«كورونا»... و«تعب الأخبار»!

«كورونا»... و«تعب الأخبار»!
TT

«كورونا»... و«تعب الأخبار»!

«كورونا»... و«تعب الأخبار»!

لقد ظهرت أدلة قوية، في مناطق العالم المختلفة، على أن فيروس «كورونا» تسبب في حالة مرضية خطيرة بجانب ما يسببه من آثار صحية مباشرة على المصابين به، وتلك الحالة تسميها الأكاديمية الوطنية للعلوم، بألمانيا، بـ«تعب الحذر» (Caution Fatigue)، الذي أدى إلى شيوع شعور متواصل بالإنهاك والتوتر، ما انعكس في زيادات ملموسة في حالات العنف المنزلي، والإقدام على الانتحار، وتعاطي الكحوليات.
تلعب التغطية الإعلامية لتداعيات شيوع الوباء عبر العالم دوراً جوهرياً في تفاقم تلك الحالة، عبر كثافة المعالجات الإعلامية غير المدروسة للجائحة وآثارها، بشكل أعاد الحياة إلى مصطلح تعرفه المقاربات العلمية للأثر النفسي الناجم عن التعرض للأخبار السلبية؛ وهو مصطلح «تعب الأخبار» (News Fatigue).
وببساطة شديدة، فإن «تعب الأخبار» هو حالة تصيب الفرد والجماعة جراء التعرض المتكرر لسيل من الأخبار والمعالجات الإعلامية لظاهرة سلبية، بما يؤثر تأثيراً ضاراً في الصحة النفسية، وفي الاتجاهات الوجدانية، ويعزز حالة التوتر وعدم اليقين، ويُفقد الجمهور القدرة على اتخاذ القرارات السليمة.
في 12 مايو (أيار) الجاري، نشر مكتب الاتصالات (Ofcom)، المسؤول عن ضبط أداء وسائل الإعلام والاتصال في المملكة المتحدة، نتائج أولية من دراسة مهمة تحت عنوان: «أخبار ومعلومات (كوفيد 19): الاستهلاك والاتجاهات»، وهي نتائج أظهرت تراجعاً لافتاً في معدلات تزود الجمهور بالأخبار عن الجائحة، ومشاركتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بموازاة زيادة أعداد الوفيات والمصابين.
يقول مكتب الاتصالات البريطاني إن الدراسة التي يتم إجراؤها إلكترونياً على عينة من ألفي شخص، لمدة ثلاثة شهور، أظهرت أن 34 في المائة من المبحوثين في الأسبوع الخامس قالوا إنهم باتوا يتفادون التعرض لأخبار «كورونا»، مقارنة مع 22 في المائة في الأسبوع الأول. كما تراجعت نسبة الذين يتشاركون الأخبار عن الوباء عبر منصات التواصل الاجتماعي من 25 في المائة في الأسبوع الأول إلى 14 في المائة فقط في الأسبوع الخامس، كما انخفضت نسبة الذين يعتمدون على «السوشيال ميديا» كمصدر معلومات عن الوباء من 49 في المائة إلى 34 في المائة في الفترة نفسها.
وفي أستراليا، حدث شيء مشابه تماماً؛ إذ أظهرت نتائج دراسة أجراها مركز بحوث الأخبار والإعلام، بجامعة كانبرا، في أبريل (نيسان) الماضي، على عينة من 2196 شخصاً، أن أكثر من نصف المبحوثين أفادوا بأنهم «تعبوا من متابعة الأخبار بشأن الوباء، وأن استمرارهم في التعرض للمعالجات الإعلامية للجائحة جعلهم «أكثر توتراً».
لقد أدت هذه التطورات إلى ظهور اتجاه واضح لتجنب متابعة الأخبار الخاصة بالوباء، والميل إلى الاكتفاء بمشاهدة المواد الترفيهية، هروباً من الضغوط التي يسببها التعرض المستمر لأخبار تداعيات الجائحة، وما تخلفه من كوارث نفسية وصحية واقتصادية، بدا أن القدرة على تحملها آخذة في التضاؤل.
تقول هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إن البرامج ذات الطابع الترفيهي عادت تدريجياً إلى قمة المضامين الإعلامية الأكثر مشاهدة في أستراليا، بينما وصل عدد مشاهدي البرامج الإخبارية إلى أدنى مستوى له منذ بدء فرض الإغلاق الكامل في بريطانيا، وفي دراسة أجراها معهد «بيو» للأبحاث، في أبريل (نيسان) الماضي، أفاد 70 في المائة من المستطلعة آراؤهم، في الولايات المتحدة، بأنهم بحاجة إلى «استراحة» من متابعة أخبار الوباء.
لا يبدو أن الطريقة التي اتبعها كثير من وسائل الإعلام في العالم لمعالجة حالة «كورونا» كانت ناجعة، وعلى الأرجح فقد أدت إلى إصابة الجمهور بـ«تعب الأخبار»؛ لأنها أفرطت في بث التغطيات المتعلقة بالوباء من جانب، وعرضت إفادات متضاربة عززت حالة عدم اليقين، وأشاعت التشوش، وعمقت التوتر من جانب آخر.
وسائل الإعلام في حاجة إلى وقفة ضرورية مع تغطية أخبار «كورونا»، تتفادى من خلالها إيقاع جمهورها في فخ «التعب»، وسيستلزم ذلك مواصلة العرض الدقيق المدروس لأخبار الجائحة، بشكل يتوازن مع الاهتمامات الأخرى، ويتوخى الاتساق، بعيداً عن نشر الإفادات الخاطئة والحجج المعارضة غير المنطقية، التي تخلق التشوش، وتفقد الجمهور الاتجاه، وتبقيه ضحية للتوتر وعدم اليقين.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.