«بن لادن الصحراء» سيرة لشاب مغمور أصبح أبرز قادة «القاعدة» بالساحل

مراسل سابق لـ«بي بي سي» عايش يوميات التنظيم.. وواجه الاتهام بالتجسس

مؤلف الكتاب الأمين محمد سالم مع أحد قيادات القاعدة
مؤلف الكتاب الأمين محمد سالم مع أحد قيادات القاعدة
TT

«بن لادن الصحراء» سيرة لشاب مغمور أصبح أبرز قادة «القاعدة» بالساحل

مؤلف الكتاب الأمين محمد سالم مع أحد قيادات القاعدة
مؤلف الكتاب الأمين محمد سالم مع أحد قيادات القاعدة

لم يكن الصحافي العربي محمد الأمين الذي خبر منطقة الساحل والصحراء يخطط عندما زار مالي أول مرة، أن يقدم للعالم شخصية تعتبر الأكثر تأثيرا في التنظيمات المتشددة في المنطقة. لكن مهماته الصحافية قادته إلى نقاط مظلمة وغير معروفة من تاريخ تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» من خلال تتبع سيرة أهم قادته.
اختار المراسل السابق للخدمة الفرنسية في «بي بي سي» أن يسلط الضوء على التنظيم المتشدد عبر زاوية من يعتبر أبرز قادته ورجله القوي والفاعل في منطقة الساحل والصحراء، الجزائري مختار بلمختار (المعروف بخالد أبو العباس و«الأعور»)، القائد الحالي لكتيبة «الموقعين بالدماء»، والتي عرفت أيضا بـ«المرابطين» و«الملثمين»، ومن أعنف عملياتها هجوم «عين أميناس» في الجزائر، العام الماضي.
«بن لادن الصحراء» كتاب هو الأول من نوعه، يقدم في 208 صفحات؛ صورة مقربة لتنظيم شهد توسعا كبيرا خلال العقدين الأخيرين، وكان وراء ذلك بلمختار الذي انتقل من شاب مغمور عائد من القتال في أفغانستان (ذهب إليها 1991 وعمره 19 عاما)، إلى القيادي الأبرز في المجموعات المتشددة في المنطقة.
الكتاب الصادر باللغة الفرنسية، عن منشورات «لا مارتنيير» في فرنسا أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يعتبر «تحقيقا غير مسبوق حول شخصية مشهورة، لكنها غير معروفة»، بحسب الناشر.
يضم الكتاب 10 فصول أساسية، و4 أخرى تمهيدية وختامية، ويحمل الفصل العاشر عنوان «على خطى بن لادن الصحراء»، بينما تروي الفصول الأولى يوميات التنظيم وتاريخه.
ويقول مؤلف الكتاب الصحافي الموريتاني المقيم في فرنسا الأمين ولد محمد سالم إنه يقدم «بروفايل» عن أقدم قائد سلفي متشدد في منطقة الصحراء الكبرى، والعقل المدبر لأكثر العمليات، وصاحب الخبرة والتأثير والنفوذ، على الرغم من أنه لم يكن معروفا خلال السنوات الأخيرة، حيث صبت الصحافة اهتمامها باتجاه قائد تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» عبد المالك درودكال، والقيادي الآخر عبد الحميد أبوزيد؛ وتغاضت عن بلمختار.
ويقول الأمين، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إنه اعتمد على عمل ميداني خلال أشهر من الإقامة المتقطعة في تمبكتو وغاو وكيدال شمال مالي بين 2010 و2013 قبل سيطرة الجماعات المتشددة عليها وأثناء سيطرتها وبعد طردها.
الصحافي المغامر، والذي يعمل حاليا مراسلا لصحيفتي «لا تربين دو جنيف» السويسرية و«سيد إست» الفرنسية، يقول إنه حاول قدر المستطاع ألا يعتمد على المصادر الرسمية (المخابرات ورجال الأمن)، مع أنه لجأ مرات لمسؤولين سياسيين وأمنيين، لكنه ركز في تحقيقه الاستقصائي، على عناصر من مقربي بلمختار في مقدمتهم الحسن ولد الخليل (المعروف بجليبيب) الناطق باسمه وساعده الأيمن. وكذلك عمر ولد حماها القائد العسكري للتنظيم وصهر بلمختار، وحمادة محمد خيرو مؤسس «جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» ورئيس «مجلس القضاء» في غاو، إضافة إلى تجار ومهربين ووجهاء قبليين تعايشوا وعملوا مع بلمختار ويعرفونه عن قرب.
تعود البدايات الأولى لظهور قوة بلمختار حين باغت نقطة عسكرية للجيش الموريتاني على الحدود مع الجزائر وقت صلاة الفجر، يوم 4 يونيو (حزيران)، فقتل 15 جنديا وقائدهم وأصيب 17 بجروح، من أصل 53 عسكريا، بينما قتل 6 متشددين من أصل أكثر من 150 شنوا الهجوم.
تحولت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» في الجزائر إلى «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» فكان لبلمختار دور محوري في الفصل الجديد، وبدأ عملية توغل داخل الأراضي المالية ولم تعد الجزائر هي القاعدة الارتكازية الوحيدة. ويوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 2007، كان عناصر من أتباع بلمختار ينفذون أول هجوم ضد الفرنسيين في المنطقة، حيث قتلوا 4 سياح قرب مدينة آلاك الموريتانية (نحو 260 كلم جنوب شرقي نواكشوط)، وبعدها بيومين نفذ مسلحون آخرون هجوما قتلوا خلاله جنديا موريتانيا في منطقة «الغلاوية» في ولاية آدرار شمال البلاد. فكان الهجومان المتتاليان سببا مباشرا في إلغاء سباق باريس - داكار الشهير وتحويله إلى أميركا الجنوبية، بعد 28 سنة في أفريقيا.
يروي الكتاب، كيف كان بلمختار غامضا في بدايته، لكنه تمكن من توطيد قدميه في منطقة كانت عصية، وتمكن من «اختراق» الصحراء، وقيادة أكثر العمليات الإرهابية إثارة.
يقول المؤلف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إن الجزائري بلمختار (المولود 1972 بغرداية جنوب الجزائر) مقتنع أنه «على حق» ويطمح في تجسيد حلم أن يكون بن لادن آخر في عمق الصحراء. ويصفه بأنه «إنسان جهادي متشدد ومتعصب، لكنه مؤمن جدا بكل ما يقوم به».

* البداية.. زواج مصلحة

* عرف الجزائري المتشدد كيف يعزز وجوده في منطقة أغلب سكانها من العرب والطوارق المحافظين. فاختار الزواج من فتاة تنتمي لإحدى الأسر النبيلة من «أولاد إدريس» وهم من قبيلة البرابيش العربية، في منطقة «لرنب» شمال مالي، والتي يغلب عليها الطابع البدوي. وتعيش على الأسواق الأسبوعية المتنقلة في المنطقة الحدودية بين موريتانيا ومالي.
ويشير الكتاب إلى أن هذا الزواج شكل نقطة تحول كبرى لبلمختار، ولكن عقد القران لم يمر مرور الكرام، فقد اعتاد السكان المحليون أن يكون الزواج داخليا فقط، ورغم أن بلمختار ينتمي لقبيلة «الشعانبة» العربية بالجزائر وأحد فروع «بني سليم»، فإنه بالنسبة للبرابيش هو رجل من بيئة مختلفة. «فكانت هذه المرة الأولى في التاريخ التي تتزوج فيها فتاة نبيلة من البرابيش مع رجل ليس من مقامها»، يقول محمد محمود أحد الشهود على الزواج.
كانت تلك البداية الفعلية ليصبح «بن لادن الصحراء» نافذا، معتمدا على تحالف قائم على «زواج مصلحة»، فبات يعرف المنطقة وتفاصيلها أكثر من أهلها. ومن ثم استطاع تجنيد المئات من مختلف البلدان المحيطة من العرب والطوارق والزنوج، ولم يعد يركز على العناصر الجزائرية فقط.
ويروي الكتاب عن مصدر حكومي مالي، كيف أن هذا الزواج شكل «صفقة جيدة» لكلا الطرفيين، فبلمختار أصبح في حماية واحدة من أقوى القبائل بشمال مالي، كما أن أسرة زوجته غنية. وبالتالي أصبح هناك «تبادل للأعمال»، حيث كان هو وتنظيمه يجدون سوقا جيدة للتبييض، وبيع السيارات المسروقة من الجزائر، كما أنه اشترك في أعمال تجارية مع أصهاره.
ويتقصى الكتاب أسطور «السيد مالبورو» التي كان يوصف بها بلمختار في إشارة لبيعه السجائر المهربة؛ قائلا إن كل التحقيقات والمقابلات تؤكد أنه لا يعمل في تهريب المخدرات والسجائر، وإنما يعتمد على الأموال التي يجنيها من الفديات التي تقدمها الدول الغربية لإطلاق سراح مواطنيها المختطفين. بحسب عمر ولد حماها القائد العسكري لجماعة بلمختار، وعم زوجته. والذي أجرى معه المؤلف مقابلة مطولة.
ويؤكد أحد كبار المسؤولين في منطقة الساحل هذه المعلومات. لكنه يضيف أن بلمختار عمل طويلا في تهريب المحروقات من الجزائر، حيث اللتر الواحد يباع بـ10 سنتيمات من اليورو داخل الجزائر، ويباع بضعف هذا المبلغ 10 مرات في دول المنطقة.
الصحافي مؤلف الكتاب، والذي عمل لسنوات مع مؤسسات إعلامية عريقة من بينها صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، يؤكد أنه في نهاية 2010 زار موريتانيا وشمال مالي لإنجاز تقرير استقصائي لقناة «فرانس 2» بعنوان «على خطى القاعدة في الساحل» ضمن برنامج «مبعوث خاص»؛ حينها لم يفكر في تأليف كتاب، بل في سلسلة مقالات.
لكن في أبريل (نيسان) 2012 بعد دخول الحركة الوطنية والجماعات الإسلامية المتشددة إلى تمبكتو وغاو. ذهب إلى غاو، لإنجاز عمل تلفزيوني عن الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وقضية الطوارق. «وبعد وصولنا اكتشفت أن المدينة تسيطر عليها جماعة التوحيد والجهاد وجماعة بلمختار، ومن هذه النقطة بدأ الاهتمام، حيث كان الكل يتحدث حول بلمختار»، يقول ولد محمد سالم. وترسخت فكرة الكتاب عندما عاد الصحافي - المؤلف في أغسطس (آب) من العام نفسه عن طريق تمبكتو، حيث «أنصار الدين» و«القاعدة». واستمر في البحث والتنقل بين المدن التي تسيطر عليها الجماعات المتشددة، وبعد طرد القوات الفرنسية لها عاد إلى المنطقة، وسافر إلى النيجر وبوركينا فاسو، ثم إلى موريتانيا عبر الجزائر والسنغال.
وبدأ العمل على الكتاب يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، وعاد إلى المنطقة في فبراير (شباط) الموالي. ليبدأ فعليا الكتابة في مايو (أيار) الماضي، «وفرضت على نفسي نمطا صعبا من العمل. فكنت أمضي 15 ساعة يوميا متواصلة في الكتابة، حتى نهاية يوليو (تموز)»، يقول المؤلف.

* صحافي أم جاسوس؟

* يقول مؤلف «بن لادن الصحراء»، إنه لم يواجه «مخاطر» مباشرة، وإنما عاش «هواجس ومخاوف». ففي سفره الأول إلى شمال مالي في 2010، رتب كل شيء مع الطوارق (الحركة الوطنية)، ولكن صادف يوم خروجهم من كيدال إلى غاو اختطاف شابين فرنسيين في نيامي عاصمة النيجر، قتلا لاحقا في اشتباك بين قوات فرنسية خاصة، وجماعة بلمختار.
وفي المرة الثانية ربيع 2012، كان برفقته مصور فرنسي، وكان يخشى عليه من الاختطاف رغم أن الطوارق وفروا لهما الحراسة بـ40 مسلحا.
وفي صيف 2012 خلال زيارته الثالثة، كان يواجه نظرات الاتهام بـ«التجسس» التي تلاحقه، بما أنه صحافي موريتاني يعمل في فرنسا، وهما بلدان في حرب مع هذه التنظيمات. وقد قبل الأمين ولد محمد سالم الالتزام بـ15 شرطا مكتوبا قدمتها «أنصار الدين» في تمبكتو. وأكد لهم أنه لا يريد أن يرى الأشياء «الحساسة»، وإنما يسعى لمتابعة الحياة اليومية في ظل سيطرتهم. ويقول: «في الأيام الأولى كانت نظرات الريبة تلاحقني، وكنت تحت المراقبة. وكان بعضهم (خصوصا من الموريتانيين) ينظر إلى على أنني جاسوس. ولكن تبين لهم أنني مجرد صحافي يقوم بعمله».
يقول ولد محمد سالم، إن كتابه ليس فقط حول بلمختار وسيرته الشخصية، وإنما أخذه ليكون مفتاحا للمنطقة والأحداث التي وقعت خلال 20 سنة الأخيرة. من عمليات الاختطاف والعنف والتمرد.
ويعرب عن أمله الكبير في أن يترجم بأسرع وقت إلى اللغة العربية، وقد تواصل معه أشخاص من مختلف الدول العربية يتساءلون عن الترجمة العربية، حتى قبل صدور الكتاب. ويقول إنه يبحث الآن عن آلية لذلك. وقد أبلغ الناشر بأن الطلب كبير على الترجمة العربية. ويشير إلى أنه تواصل قبل أيام مع دار نشر عربية بهذا الخصوص، لكن لا نتائج حتى الآن.
ويضيف: «إنها خسارة إن لم يترجم إلى العربية. أنا لا أكتب للفرنسيين فقط، وإنما لضرورات تتعلق بالعمل. فأنا عندما أكتب أفكر بكل من قد يقرأ. وهذا الكتاب موجه للجميع».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.