمة القيمة– أوسمة الاحتفاء الجماهيري حين يتصل الأمر بالإبداع نفسه. والأمر كما قالت الفنانة نفسها في حديثها لآن فيلبن، مديرة معرض هامر: «لم أترك عالم الفن أبداً. أنا في عالم الفن الحقيقي».
كم نحتاج حقيقة إلى أن نعرف عن الفنانين الذين نعجب بهم؟ لقد فكرت بهذا مؤخراً وأنا أقرأ ملفاً نشرته مجلة «بتشفورك» حول دان بيجار صاحب العمل الموسيقي «دستروير»، الذي يقول إن أفضل عروضه كانت تنتج عن التفاتته بعيداً عن الجمهور باتجاه فرقته الموسيقية. قال: «حين أكون واحداً من الجمهور في كل ما شاهدت من العروض فإن ما أتمناه هو فقط أن أصاب بالحيرة. ذلك كل ما أريد من الفن. أربِكْني، أوقِفْني في طريقي. ليس من الضروري أن نمضي عبر شيء ما معاً».
لكن من المؤكد أننا نمضي عبر شيء ما معاً – أو على الأقل تلك هي التعويذة التي تلقيها الأغنية أو الرواية أو الفيلم الذي «نحب»: إن اللغة ذاتها التي نستعمل للحديث عن الفن توحي بالرومانسية. إن من الصعب عليّ –وأنا أسمع الصوت، أقرأ الكلمات– ألا أشعر بارتباط بالشخص الذي يقف خلف العمل الإبداعي الذي ينجح بإرباكي حقاً. تجربة الفن هذه، مثل الحب، تجربة نادرة وحقيقية ورائعة وفي نهاية المطاف غير قابلة للتحديد؛ هي مثل الحب نحس بها بشكل خاص من حيث هي ذاتية المصدر ومع ذلك مؤكَّدة علناً من خلال ثقافتنا. وهكذا نسعى لمعرفة المزيد، ربما لنجد أنفسنا في حكاية الفنان ونصير جزءاً من غموضها. نقول إن مما يستحق المخاطرة أن نفك اللغز.
- {نيويورك تايمز تي ماغازين}



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.