الروائي المصري رضا البهات: أكتب عما أعيشه وأعرفه... والطب كنز من الخبرات

صاحب «بشاير اليوسفي» و«شمعة البحر» يتحدث عن مفارقات عوالمه وشخوصه

رضا البهات
رضا البهات
TT

الروائي المصري رضا البهات: أكتب عما أعيشه وأعرفه... والطب كنز من الخبرات

رضا البهات
رضا البهات

وُلد البهات في مدينة المنصورة عام 1955، وتخرج في كلية الطب هناك، وواصل نشر القصص القصيرة والمقالات في الصحف، ومنذ أربع سنوات حصلت رواية «ساعة رملية... تعمل بالكهرباء» على جائزة ساويرس، وهي الإصدار الأدبي الرابع ضمن الأعمال الإبداعية الطويلة، ومن بين أعماله مجموعة قصصية بعنوان «طقوس بشر»، ورواية «شمعة البحر»، وقد حصدت مجموعته القصصية «حكايات شتوية» جائزة ساويرس الثقافية للمرة الثانية في يناير (كانون الثاني) الماضي... هنا حوار معه حول عالمه وتجربته الروائية، وأثر دراسة الطب في تحولاتها.
> روايتك «بشاير اليوسفي» كانت قصة قصيرة، نشرتها بالفعل، وحولتها فيما بعد لرواية... هل تعتقد أن الكاتب يمكن أن يحول قصة تشكلت وانتهت بتفاصيلها إلى عمل إبداعي بمواصفات أخرى، وهل ثمة شروط لا بد من توافرها للقيام بمثل هذه المغامرة؟
- بدايةً يمكن تحويل أي عمل إلى عمل آخر. الخيال يساعد على هذا. وهذه الواقعة حدثت للمسرحي محمد سعيد. ما إن حكاها لي حتى انبعثت ذكريات كثيرة. عالم المهاجرين، وتجاربي القديمة، كل ما عليك هو أن تتفتح للذاكرة القديمة، أما عن الشروط فلا بد من بعض الحيل الفنية، وقتها يمكنك كتابة رواية يحتفي بها الوسط الأدبي، ويقدمها الناقد الدكتور شكري عياد، وقد كان واحداً من كبار النقاد، رحمه الله.
> معظم شخصيات رواياتك حقيقية، تستدعيها وترسم حركتها في فضاء أعمالك... ألا تخشى وأنت تقوم بذلك أن تطغى صفاتها الواقعية وتنحرف بالعمل إلى سياقات تضر بحركة السرد؟
- لا بد من الخيال في أثناء الكتابة، زائد تجربة الحياة، فما تعرفه يُكتب معك، سواء كان تجربة نظرية أم حياتية، ومن ثم، لا أخشى أن تنحرف بعض شخصياتي أو تطغى صفاتهم، سأحكي لك شيئاً. ونحن ندرس في المرحلة الثانوية كان لديّ صديق -تخلصتُ من صداقته فيما بعد حين ذهب إلى إسرائيل- وكلما التقينا وجدني أمسك بالقلم، فقال لي: يبدو أنك سوف تصير كاتباً. وقد اختزنت تلك النبوءة حتى انتهيت من دراسة الطب، وكنت فقط أحب الشعر، وقد ظللتُ أمارسه حتى تخرجي، وقد نفعني.
> قلت في شهادة سابقة لك قدمتها في أحد المؤتمرات «إن الرواية تصنع وعي كاتبها وتضيف إليه... وهي تجبره على المراجعات النقدية لما قد يراه صواباً وخطأ»... كيف جرى ذلك وأنت تكتب «ساعة رملية»؟
- نعم، الرواية تصنع وعي الكاتب وتضيف إلى فكره، فأنا أمارس عبرها اختبارات لمعظم أفكاري، وأتابع ردود الفعل عليها، وقد غيّرت مثلاً من فكري فيما يخص الثقافة العامة ودور الدين في هذا.
> في رواية «بشاير اليوسفي» اتخذت من الحرب والتحولات التي جرت فيما بعد موضوعاً لها، وفي «ساعة رملية» كان عالم الصحافة بتشوهاته مسيطراً، في «شمعة البحر» الريف بعوالمه البكر وفقرائه وحياتهم البائسة... ما الشروط التي تجعل عالماً معيناً يسيطر عليك وتقرر البدء في عمل إبداعي؟
- في روايتي الأولى كان لا بد لي أن أفتح مخزن الذكريات وأحوّله إلى فن، فقد كنت أنتمي في هذه الفترة لأحد التنظيمات السرية... بالمناسبة سألتني صحافية، وكنا في مكتب الكاتب الصحافي الراحل صلاح عيسى: أنت بتكتب عن إيه؟ أنقذني الرجل بالقول: عن الواقع، هو يكتب أدباً واقعياً. أحسست بعدها أن أحداً لا يقرأ غير أصحابنا.
أما في «ساعة رملية»، فقد عملت صحافياً مسؤولاً عن القسم الثقافي ذات يوم، وخبرت تشوهات هذا المجال الذي يشبه الطب في تشوهاته، كما في «شمعة البحر»، وظللت أتساءل: ما مصير الصيغة التي عاش بها المصريون زمناً؟ هل هي روح الفكاهة والضحك في عالم لا يؤمن إلا بالجدية؟ هل لنا مستقبل؟ في الحقيقة كنت أتصور الغرب يعيدنا مرة ثانية إلى عالم الرومانسية، وقد ثبت خطأ تصوري. بالمناسبة «الشيخ جلال» الشخصية المحورية في «شمعة البحر» يوجد نظير له في كل القرى تقريباً، وقد عاش أكثر من 90 سنة، وذهبت للعزاء فيه حين مات، وقد قالت لي إحدى المذيعات بـ«النيل الثقافية» قبل أسابيع، إن هذا ما وصل إليها من الرواية، لكن إلى أي زمن نمضي بالضبط؟ فهذا ما كنت أود لمن تعامل مع الرواية، خصوصاً النقاد، أن ينتبهوا إليه، أما عن الشروط التي تجعلني أقرر البدء في عمل إبداعي، فهي رغم توقفي هذه الأيام، تتلخص في مناقشة الفكر العام، ومحاولة التعرف عليه بشكل جديد في فضاء الكتابة.
> في خبرتك الروائية تستفيد من النكتة، وتفاصيل حياة الناس اليومية التي تحدث أمامك، تخلطها بالحكايات الشعبية مثل ما حدث في حكاية النجار التي جلبتها من ألف ليلة وليلة، وتصنع عالماً يبدو حداثياً... كيف ترى ذلك؟
- هؤلاء البشر هم مَن تربيت وسطهم وأعرفهم، أنا أكتب عمن أعرفهم، بمزاياهم وعيوبهم. بالمناسبة لم أعش في الريف سوى عام واحد، لكنّ عملي كان هناك.
> لكن ماذا عن الاحتشاد العاطفي عبر شخصيات نسائية وحنين لأيام مضت، وحكايات سالفة، وهو ما يحرف دائماً السرد إلى نوع من التجريد واللغة المفارقة للأحداث والوقائع التي تدور... ألا ترى أن ذلك يضر بحركة السرد؟
- قولك هذا لاحظه المخرج السينمائي عماد البهات، قال لي: أنت تكتب عن الماضي. ربما هذا ما دعاني لكتابة «شمعه البحر». أما عن التجريد واللغة المفارقة فهذا رأيك. عموماً بدأت شاعراً، ولي تجارب شعرية ضمّنتها كتاباً «اختار ألا يموت»، لكنّ أحداً لم ينتبه إليه، أنا صرت أكتب والسلام، فبضاعتنا لا تتجاوز 5 آلاف مستهلك في عالمنا العربي في أحسن الأحوال.
> أيضاً في بعض أعمالك يتناثر الكثير من صور ادّعاء الحكمة التي تبقى دائماً منافية للواقع البعيد تماماً بانتهازيته ومثالبه وترهلاته، هل ترى أن هذا نوع من مزالق علم الرؤية التي وقعت فيها؟
- ربما لا تتذكر كيف تعيش الأقاليم، وفي رأيي أن هناك ثقافتين: ثقافة القاهرة، وثقافة خارج القاهرة، إلى درجة أن من يحكم القاهرة يحكم مصر، وهذه سمة تاريخية خفف من آثارها ما حدث من تطور في وسائل الاتصال، وبصراحة جاء ترمب ونشر في الإنسانية فكر العولمة، وتكفل عصر النفط بالباقي، فعشنا تشوُّه الاثنين معاً، بعد «كورونا» سيتغير كل شيء، لكنّ هذا الأمر سيأخذ هنا بعض الوقت. كان إبراهيم أصلان يقول لي: «المصريين حبالهم طويلة شوية»، بالطبع أوافقه.
> في مجموعتك القصصية «ليلة للغنا» تتجلى قصص بأجواء أسطورية مثلما يظهر في قصة «الجميلة تتزوج الديك الشركسي»، و«الأميرة وابن الحداد»، و«لعبة الغابة»... كيف تسربت إلى كتابتك مثل هذه الأجواء بينما أنت دائماً تؤكد في أعمالك الإبداعية على الواقع وتجلياته؟
- أنا أكتب فقط، والكاتب حالات، كنت أريد أن أقول لابنتي، الله يرحمها، إن المصير يختاره الإنسان، وإن كل شخص يصنع مصيره، وهذا اليوم أقول نفس الشيء لابني. بعدما كبر، بالمناسبة، فهو ابن جيل وملامحه أكثر من كونه ابن أسرة يتأثر بها، وها نحن نرى أن الدنيا كلها الآن في حالة مراجعة.
> هناك قصص ذات ملامح واقعية تتجاور مع القصص الشعبية، ألم تخشَ أن يشكل ذلك لدى القراء والنقاد نوعاً من الصدمة وهما يطالعان عالمين يتسمان بطبيعتين متناقضتين؟
- هذا هو العالم الذي أعرفه وتربيت فيه، بالمناسبة قال بعضهم إنني أخلط بسهولة بين اللغة الفصحى والعامية، وأنا صراحة أراهما فرعين في نفس الغصن، لكن ما يهمني هو أن أكتب، ولا شيء آخر.
> كيف ترى تأثير عملك كطبيب في كتاباتك على مستوى رؤية العالم واستراتيجيات السرد واختيار الشخصيات والأجواء التي تتفاعل معها، بخاصة في قصصك القصيرة؟
- كما قلت لك، الإنسان حالات والكاتب كذلك. والطب بصراحة كنز من الخبرات، متى سيتاح لك أن تلتقي لحظة تهون فيها كل ما جمعت من ثروات، لا غني أو فقير، فالمريض مجرد شخص مريض يتألم، وهذا ما يجعلك تواجه الإنسان فقط، وأنا ما زلت أمارس الطب، ولو من خلال عيادة، وهناك كثير من الأدباء يعملون في مجال الطب.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.