نكوص باتجاه الماضي واكتشاف لمتعة القراءة وازدهار للإبداع

من النتائج المترتبة على عزلة «كورونا» و«بطالة الزمن»

كثيرون يرون في المطالعة ملاذهم الأنجع من الضجر والخوف والإحباط
كثيرون يرون في المطالعة ملاذهم الأنجع من الضجر والخوف والإحباط
TT

نكوص باتجاه الماضي واكتشاف لمتعة القراءة وازدهار للإبداع

كثيرون يرون في المطالعة ملاذهم الأنجع من الضجر والخوف والإحباط
كثيرون يرون في المطالعة ملاذهم الأنجع من الضجر والخوف والإحباط

نادراً ما أتيح لسكان الأرض أن يشعروا ببطالة الزمن ولا جدوى تعاقب الأيام، كما هو حاصل في هذه الحقبة الفريدة والاستثنائية من التاريخ. فحيث كان الجميع سادرين في تهالكهم على كل ما يحقق لهم أسباب السلطة والنفوذ والمكاسب الدنيوية المختلفة، يأتي وباء «كورونا» على حين غرة ومن خارج جدول الأعمال، ليخلط الأوراق كلها وليضع في مهب الريح كل ما أولوه عنايتهم، وأحلّوه في مقدمة اهتماماتهم، ونذروا له حيواتهم بكاملها. وفي ظل هذا الوباء الضاري تنكشف عبثية الوجود الإنساني وهشاشته وتبدو الحياة موقوفة تماماً، إذا ما استعرت توصيف وضاح شرارة لبيروت في زمن الحرب. ومع ذلك؛ ولأن الحقيقة نسبية وحمّالة أوجه، فنحن لم نكن لنجد من دون هذه الجائحة المباغتة أي فرصة تُذكر، للتوقف قليلاً عند ما فرضناه على أنفسنا من أولويات، وما نصبناه أمام أعيننا من أهداف، وما خضنا من أجله أشرس الحروب والمواجهات. ذلك أن «كورونا» نجح إلى حد بعيد في أن يفرض عدالته الكابوسية على الجميع، ويزيل الفوارق المألوفة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، مساوياً داخل جدران عزلته الخانقة بين الحاكمين والمحكومين، الأغنياء والفقراء، المثقفين والأميين. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدول والأنظمة السياسية في الآن ذاته. بل إن قراءة متأنية لواقع الحال تُظهر أن هذا الوباء قد فرض على الدول العظمى وعلى الإمبراطوريات المتحكمة بمقدرات العالم، أن تخفف قليلاً من صلفها وسلوكياتها المتغطرسة، بعد أن دفعت ثمن هذه الغطرسة من اقتصادها وأرواح أهلها وأمنها الاجتماعي، في حين أن الدول الصغيرة والفقيرة استطاعت، بفعل حذرها الشديد وتواضعها الخفر، أن تنجح إلى حد بعيد في مكافحة الوباء والحد من انتشاره، والتمهيد لهزيمته الكاملة.
ثمة الكثير مما يمكن للأحياء الذين ستكتب لهم النجاة، أن يؤرخوا لهذه التجربة الفريدة في قسوتها وغرابتها في مستقبل الأيام. وإذا كان ما سيُكتب يحتاج بادئ ذي بدء إلى الخروج من النفق الموبوء، فإن ما اختبرناه خلال الأشهر المنصرمة ليس قليلاً بالمقابل. بل إن التغيرات الدراماتيكية التي أصابت علاقتنا بذواتنا وأفكارنا عن أنفسنا وعن العالم، كما بالمكان والزمان وإيقاع الحياة، هي أقرب إلى الانفجار الزلزالي الذي سيخلخل الثوابت ويغير اللغة والمفاهيم والرؤية إلى المستقبل. فإذا كان «كورونا» قد حشرنا في مربعات بيوتنا الصغيرة وضيّق الخناق على أجسادنا التي لطالما اعتادت على المساحات الحرة والمفتوحة، إلا أنه أضاء لنا بالمقابل أوسع المساحات التي يحتاج إليها العقل للاختلاء بنفسه، والتي تحتاج إليها الروح لاستعادة ألقها المحتجب، والتي تحتاج إليها المخيلة لكي تسترد قدرتها على التحليق. وإذا كان الزمن في العالم الرأسمالي، قد بلغ ذروة تسارعه بعد أن تحول ملايين البشر إلى مجرد عدّائين منهكين في حلبات البحث عن لقمة العيش وسراب الثروة الخادع، فإن «كورونا» قد استطاع عبر تعطيل دورة الإنتاج وإعادة الناس إلى بيوتهم، أن يعيد الزمن إلى إيقاعه البطيء، وصولاً إلى «نوم الأيام»، على حد الكاتبة اللبنانية علوية صبح. صحيح أن التباطؤ الشديد لحركة الزمن يبعث من جهة على الشعور بالضجر والرتابة، حيث الفرص المتاحة لتزجية الوقت قليلة جداً، وموزعة بين المطالعة ومشاهدة التلفزيون وشبكة التواصل الاجتماعي والتهام الطعام، لكن البطء يمنح من جهة ثانية شعوراً بالطمأنينة والسكينة الوادعة والهَدهَدة الباعثة على النعاس والخدر الروحي.
على أن الشعور ببطالة الزمن في حاضره الراهن، وغموض الطريق إلى المستقبل، لا يترك لمن يعيشون تحت وطأة الحجْر المنزلي سوى النكوص إلى الوراء، حيث الزمن مفتوح على مصراعيه والعودة إلى الماضي هي السبيل الأكثر نجاعة لنسيان كابوس الحاضر أو تناسيه. إن هذه العودة توفر للذين يعيشونها، ما توفره الروايات لقرائها من فرص الاستقالة من حيواتهم الأصلية المتعبة، للإقامة في حيوات أخرى حافلة بالمتعة وخالية من التبعات. فالصور والنصوص والأوراق القديمة التي يعمل البشر المنعزلون على استخراجها من الأدراج، تبدو لأصحابها وكأنها كنز حياتهم الأثمن الذي ينبغي انتشاله من «تايتانيك» اللحظة المهددة بالغرق. وليس غريباً تبعاً لذلك أن يعمد الآلاف من البشر إلى نشر سيَرهم ووقائع حياتهم وصورهم القديمة على مواقع التواصل الاجتماعي. كما أن «البحث عن الزمن المفقود» لا يقتصر على نشر صوَر مختلفة للأفراد والجلسات العائلية وللنزهات وحفلات الزفاف فحسب، بل يشمل في الوقت ذاته الصور التي تمّ التقاطها للكثير من القرى والبلدات والمدن قبل نصف قرن وأكثر من الزمن. فكل ما هو حديث لم يعد يعوّل عليه؛ لأنه بات في نظر الناس متصلاً براهن الأرض الملوث وواقعها الموبوء. والبشر حين يعودون للماضي، يبدون وكأنهم يعودون إلى أزمنة البراءة الخالصة التي لا يطالها الفساد، وينأون بأنفسهم عن الخطر الداهم الذي يهدد الكوكب برمّته ويضع سكانه على طريق الإمحاء والاضمحلال.
وعلى قاعدة «ربّ ضارة نافعة» تمكن وباء «كورونا»، على مساوئه، من جعل المطالعة وقراءة الكتب واحدة من الخيارات القليلة المتاحة أمام ملايين البشر المحتجزين في بيوتهم. وإذا كانت نسبة المعنيين بالقراءة في العقود الماضية قد أخذت بالتضاؤل التدريجي في ظل استشراء القيم المادية والبحث المرهق عن لقمة العيش، فإن هذه النسبة قد تضاعفت تماماً في الآونة الأخيرة. ففي ظل الإقامة الجبرية المفروضة على معظم سكان الأرض، لن يجد هؤلاء الكثير ليفعلوه، سوى اللجوء إلى القراءة والتهام الكتب، بحيث لم يعد الأمر محصوراً بالنخب المثقفة وحدها، بل بات الجميع بحكم الواقع المستجد، وعلى طريقة «مكرهٌ أخاك لا بطل»، يرون في المطالعة ملاذهم الأنجع من الضجر والخوف والإحباط. كما أن القراءة تتيح للمحتجزين في بيوتهم الإقامة في عالم افتراضي يحملهم بعيداً عن الخطر الداهم الذي يتهدد وجودهم، بانتظار أن تعود الحياة لاحقاً إلى مسارها القويم. ومع أن الرواية بأنواعها المختلفة ظلت تتصدر منذ عقود قوائم مبيعات دور النشر العربية والعالمية، فإنها لا تزال تشهد المزيد من الرواج في ظل الوباء القاتل، ولا يزال الآلاف يقبلون على قراءتها بشغف بالغ. ذلك أنها توفر لقرائها من فرص المتعة والتشويق والتماهي مع عوالمها المتخيلة، ما لا يوفره أي فن آخر.
على أن آثار «كورونا» الثقافية لن تقتصر على ازدياد منسوب القراءة فحسب، بل ستتعدى ذلك إلى الكتابة والتأليف. فبعد أن تحولت الأرض إلى سجن كبير، سيجد مبدعوها، القدامى والجدد، كل ما يلزمهم من وقت لتحويل مكابدتاهم وهواجسهم إلى أعمال أدبية وفكرية. تماماً كما يحدث للمعتقلين السياسيين ونزلاء السجون الذين لم يكتف بعضهم بقراءة الكتب، بل تجاوزوا ذلك باتجاه التأليف الأدبي والسياسي والفلسفي وكتابة السيَر والمذكرات. ولعل ما اصطُلح على تسميته بأدب السجون، لم يكن سوى الثمرة الطبيعية لاختلاء الناس بأنفسهم في ظل العزلات القسرية الطويلة التي وفَّرت لهم كل أسباب المطالعة والتحصيل المعرفي والتأمل في الجوانب الجوهرية من الحياة، وفي كل ما يتصل بقضايا الحرية والحب والعدالة والزمن والحياة والموت. وإذا كنت أميل إلى الاعتقاد باستمرار الرواية وأدب السرد في التصاعد والازدهار، فليس ذلك من باب التنجيم والحدس المجرد، بل لأن كتّاب الرواية والقصة يختبرون خلال هذه الحقبة الحرجة من الزمن أنماطاً من العيش غير مسبوقة، ويعاينون في علاقتهم بالمكان تفاصيل ووقائع وتمزقات، لم يسبق لهم أن اختبروها في أي مرحلة من حياتهم. إلا أن الجانب الأوفر والأعمق من الانفجار الإبداعي المصاحب لاستشراء الوباء واللاحق له، سيكون حسب ما أعتقد من نصيب الشعر. فهذا الفن الجميل والصعب الذي سارع الكثيرون إلى نعيه وتأبينه في العقود الأخيرة، لن ينتظر طويلاً لكي يستعيد مكانته السابقة وألقه المتراجع. وفي ظل تشظي الزمن وفقدان اليقين وزوال القشور الهشة التي تغلف الحقيقة، سيكون الشعر بأساليبه المختلفة التي تتراوح بين المعلقات الطويلة والشذرات المكثفة واللقى الخاطفة، حاضراً لتلقف الصدمة والتعبير عن أعتى الوساوس التي تعصف بالجنس البشري. وأغلب الظن أن شعر المناسبات والتحريض الخطابي والدعاوى الآيديولوجية لن يجد له مكاناً في السنوات المقبلة، وسيشهد الكثير من التراجع أمام حاجة القراء إلى شعرية التأمل والمساررة مع النفس والتوهج الروحي، وإلى كل ما يزودهم ببصيص من الضوء وسط ظلام المرحلة وغموضها المستتب.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.