لم يكن أمامهم أي خيار. أمرٌ واحد لا بدّ من القيام به. الاستمرار في العمل. في كل ثانية من يومياتهم يواجهون الفيروس المستجد. وكغيرهم من سكان بريطانيا والعالم هم أيضاً يخشونه ويرتعبون منه. بيد أنّ فرصة العمل من المنزل لم تكن من نصيبهم.
لوح بلاستيكي يفصل بين سائق الحافلة وآلاف الرّكاب، وُجد قبل ظهور الوباء، وبعض البلديات قد لا تتمتع به. ليسوا من فئة «الجيش الأبيض»، ولا يمتّون بصلة للجهاز الطبي. لكنّهم على الجبهة الأمامية في محاربة العدو الخفي، ينقلون الطواقم الطبية، ورجال الشرطة والعمّال.
مجذوب الحاج عبد الله، سائق حافلة في العاصمة البريطانية، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إنّ التواصل مع الرّكاب قبل جائحة «كورونا» كان مباشراً، وبعد أسبوعين تقريباً من انتشار الفيروس قرّرت هيئة النقل في لندن إغلاق الأبواب الأمامية للحافلات، وبات النقل بالمجان تجنّباً لأي اتّصال بين السائق والرّكاب، كما مُنع استخدام المقاعد القريبة من السائق وحُذّر الركاب من لمسها، وهناك التزام جيّد مع كل ما يرافقه من خوف وحذر.
في 20 أبريل (نيسان) الماضي، قالت كلير مان، مديرة عمليات الحافلات في هيئة النقل في لندن، إنّ سلامة السائق «أولوية مطلقة»، واتّخذت الحكومة إجراءات تنظيف مكثفة، وحماية لمقصورات السائقين.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ قرار استخدام الحافلات بالمجان كلّف هيئة النقل في لندن خسائر تجاوزت حتى أمس، 4 مليارات جنيه إسترليني.
كغيره من البشر في جميع أنحاء العالم، كان الحاج عبد الله يفضل، بل يتمنّى، البقاء في المنزل إلى أن تنجلي هذه الجائحة العالمية؛ لكنّه يقول: «لم يكن أمامي وزملائي سوى الاستمرار في العمل، مع التنبه إلى أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر. خصوصاً بعد إصابة ثلاثة زملاء، فقدنا واحداً وشُفي اثنان».
وفي سياق حديثه يقول: «تعيش عائلتي خوفاً شديداً، وفي كل يوم أعود به إلى المنزل، أخضع لعملية تعقيم شاملة، من غسل الأيدي والوجه وتغيير الملابس قبل أن تطأ قدمي عتبة البيت». لا تكتفي العائلة «بتعقيم» الحاج عبد الله حسب قوله، بل تُخضعه لتحقيق يومي يتناول كل تحركاته في أثناء عمله، هل اقترب أو تواصل مباشرة مع أي راكب؟
ويختم كلامه، بالقول: «لو عاد القرار لي لفضّلت البقاء في البيت، ولكنّنا نحن العاملين في قطاع النقل العام، يجب علينا المشاركة في هذه الحرب الفيروسية، ومساعدة الأجهزة الطبية في التنقل من وإلى العمل، ورجال الشرطة وكل من لم يستطع التوقف عن العمل».
(س.ب)، فضّلت ألّا تذكر اسمها كاملاً، سائقة حافلة عربية، وصلت إلى بريطانيا عام 2003، حائزة شهادة في السياحة والسفر عام 2008 بسبب الأزمة الاقتصادية حينها وصعوبة إيجاد عمل، قرّرت الالتحاق بهيئة النقل في لندن.
تقول لـ«الشرق الأوسط»: «بكل صراحة، كنت أشعر بالرّعب من الفيروس كأي مواطن آخر. عندما أعود إلى المنزل وأخضع لجميع عمليات التعقيم اللازمة، وأضع رأسي على الوسادة لا أستطيع النوم، تراودني كوابيس مخيفة، هل جلبت الفيروس معي؟ وماذا عن ابنتي إن كنت مصابة وإن فارقت الحياة، كيف سأتركها وحيدة، يتيمة، فوالدها توفي منذ كانت في الثّامنة من العمر».
مع انتشار الفيروس واستفحاله، تساءلت (س.ب): «فكّرت كثيراً وحاولت تفنيد الأمور بيني وبين نفسي، هل بقائي في المنزل سيُبعدني ويجعلني بأمان من العدوى الفيروسية القاتلة؟ فليس من معيل لي ولابنتي، ولا بدّ علي أن أخرج للتّسوق وشراء حاجياتنا، وفي أي لحظة قد أكون عُرضة لالتقاط الفيروس، في الطريق وفي المحال التجارية، وقد يصيبني من مقبض باب؛ فبتّ مقتنعة أنّ عملي ليس معياراً للإصابة بل الوقاية هي الأهم. ولا أنكر أنّ الخوف يلازمني كما ابنتي التي تتجنب الاقتراب مني والسلام عليّ لدى دخولي من الباب، لتعود وتتراجع عن قرارها فتغمرني بعد ساعة معبّرة عن حبّها وشوقها لي».
أوّل حال وفاة في هيئة النقل العام في لندن طالت عاملاً بغرفة المراقبة، وتمّدد الفيروس إلى الكثيرين، ولا إحصاءات دقيقة عن المصابين، بيد أنّ وزير النقل البريطاني، غرانت شابس، كشف أمس، أنّ إجمالي من لقوا حتفهم بسبب (كوفيد - 19) بين العاملين في هيئة النقل بلندن، وصل إلى 42، تضاف إليهم 10 حالات وفاة لعمّال في شبكة السكك الحديدية وشركات تشغيل القطارات، ليصل إجمالي الوفيات إلى 52 حالة.
تقول (س.ب)، إنّ الأطباء والممرضين أكثر عرضة لالتقاط الفيروس، فهل يجب عليهم التزام منازلهم، ورفض معالجة المرضى؟ لا يمكن أن يتوقف البلد، هناك صفوف دفاعية أمامية ووظائف تفرض على أصحابها المواجهة.
«لم يُسمح لسائقي الحافلات والعاملين في هيئة النقل بارتداء الكمامات، ولكن بعد أن خطف (كورونا) أرواح عدد من الموظفين، سُمح للعاملين في المجال بارتدائها، واتُّخذت إجراءات لحمايتنا»، حسب (س.ب)، التي تضيف أنّ «الشركة تتكبّد خسائر كبيرة، ولا يزال الفيروس يتربّصنا».
تأسف (س.ب) على جميع ضحايا الفيروس، ولكنّها تشعر بحزن كبير على زميل لها فارق الحياة تاركاً عائلته مفجوعة، وتقول: «يتكوّن فريق العمل لدينا من 400 شخص، بينهم ست نساء. أصاب الفيروس نحو 12 رجلاً، ومات زميلنا (65 سنة) وبالفعل قد أحرق قلوبنا».
وتختم كلامها: «أتمنّى البقاء في المنزل، ولكن لا خيار لي. خوفي على ابنتي يؤرّقني ليل نهار، ولكنّني أعود وأشجّع نفسي، وأقول أنا امرأة قوية، آخذ كل الاحتياطات اللازمة، وفي النهاية أسلّم أمري إلى الله».
أعلنت وزارة الصحة البريطانية، اليوم، وفاة 494 مصاباً بـ(كوفيد - 19) خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، ليصل إجمالي الوفيات الناتجة عن إصابات مؤكدة بالفيروس إلى 33186، ومع حساب الوفيات من حالات الاشتباه بالإصابة ستتجاوز الحصيلة البريطانية 40 ألف وفاة.
«جنود مجهولون»... يحاربون «كوفيد – 19» رغم الخوف
أكثر من 42 حالة وفاة بين سائقي الحافلات بلندن
«جنود مجهولون»... يحاربون «كوفيد – 19» رغم الخوف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة