قرأتُ قبل سنتين كتاباً حرّره بروفسور الفيزياء النظرية العراقي جيم الخليلي Jim Al - Khalili. نُشِر الكتابُ بعنوان «ماذا بعدُ ؟: ما الذي يمكن للعلم أن يخبرنا بشأن مستقبلنا المدهش». الكتاب مدهش حقاً وضمّ مساهماتٍ لنخبة متميزة من العلماء والمهندسين والخبراء المشهود لهم بامتلاك رؤية عالمية في حقل معرفي محدّد، ويمتازون جميعاً بخصيصة باتت علامة فارقة لكلّ المشتغلين في الحقول المعرفية، علمية أم تقنية أم إنسانية - تلك هي خصيصة حبّ البحث الذي يقع في تخوم المعرفة، ومحاولة التعشيق الحيوي بين الحقول المعرفية في صيغة دراسات بينية متداخلة interdisciplinary، والاهتمام الشامل بمستقبل النوع البشري والبيئة الحيوية التي تعيش فيها الكائنات الحية ضمن الفرع المعرفي المسمى المستقبليات Futurology الذي شهد – ولا يزال يشهد في يومنا هذا - دفعات كبيرة من التقدم المدهش المقترن برؤى ثورية في شكل الحياة والمعرفة اللتين سيشهدهما الجنس البشري بعد بضعة عقود من يومنا هذا.
من المؤسف حقاً ندرة الكتب التي تتناول الدراسات المستقبلية في منطقتنا العربية. ثمة، بالتأكيد، الكثير من الدراسات المستقبلية الموضوعة باللغة الإنجليزية، وتُرجِم بعضها إلى العربية، وقد علق بذهني - من بين تلك المؤلّفات - كتابٌ بعنوان «العالم بعد مائتي عام» صدر ضمن سلسلة كتاب «عالم المعرفة» في ثمانينات القرن الماضي، وكان بحقّ كتاباً رائعاً يتضمّن رؤى استشرافية مثيرة بشأن أحوال عالمنا البشري، ويمكن الإشارة أيضاً إلى كتاب «عالمنا المشترك» الصادر ضمن السلسلة ذاتها، وهو من منشورات منظمة الأمم المتحدة للبيئة ويركّز - كما هو واضح من عنوانه - على الجوانب البيئية المرتبطة بالنشاطات البشرية وتأثيرها المتوقّع على كوكب الأرض في العقود القادمة.
ثمّة كتابٌ جدير بأعظم الاعتبار في ميدان المستقبليات للبروفسور مارتن ريس نشرته أواخر عام 2018 جامعة برينستون الأميركية التي تمثّل إحدى جامعات النخبة الأكاديمية على مستوى العالم. الكتاب بعنوان «عن المستقبل: آفاق ممكنة للإنسانية On the Future: Prospects for Humanity»، ويمثّل الكتاب إضافة كبرى لكون مؤلفه البروفسور ريس ذا سمعة أكاديمية مشهودة يكمن جانب منها في إشغاله منصب رئيس سابق للجمعية الملكية البريطانية ذات التقاليد الأرستقراطية الراسخة، فضلاً عن كونه عالماً متعدّد الآفاق والاهتمامات المعرفية.
يتكوّن هيكل كتاب «عن المستقبل» من تقديم ومقدّمة وخمسة فصول مع حصيلة استنتاجية، ويمكن للقارئ معرفة طبيعة المادة المبحوثة في كلّ فصل من قراءة عناوين موضوعاته الفرعية. تمثل مقدمة الكتاب المعنونة «خلاصة كونية» رؤية المؤلف بشأن موقع كوكب الأرض في سياق العملية التطورية الكونية، أما الفصل الأول الذي جاء بعنوان «عميقاً في عصر الأنثروبوسين Anthropocene» أي «السيادة البشرية» فيضمّ الموضوعات التالية: مخاطر وآفاق ممكنة، التهديدات النووية، التهديدات البيئية ونقاط التحوّل، البقاء ضمن الحدود الكوكبية، التغيّر المناخي، الطاقة النظيفة - والخطّة البديلة «الخطّة ب». يتناول الفصل الثاني المعنون «مستقبل الإنسانية على الأرض» الموضوعات التالية: التقنية الحيوية، التقنية السبرانية، الروبوتات، الذكاء الصناعي، ماذا عن وظائفنا؟، ذكاءٌ مماثلٌ للذكاء البشري؟، مخاطر وجودية حقيقية؟. ويحمل الفصل الثالث عنوان «الجنس البشري في منظور كوني» وتناول الموضوعات التالية: الأرض في سياق كوني، ما بعد منظومتنا الشمسية، السفر الفضائي - مأهولاً وغير مأهول، نحو حقبة ما بعد - إنسانية Posthuman؟، ذكاءٌ مغاير؟. تناول المؤلف في الفصل الرابع المعنون «العلم: الحدود والمستقبل» الموضوعات التالية: من البسيط إلى المعقّد، إضفاء المعنى على عالمنا المعقّد، أي تخومٍ يبلغها الواقع المادي؟، هل «سيخترق العلم الحواجز الفاصلة؟»، ماذا عن الإله؟. يختتم المؤلف كتابه بفصل هو حصيلة بعض من الموضوعات الخاصة بالأبعاد السوسيولوجية للعلم؛ فجاءت موضوعاته بالعناوين التالية: ممارسة العلم، العِلْمُ في المجتمع، آمالٌ ومخاوف مُتَشارَكة.
يصف المؤلف كتابه هذا بعبارات استهلالية جاءت في تقديمه على النحو التالي:
هذا كتابٌ بشأن المستقبل. أكتبُ من منظور شخصي، متمثّلاً أدواراً ثلاثة أراها فيّ: عالماً، ومواطِناً، وعضواً قلِقاً في النوع البشري. الموضوعة الجامعة لهذا الكتاب هي أنّ ازدهار العدد المتنامي من سكّان العالم يعتمد على الحكمة التي يُنشَرُ بها العلم والتقنية في هذا العالم.
ثمّ يمضي المؤلف في توصيف الطبيعة الدقيقة لكتابه فيكتب بهذا الشأن في مقدّمة الكتاب:
يقدّمُ هذا الكتاب بعضاً من الآمال، والمخاوف، والتخمينات بشأن ما ستواجهه الإنسانية في العقود القادمة. إنّ استمرارية الجنس البشري في هذا القرن «الحادي والعشرين»، فضلاً عن إدامة المستقبل طويل الأمد لعالمنا الذي يغدو أكثر وهناً إنما يعتمدان على التعجيل بتطوير بعض التقنيات من جهة، وكبح جماح تقنيات أخرى بطريقة مسؤولة في الوقت ذاته. إنّ التحديات المطروحة أمام الحوكمة governance هي تحدياتٌ هائلة تكتنفها مشقّات عظمى، وأنا هنا أقدّم منظوراً شخصياً بشأن هذه الموضوعات الإشكالية من خلال الكتابة عنها باعتباري عالماً «فلكياً بالتحديد»، وكذلك باعتباري عضواً - يتنازعه القلق - في الجنس البشري.
يحيطُ المؤلف القارئ في بقية مقدّمته الثرية للكتاب علماً بطبيعة الموضوعات التي سيتناولها بالبحث الممحّص في الفصول التالية، وهو بفعله هذا يمهّد الطريق أمام قارئه لمتابعة الموضوعات في سياق مفاهيمي يتّسق مع الطبيعة المعرفية المشتبكة التي تمثلها هذه الموضوعات التي تقع على تخوم الجبهات المتقدّمة للعلم والتقنية في العادة.
يُشيرُ البروفسور ريس في الحصيلة الاستنتاجية الأخيرة من الكتاب إلى الفجوة المستعصية بين الجغرافيا السياسية «الجيوبوليتيك» والسوسيولوجيا - أي الفرق بين الإمكانات الطموحة من جهة وما يحصل على أرض الواقع من جهة أخرى -، ويرى بأنها تبعثُ على الكثير من التشاؤم. صحيحٌ أنّ السيناريوهات التي وصفها ريس في الكتاب «التردّي البيئي، التغير المناخي غير المُراقَب، النتائج غير المقصودة للتقنيات المتقدّمة... إلخ» يمكن أن تطلق شرارة الكثير من النتائج السلبية السيئة والخطيرة «بل وحتى الكارثية» لمجتمعاتنا البشرية ؛ لكنّ علينا مواجهة هذه النتائج بطريقة تضمن التكاتف العالمي، وبالإضافة لذلك ثمة فشل مؤسساتي في التخطيط بعيد المدى من جهة، والتخطيط على مستوى عالمي من الجهة الأخرى، ويشيرُ ريس في هذا الشأن الخطير «الذي يذكّرنا بسلوكياتنا العالمية الواهنة إزاء الجائحة الكورونية الراهنة» إلى أنّ السياسيين يحسبون حساباً لمن سيصوّتُ لهم في الانتخابات القادمة، ويرنو حاملو الأسهم لأرباح كثيرة يتوقعونها في جولة زمنية قصيرة، ولا ينشغل الكثيرون بما يحصل في أيامنا هذه في بلدان بعيدة من كوارث خطيرة، ولا نحسبُ جميعنا «وبطريقة خطيرة أيضاً» حساب المعضلات التي سنخلّفُها للأجيال الجديدة. لو شئنا الاختصار لقلنا بكلمات موجزة: ما لم نمتلك رؤية منظورية عالمية واسعة، وما لم ندرك أننا جميعاً نتشاطرُ العيش في هذا العالم المتزاحم بالسكّان فإنّ الحكومات وحدها لن تستطيع تحديد الأسبقيات المطلوبة للمشاريع ذات المديات البعيدة المؤثرة - من وجهة النظر السياسية - في تشكيل تأريخ هذا الكوكب.
قيل في مأثوراتنا الأخلاقية المتداولة، إنّ «المعرفة تسبق الفعل»، وعلى هذا الأساس أرى أنّ الأمانة والشجاعة تقتضيان القول بأنّنا خسرنا الكثير من الفرص المؤثرة بسبب نقص المعرفة أو التخاذل في اكتسابها، ولم يبقَ لنا الكثير لنخسره في سياق منافسة صراعية عالميّة الطابع لن يكون ثمة مكان فيها للمتخاذلين أو المنكفئين أو المرتكنين على أنساق متهالكة ثبت عجزها وبطلانها؛ لذا فإنّ كتاباً مثل هذا الذي ألّفه البروفسور مارتن ريس يمثّل كوّة مضيئة نطلّ منها - في عالمنا العربي بخاصة - على المآلات التي يمكن أن ينتهي إليها العالم الذي نتشاركه مع بقية البشر في العقود القليلة المقبلة.
* كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن