لم يكن الصحافي العربي محمد الأمين الذي خبر منطقة الساحل والصحراء يخطط عندما زار مالي أول مرة، أن يقدم للعالم شخصية تعتبر الأكثر تأثيرا في التنظيمات المتشددة في المنطقة. لكن مهماته الصحافية قادته إلى نقاط مظلمة وغير معروفة من تاريخ تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» من خلال تتبع سيرة أهم قادته.
اختار المراسل السابق للخدمة الفرنسية في «بي بي سي» أن يسلط الضوء على التنظيم المتشدد عبر زاوية من يعتبر أبرز قادته ورجله القوي والفاعل في منطقة الساحل والصحراء، الجزائري مختار بلمختار (المعروف بخالد أبو العباس و«الأعور»)، القائد الحالي لكتيبة «الموقعين بالدماء»، والتي عرفت أيضا بـ«المرابطين» و«الملثمين»، ومن أعنف عملياتها هجوم «عين أميناس» في الجزائر، العام الماضي.
«بن لادن الصحراء» كتاب هو الأول من نوعه، يقدم في 208 صفحات؛ صورة مقربة لتنظيم شهد توسعا كبيرا خلال العقدين الأخيرين، وكان وراء ذلك بلمختار الذي انتقل من شاب مغمور عائد من القتال في أفغانستان (ذهب إليها 1991 وعمره 19 عاما)، إلى القيادي الأبرز في المجموعات المتشددة في المنطقة.
الكتاب الصادر باللغة الفرنسية، عن منشورات «لا مارتنيير» في فرنسا أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يعتبر «تحقيقا غير مسبوق حول شخصية مشهورة، لكنها غير معروفة»، بحسب الناشر.
يضم الكتاب 10 فصول أساسية، و4 أخرى تمهيدية وختامية، ويحمل الفصل العاشر عنوان «على خطى بن لادن الصحراء»، بينما تروي الفصول الأولى يوميات التنظيم وتاريخه.
ويقول مؤلف الكتاب الصحافي الموريتاني المقيم في فرنسا الأمين ولد محمد سالم إنه يقدم «بروفايل» عن أقدم قائد سلفي متشدد في منطقة الصحراء الكبرى، والعقل المدبر لأكثر العمليات، وصاحب الخبرة والتأثير والنفوذ، على الرغم من أنه لم يكن معروفا خلال السنوات الأخيرة، حيث صبت الصحافة اهتمامها باتجاه قائد تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» عبد المالك درودكال، والقيادي الآخر عبد الحميد أبوزيد؛ وتغاضت عن بلمختار.
ويقول الأمين، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إنه اعتمد على عمل ميداني خلال أشهر من الإقامة المتقطعة في تمبكتو وغاو وكيدال شمال مالي بين 2010 و2013 قبل سيطرة الجماعات المتشددة عليها وأثناء سيطرتها وبعد طردها.
الصحافي المغامر، والذي يعمل حاليا مراسلا لصحيفتي «لا تربين دو جنيف» السويسرية و«سيد إست» الفرنسية، يقول إنه حاول قدر المستطاع ألا يعتمد على المصادر الرسمية (المخابرات ورجال الأمن)، مع أنه لجأ مرات لمسؤولين سياسيين وأمنيين، لكنه ركز في تحقيقه الاستقصائي، على عناصر من مقربي بلمختار في مقدمتهم الحسن ولد الخليل (المعروف بجليبيب) الناطق باسمه وساعده الأيمن. وكذلك عمر ولد حماها القائد العسكري للتنظيم وصهر بلمختار، وحمادة محمد خيرو مؤسس «جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» ورئيس «مجلس القضاء» في غاو، إضافة إلى تجار ومهربين ووجهاء قبليين تعايشوا وعملوا مع بلمختار ويعرفونه عن قرب.
تعود البدايات الأولى لظهور قوة بلمختار حين باغت نقطة عسكرية للجيش الموريتاني على الحدود مع الجزائر وقت صلاة الفجر، يوم 4 يونيو (حزيران)، فقتل 15 جنديا وقائدهم وأصيب 17 بجروح، من أصل 53 عسكريا، بينما قتل 6 متشددين من أصل أكثر من 150 شنوا الهجوم.
تحولت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» في الجزائر إلى «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» فكان لبلمختار دور محوري في الفصل الجديد، وبدأ عملية توغل داخل الأراضي المالية ولم تعد الجزائر هي القاعدة الارتكازية الوحيدة. ويوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 2007، كان عناصر من أتباع بلمختار ينفذون أول هجوم ضد الفرنسيين في المنطقة، حيث قتلوا 4 سياح قرب مدينة آلاك الموريتانية (نحو 260 كلم جنوب شرقي نواكشوط)، وبعدها بيومين نفذ مسلحون آخرون هجوما قتلوا خلاله جنديا موريتانيا في منطقة «الغلاوية» في ولاية آدرار شمال البلاد. فكان الهجومان المتتاليان سببا مباشرا في إلغاء سباق باريس - داكار الشهير وتحويله إلى أميركا الجنوبية، بعد 28 سنة في أفريقيا.
يروي الكتاب، كيف كان بلمختار غامضا في بدايته، لكنه تمكن من توطيد قدميه في منطقة كانت عصية، وتمكن من «اختراق» الصحراء، وقيادة أكثر العمليات الإرهابية إثارة.
يقول المؤلف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إن الجزائري بلمختار (المولود 1972 بغرداية جنوب الجزائر) مقتنع أنه «على حق» ويطمح في تجسيد حلم أن يكون بن لادن آخر في عمق الصحراء. ويصفه بأنه «إنسان جهادي متشدد ومتعصب، لكنه مؤمن جدا بكل ما يقوم به».
* البداية.. زواج مصلحة
* عرف الجزائري المتشدد كيف يعزز وجوده في منطقة أغلب سكانها من العرب والطوارق المحافظين. فاختار الزواج من فتاة تنتمي لإحدى الأسر النبيلة من «أولاد إدريس» وهم من قبيلة البرابيش العربية، في منطقة «لرنب» شمال مالي، والتي يغلب عليها الطابع البدوي. وتعيش على الأسواق الأسبوعية المتنقلة في المنطقة الحدودية بين موريتانيا ومالي.
ويشير الكتاب إلى أن هذا الزواج شكل نقطة تحول كبرى لبلمختار، ولكن عقد القران لم يمر مرور الكرام، فقد اعتاد السكان المحليون أن يكون الزواج داخليا فقط، ورغم أن بلمختار ينتمي لقبيلة «الشعانبة» العربية بالجزائر وأحد فروع «بني سليم»، فإنه بالنسبة للبرابيش هو رجل من بيئة مختلفة. «فكانت هذه المرة الأولى في التاريخ التي تتزوج فيها فتاة نبيلة من البرابيش مع رجل ليس من مقامها»، يقول محمد محمود أحد الشهود على الزواج.
كانت تلك البداية الفعلية ليصبح «بن لادن الصحراء» نافذا، معتمدا على تحالف قائم على «زواج مصلحة»، فبات يعرف المنطقة وتفاصيلها أكثر من أهلها. ومن ثم استطاع تجنيد المئات من مختلف البلدان المحيطة من العرب والطوارق والزنوج، ولم يعد يركز على العناصر الجزائرية فقط.
ويروي الكتاب عن مصدر حكومي مالي، كيف أن هذا الزواج شكل «صفقة جيدة» لكلا الطرفيين، فبلمختار أصبح في حماية واحدة من أقوى القبائل بشمال مالي، كما أن أسرة زوجته غنية. وبالتالي أصبح هناك «تبادل للأعمال»، حيث كان هو وتنظيمه يجدون سوقا جيدة للتبييض، وبيع السيارات المسروقة من الجزائر، كما أنه اشترك في أعمال تجارية مع أصهاره.
ويتقصى الكتاب أسطور «السيد مالبورو» التي كان يوصف بها بلمختار في إشارة لبيعه السجائر المهربة؛ قائلا إن كل التحقيقات والمقابلات تؤكد أنه لا يعمل في تهريب المخدرات والسجائر، وإنما يعتمد على الأموال التي يجنيها من الفديات التي تقدمها الدول الغربية لإطلاق سراح مواطنيها المختطفين. بحسب عمر ولد حماها القائد العسكري لجماعة بلمختار، وعم زوجته. والذي أجرى معه المؤلف مقابلة مطولة.
ويؤكد أحد كبار المسؤولين في منطقة الساحل هذه المعلومات. لكنه يضيف أن بلمختار عمل طويلا في تهريب المحروقات من الجزائر، حيث اللتر الواحد يباع بـ10 سنتيمات من اليورو داخل الجزائر، ويباع بضعف هذا المبلغ 10 مرات في دول المنطقة.
الصحافي مؤلف الكتاب، والذي عمل لسنوات مع مؤسسات إعلامية عريقة من بينها صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، يؤكد أنه في نهاية 2010 زار موريتانيا وشمال مالي لإنجاز تقرير استقصائي لقناة «فرانس 2» بعنوان «على خطى القاعدة في الساحل» ضمن برنامج «مبعوث خاص»؛ حينها لم يفكر في تأليف كتاب، بل في سلسلة مقالات.
لكن في أبريل (نيسان) 2012 بعد دخول الحركة الوطنية والجماعات الإسلامية المتشددة إلى تمبكتو وغاو. ذهب إلى غاو، لإنجاز عمل تلفزيوني عن الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وقضية الطوارق. «وبعد وصولنا اكتشفت أن المدينة تسيطر عليها جماعة التوحيد والجهاد وجماعة بلمختار، ومن هذه النقطة بدأ الاهتمام، حيث كان الكل يتحدث حول بلمختار»، يقول ولد محمد سالم. وترسخت فكرة الكتاب عندما عاد الصحافي - المؤلف في أغسطس (آب) من العام نفسه عن طريق تمبكتو، حيث «أنصار الدين» و«القاعدة». واستمر في البحث والتنقل بين المدن التي تسيطر عليها الجماعات المتشددة، وبعد طرد القوات الفرنسية لها عاد إلى المنطقة، وسافر إلى النيجر وبوركينا فاسو، ثم إلى موريتانيا عبر الجزائر والسنغال.
وبدأ العمل على الكتاب يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، وعاد إلى المنطقة في فبراير (شباط) الموالي. ليبدأ فعليا الكتابة في مايو (أيار) الماضي، «وفرضت على نفسي نمطا صعبا من العمل. فكنت أمضي 15 ساعة يوميا متواصلة في الكتابة، حتى نهاية يوليو (تموز)»، يقول المؤلف.
* صحافي أم جاسوس؟
* يقول مؤلف «بن لادن الصحراء»، إنه لم يواجه «مخاطر» مباشرة، وإنما عاش «هواجس ومخاوف». ففي سفره الأول إلى شمال مالي في 2010، رتب كل شيء مع الطوارق (الحركة الوطنية)، ولكن صادف يوم خروجهم من كيدال إلى غاو اختطاف شابين فرنسيين في نيامي عاصمة النيجر، قتلا لاحقا في اشتباك بين قوات فرنسية خاصة، وجماعة بلمختار.
وفي المرة الثانية ربيع 2012، كان برفقته مصور فرنسي، وكان يخشى عليه من الاختطاف رغم أن الطوارق وفروا لهما الحراسة بـ40 مسلحا.
وفي صيف 2012 خلال زيارته الثالثة، كان يواجه نظرات الاتهام بـ«التجسس» التي تلاحقه، بما أنه صحافي موريتاني يعمل في فرنسا، وهما بلدان في حرب مع هذه التنظيمات. وقد قبل الأمين ولد محمد سالم الالتزام بـ15 شرطا مكتوبا قدمتها «أنصار الدين» في تمبكتو. وأكد لهم أنه لا يريد أن يرى الأشياء «الحساسة»، وإنما يسعى لمتابعة الحياة اليومية في ظل سيطرتهم. ويقول: «في الأيام الأولى كانت نظرات الريبة تلاحقني، وكنت تحت المراقبة. وكان بعضهم (خصوصا من الموريتانيين) ينظر إلى على أنني جاسوس. ولكن تبين لهم أنني مجرد صحافي يقوم بعمله».
يقول ولد محمد سالم، إن كتابه ليس فقط حول بلمختار وسيرته الشخصية، وإنما أخذه ليكون مفتاحا للمنطقة والأحداث التي وقعت خلال 20 سنة الأخيرة. من عمليات الاختطاف والعنف والتمرد.
ويعرب عن أمله الكبير في أن يترجم بأسرع وقت إلى اللغة العربية، وقد تواصل معه أشخاص من مختلف الدول العربية يتساءلون عن الترجمة العربية، حتى قبل صدور الكتاب. ويقول إنه يبحث الآن عن آلية لذلك. وقد أبلغ الناشر بأن الطلب كبير على الترجمة العربية. ويشير إلى أنه تواصل قبل أيام مع دار نشر عربية بهذا الخصوص، لكن لا نتائج حتى الآن.
ويضيف: «إنها خسارة إن لم يترجم إلى العربية. أنا لا أكتب للفرنسيين فقط، وإنما لضرورات تتعلق بالعمل. فأنا عندما أكتب أفكر بكل من قد يقرأ. وهذا الكتاب موجه للجميع».