«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى

بلبلة في البحريتين الأميركية والفرنسية... ومهام جديدة لأسطول روسيا

«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى
TT

«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى

«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى

علّقت جائحة «كوفيد - 19» إلى حد كبير النشاط العسكري المعتاد للقوات المسلحة في عدد من القوى العالمية الكبرى، كون الأولوية الآن تتمثل في تكثيف الجهود لمحاربة انتشار فيروس الجائحة، الذي لم تكن الجيوش بمنأى عن إصابة أفرادها به، وهو ما تمثل في وصوله إلى حاملات طائرات فرنسية وأميركية، اضطرت على إثرها باريس وواشنطن على اتخاذ خطوات لاحتوائه. كذلك أدى انتشار الفيروس في هذه القطع البحرية بجانب القواعد العسكرية في مختلف مناطق العالم، مخاوف كبيرة من أن يترك ذلك تداعيات على حماية الممرات المائية وسيطرة تلك الدول على البحار وخطوط التجارة العالمية.
من جانب آخر، كلفت القوات المسلحة، أمام تهديد الجائحة بمهام غير تقليدية، منها الإسهام في الإغاثة الصحية، أو مهام الأمن الداخلي، أو ضبط خطوط الإمداد والتموين، في ظل قرارات الإغلاق والبقاء في المنازل.
يوم 13 أبريل (نيسان) المنصرم عادت حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول»، ذات الدفع النووي والوحيدة التي تملكها فرنسا، إلى قاعدتها في مدينة طولون قبل عشرة أيام من الموعد المحدد، واضعة بذلك حدا لمشاركتها في مناورات بحرية أوروبية في شمال المحيط الأطلسي، وذلك بسبب تفشي فيروس جائحة «كوفيد - 19» على نطاق واسع بين عسكرييها البلغ عددهم 1786 فرداً، ومنذ ذلك التاريخ والحاملة رابضة في مرفأ طولون، من دون أن تفصح البحرية الفرنسية عن تاريخ محدد لمعاودة أنشطتها مع المجموعة البحرية التي تواكبها. وبذلك، تكون فرنسا قد فقدت، مؤقتاً، القدرة على الاعتماد على هذه الحاملة التي تشكل العمود الفقري لبحريتها.
وفي هذه الأثناء، كان على الولايات المتحدة، التي باتت أكثر دول العالم تعرضاً للإصابة بـ«كوفيد - 19» أن توازن بين كيفية دعم جهودها المدنية لاحتواء الوباء وتوفيرها للإمدادات الطبية ودعم الأسر والاقتصاد، والدفاع عن الأمة من الأخطار الخارجية. ورغم حرص وزارة الدفاع «البنتاغون» على إظهار «شفافيتها» عبر بياناتها والمؤتمرات الصحافية للمتحدثين باسمها، للحديث عن انتشار فيروس الجائحة وسط وحدات الجيش الأميركي البرية والبحرية والجوية، فإن الإحراج كان واضحاً في بيانات البنتاغون، بعد تداعيات انتشاره على واحدة من أقوى حاملات الطائرات الأميركية. أما في العاصمة الروسية موسكو، فلم تكن مفاجأة، العبارة اللافتة التي أطلقها أخيراً عمدة موسكو سيرغي سوبيانين، حول احتمال اللجوء إلى نشر قوات الجيش في المدن، في حال لم يلتزم المواطنون بتدابير العزل المفروضة. فقد مهد لذلك تلويح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاستعانة بالجيش لمواجهة تفاقم الوضع مع المنحى التصاعدي لتفشي الوباء في روسيا.

حكاية الحاملة «شارل ديغول»
تتميز «شارل ديغول» بأنها حاملة الطائرات الوحيدة في أوروبا التي تعمل بالدفع النووي. وتخطط باريس لبناء حاملة طائرات ثانية. إلا أن تحقيق هذا الهدف سوف يستغرق سنوات إن لم يكن عقوداً. فالخطة أطلقها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي ثم تبناها خلفه فرنسوا هولاند، إلا أنه جرى التخلي عنها لاحقاً. ومع وصول إيمانويل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية، أعيد إحياؤها وأعلنت وزيرة الدفاع فلورانس بارلي خلال عام 2018 رصد مبلغ 200 مليون يورو للدراسات الفنية والهندسية.
تمثل هذه الحاملة الكثير بالنسبة لقدرات فرنسا العسكرية. وخلال السنوات العشرين الماضية، كانت مركز الثقل في المشاركة الفرنسية في العمليات العسكرية الخارجية بدءاً من الحرب في أفغانستان على مرحلتين - ما بين عامي 2001 و2002 ثم في عام 2010 - وصولاً إلى الحرب في ليبيا، أو ما يسمى فرنسا «عملية هارمتان» وحتى الحرب على «داعش»، في إطار مشاركة باريس في التحالف الدولي للحرب على الإرهاب بدءاً من عام 2014.
وتواصلت مشاركة «شارل ديغول» الجوية بفضل طائرات الـ«رافال» المحمولة، إلى جانب طلعات الطائرات الفرنسية من مطارين في منطقة الشرق الأوسط والخليج لعام 2019. في إطار العملية المسماة «كليمنصو» بعد أشهر الصيانة الطويلة (18 شهراً) التي أخضعت لها الحاملة في الأحواض العسكرية في طولون. وخلال العام الجاري، أبحرت الحاملة في مياه المتوسط وشاركت في مناورات وانتقلت إلى المحيط الهندي لتعود إلى قاعدتها وتنطلق بعدها إلى المحيط الأطلسي عبر مياه مضيق جبل طارق. وعندما ظهرت أولى حالات الجائحة على أفراد من طاقمها، كانت قبالة الشواطئ الدنماركية.

... وأهميتها للعمليات الفرنسية
الواضح أنه عندما تكون باريس في حاجة لإبراز عضلاتها في الخارج، فإن وسيلتها الأولى هي «شارل ديغول». فهذه الحاملة التي انطلقت في أولى مهماتها في 7 مايو (أيار) 1994. هي الوسيلة الرئيسية لقدرات الانتشار الفرنسية في أي مكان من العالم بفضل قوة الدفع النووية التي تتمتع بها. فضلاً عن ذلك، فإن هذه الحاملة التي يبلغ طولها 261 وارتفاعها 75 متراً، بحمولة تصل إلى 45 ألف طن، تتمتع بقدرات جوية استثنائية بفضل ما يزيد على 30 طائرة قاذفة - مقاتلة من طراز «رافال» البحري وطوافات وطائرات استطلاع كما أنها مزودة بأحدث المعدات الدفاعية والرادارات. وفي أي حال، لا تبحر «شارل ديغول» أبداً وحيدة، بل مع مجموعتها البحرية المؤلفة من ثلاث فرقاطات وغواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية ومن سفينة قيادة وتموين. وأهم من ذلك كله، فإن «شارل ديغول» مكوّن رئيسي من قدرات الردع النووية الفرنسية بفضل طائرات الـ«رافال» القادرة على حمل الصواريخ النووية. وليس سراً أن قوة الردع الفرنسية تعتمد على مكوّنين: بحري وجوي. فالبحري يتمثل بأربع غواصات نووية قاذفة مزودة بـ48 صاروخاً نووياً. أما المكوّن الجوي فيتمثل بالطائرات الاستراتيجية، إن المنطلقة من القواعد الجوية أو من على متن «شارل ديغول».
وبالنظر إلى هذه الإمكانيات المتوقفة اليوم، فإن باريس تحرم نفسها من قطعة أساسية في استراتيجيتها العسكرية، وهو ما لم يتردد القادة العسكريون الفرنسيون في الإشارة إليه أكثر من مرة منذ أن رست الحاملة في مرفأها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن فرنسا ليست فقط أوروبية القارة بل إنها منتشرة في المحيطين الهندي (في جزيرتي مايوت وريونيون) والمحيط الهادي (كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية إضافة إلى أرخبيل واليس وفتونا) وفي المحيط الأطلسي (جزيرتا الغوادلوب والمارتينيك) وخصوصاً غويانا الفرنسية بشمال شرقي البرازيل. وفي الوقت عينه، فإنها تملك أراضي محاذية لكندا (جزيرتي سان بيار وميكييون). ويبني هذا الانتشار الحاجة لما يسميه العسكريون الفرنسيون «القاعدة الجوية المتنقلة» القادرة بفضل دفعها النووي الوصول إلى أي منطقة بحرية في العالم دون أدنى عائق. وما بين عام 2001 و2016. قطعت «شارل ديغول» ما يساوي 30 دورة حول الأرض وأمضت 2071 يوماً في إطار مهماتها المتنوعة وشهدت 70 عملية إقلاع وهبوط على مدرجها.

التحديات أمام «البنتاغون»
في أميركا، كان الجيش الأميركي، الذي يعد أكبر قوة عسكرية في العالم وأقواها، الدخول في تحدٍ صعب وموازنة دقيقة بين توفير الحماية لأفراده، والحفاظ على جهوزيته العسكرية في المناطق التي ينتشر فيها، من الشرق الأوسط إلى أوروبا وآسيا، في ظل قرارات «البنتاغون» الأخيرة وتداعياتها المتوقعة. وتحديداً، لجهة تحويل بعض الموارد لتلبية الحاجات الطبية جراء تفشي فيروس الجائحة بين أفراده، وإلغاء التدريبات والتنقلات العسكرية لقواته البرية والبحرية وجزئياً على قواته الجوية.
أولى تلك التداعيات كانت تراجع نشاط القوات الأميركية في سوريا، وإعادة نشرها في قواعد في العراق، عبر تخليها عن بعضها، إثر تصاعد الأخطار الناجمة عن استغلال إيران وميليشياتها تفشي الجائحة وتنفيذ هجمات متكررة على بعض القواعد. كذلك عمد الجيش إلى تقييد تحركاته في أفغانستان وأخّر تنفيذ خطط انسحاب القوات الأميركية تنفيذاً للاتفاق الذي وقع مع حركة طالبان في 29 مارس (آذار) الماضي. وأوقف أيضاً التدريبات العسكرية مع حلف شمال الأطلسي «ناتو» في أوروبا، وكذلك مع بعض الدول العربية وأيضاً مع إسرائيل. ولعل انتشار الفيروس بين أفراد القوة العسكرية الأميركية البحرية، شكل أكبر المعضلات التي واجهت «البنتاغون»، وأدت إلى إحداث بلبلة غير مسبوقة وأزمة قيادية عندما ضرب الفيروس أفراد طاقم حاملة الطائرات النووية «تيودور روزفلت» فأخرجها عملياً من الخدمة بعد رسوها في قاعدة في جزيرة غوام المحيط الهادي. وتسبب الأمر بإقالة قائد الحاملة بريت كرويزر إثر نشره رسالة إلى قيادته يطلب فيها السماح للحاملة بالرسو لمعالجة المصابين، الذين بلغ عددهم أكثر من 800 من أفراد طاقمها البالغ نحو 5 آلاف، بينهم هو شخصياً. كما استقال توماس مودلي وزير البحرية بالوكالة على خلفية تعامله مع الأزمة نفسها.
ورغم تراجع وتيرة البيانات «العملانية»، توقع قادة «البنتاغون» أن يصيب فيروس الجائحة مزيداً من سفن البحرية، مشددين على ضرورة تكيف الجيش مع هذه الأوضاع. وقال الجنرال جون هيتين، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة، إنه «ليس من الجيد الاعتقاد بأن (روزفلت) قضية فريدة من نوعها... لدينا الكثير من السفن في البحر..... الاعتقاد بأن ذلك لن يحدث مرة أخرى ليس وسيلة جيدة للتخطيط». وأشار إلى أن حاملة الطائرات «نيميتز»، التي ترسو في ميناء بريميرتون بولاية واشنطن، تعد للإبحار في المحيط الهادي، وعلى متنها عدد غير محدد من البحارة المصابين بالفيروس.

اختبار في مياه الخليج
وفي سياق متصل، شكلت الجائحة أول اختبار لجهوزية القوات الأميركية، مثلما كانت حافزاً لأعداء الولايات المتحدة ومنافسيها على محاولة اختبار ردة فعلها على «التحرشات». هذا ما حصل في العراق وكذلك مع إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية، في الأسابيع الأخيرة. إذ نفذ 11 زورقاً حربياً إيرانياً عمليات اقتراب وصفتها واشنطن بالخطرة في مياه الخليج من سفن حربية أميركية في الأسبوعين الماضيين. وبعد إعطاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب أوامره بإغراق أي مركب إيراني، أكدت قيادة المنطقة الوسطى «سانتكوم» على جهوزية عالية لمواجهة أي احتمالات «تحرش» من قبل بحرية «الحرس الثوري الإيراني» في مياه الخليج الدولية، وأن أي تعرض للمصالح الأميركية في المنطقة سيرتب نتائج سلبية وخطيرة.
أيضاً، تصدّت طائرات مقاتلة أميركية لطائرات استطلاع روسية اقتربت من المجال الجوي لولاية ألاسكا الأميركية، فيما تصدت طائرات روسية لطائرة استطلاع أميركية فوق البحر المتوسط. ونفذت الصين بعض المناورات في بحر الصين، وخصوصاً بالقرب من الجزر المتنازع عليها مع دول أخرى، وأغرقت زورق صيد فيتنامي، في تعبير عن «انزعاجها» من الوجود العسكري الأميركي في آسيا، فيما عادت كوريا الشمالية لتجربة العديد من الصواريخ قصيرة المدى والمتوسطة، وأطلقت مقذوفات نحو بحر اليابان.

روسيا: مهام مختلفة
عودة إلى روسيا، فإن الأمر لا يقتصر على المهام التي يمكن أن ينفذها الجيش الروسي لمساعدة السلطات في تنفيذ قرارات العزل، إذ بدا واضحاً تعاظم دور المؤسسة العسكرية في البلاد كواحد من تداعيات انتشار جائحة «كوفيد - 19»، مما أثار سجالات كثيرة على المستوى الداخلي. ويذكر أن بوتين كان قد قال في اجتماع حكومي إن «العسكريين الروس أثبتوا كفاءة عالية واكتسبوا خبرات مهمة في مواجهة الوضع في عدد من البلدان الأجنبية، وهذه الخبرة يجب أن تستخدم على الصعيد الداخلي». ووفقاً لبوتين فإن المؤسسة العسكرية قادرة على تسريع عمليات بناء المراكز الطبية ومستشفيات مسبقة التجهيز في وقت قياسي، وهو أمر تحتاج إليه البلاد كثيراً، خصوصاً مع الإعلان عن نقص حاد في هذا المجال.
ولم يطل انتظار تطبيقات ذلك، إذ سرعان ما أعلن عن إطلاق الجيش نشاطاً واسعاً لبناء عشرات المستشفيات في مناطق روسية مختلفة. وتبع ذلك التركيز على أن المؤسسة العسكرية تحديداً ستسهم في توفير لقاح ضد الفيروس. وكتبت وسائل إعلام روسية أن الأقسام العلمية التابعة لوزارة الدفاع بدأت بالفعل نشاطاً واسعاً في هذا الاتجاه. وهنا أيضاً برزت ضرورة الاستعانة بالخبرات العسكرية الروسية التي تراكمت خارجياً، وقالت مصادر إن تجربة علماء الأوبئة العسكرية الروسية الذين عملوا في أفريقيا وآسيا مع إصابات خطيرة بشكل خاص ينخرطون حالياً في تجربة لقاحات تم تجريبها في إيطاليا وصربيا وأرمينيا.

اهتمامات بحثية طبية
ووفقاً للجنرال إيغور كيريلوف، رئيس قوات الحماية من الإشعاع والكيمياء والبيولوجية التابعة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي، فإن المتخصصين في المعهد المركزي الثامن والأربعين للبحث العلمي وهو مركز يحاط نشاطه بسرية مطلقة في العادة، يعكفون على تطوير لقاحات حالياً. وكان هذا المركز نظم نشاط مكافحة وباء الجمرة الخبيثة في يامال في صيف عام 2016. ووفقاً للمصادر العسكرية، فقد شارك معهد الأبحاث الثامن والأربعون أيضاً بنشاط في تطوير لقاح ضد إنفلونزا الطيور. لكن تعاظم دور المؤسسة العسكرية برز أيضاً على المستوى الخارجي، وأثارت المساعدات الطبية الروسية المرسلة لبلدان مختلفة موجة سجالات وتساؤلات كثيرة على خلفية اتهامات للكرملين باستخدام الكارثة العالمية في مواجهة الـ«كوفيد - 19» سياسياً، من خلال تعميق السجالات في أوروبا والعالم والتركيز على نقطة ولادة عالم جديد بخريطة قوى مختلفة في المرحلة التي تلي انحسار الجائحة.

مساعدات خارجية
وأرسلت وزارة الدفاع عشرات الطائرات العسكرية محملة بمواد مختلفة وطواقم طبية إلى إيطاليا التي «أغلقت حولها الحدود»، وبدت كما يقول مسؤولون روس: «وحيدة في مواجهة الكارثة التي حلت بها».
وظهرت أدوار جديدة للعسكريين الروس في بلدان مثل فنزويلا وإيران وسوريا، في إطار ما وصف بأنه «مساعدات وتدريبات لرفع كفاءة المؤسسات المحلية في مواجهة الفيروس». ولم تلبث موسكو أن أعلنت عن إرسال طائرة عسكرية من طراز «أنتونوف» إلى الولايات المتحدة تحمل مساعدات إنسانية وكمامات ومستلزمات طبية أخرى أساسية لمكافحة الفيروس. وشكلت هذه خطوة غير مسبوقة، فهذه أول طائرة تابعة للقوات الجوية الروسية تحط على الأراضي الأميركية. وبدا المشهد استعراضاً سياسياً قوياً، وفي مقابل تأكيد وسائل إعلام غربية أن «المساعدات العسكرية الروسية» لا جدوى منها وأن هدفها استخدام الكارثة لتحقيق أغراض سياسية، دافعت موسكو بقوة عن موقفها وتحدثت عن ضرورة «التضامن العالمي في مواجهة الجائحة». وبدا من كل تلك التطورات أن الجيش تحديداً بات يلعب الدور الأساسي في تعزيز النشاط الدبلوماسي وتمدد الوجود الروسي في مناطق جديدة، ولكن كان غريباً في هذا المسار أن تعلن موسكو أخيراً أن نحو عشرة بلدان في منطقة الشرق الأوسط «طلبت مساعدة روسية لمواجهة الجائحة». وهذه مهمة إذا اتفق عليها ستناط بالجيش الروسي.
ومع امتداد نشاط الجيش داخلياً وخارجياً، أثار التركيز على دور العسكريين ردود فعل متباينة، وفي مقابل تأكيد الوكالات الرسمية على أهمية هذا الدور في هذه المرحلة بالتحديد، خصوصاً لأن لدى المؤسسة العسكرية قدرات كبيرة يمكن الإفادة منها، فإن معلقين انتقدوا هذا التركيز ورأوا فيه واحداً من التجليات المحتملة للمرحلة المقبلة، من خلال أن بوتين يعزز القطاعات الأمنية والعسكرية مستغلاً الأزمة الحالية، وأن ما يجري يمهد للمرحلة المقبلة ليس في روسيا وحدها، بل وفي بلدان عديدة أخرى ستغير أولوياتها وفقاً لمحللين بعد انتهاء المعركة مع الوباء وتتجه لتعزيز الأنظمة الداخلية الوطنية بقدر أكبر من الانعزال والابتعاد عن سياسات الليبرالية والعولمة. وكتب ديمتري غودكوف وهو معارض ونائب سابق في مجلس الدوما، أن «الوباء سوف ينحسر عاجلاً أو آجلاً، لكن القوانين التي تسن حالياً والإجراءات التي تتخذها السلطات سوف تبقى لفترة طويلة مقبلة».

القوى الكبرى حوّلت جهودها لمكافحة الجائحة... والأولويات العسكرية العالمية تتراجع
> في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال العميد الركن المتقاعد خالد حمادة، مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات في العاصمة اللبنانية بيروت، إنه بعد حملة التعقيم والتطهير التي قامت بها البحرية الفرنسية لحاملة الطائرات «شارل ديغول» والقطع المرافقة في مرفأ طولون العسكري بجنوب فرنسا «يمكن لها أن تعود إلى المياه الدولية»، لكنه يشير إلى أن هذه القضية الآن ليست بالأهمية القصوى.
ويتابع أن «التجارة الدولية في هذا الوقت تقلصت إلى مستويات كبيرة، كما أن المشروع الأميركي لبسط سيطرة الولايات المتحدة على طريق التجارة الصينية من المحيط الهادي إلى بحر الصين والمحيط الهندي، لم يعد في هذه الظروف مجالاً للتنافس لأن الاقتصاد العالمي تجمّد، وبالتالي، تبدلت الأولويات وفقد التنافس على السيطرة أهميته».
حمادة، وهو باحث عسكري واستراتيجي، لا يرى - في المقابل - أن ثمة تأثيراً عسكرياً لتلك التطورات، بالنظر إلى أن الجيوش «تستطيع تبديل طواقم العمل في حال كانت هناك إصابات، وتستأنف نشاطها العسكري إذا دعت الحاجة»، علماً بأن الحروب الآن معلقة «بسبب تبدل الأولويات نحو مكافحة الفيروس». ويعزز تقييمه بأنه «لا إصابات بالغواصات التي تشكل قوى بحرية هائلة، حتى أنه لم تُرصد إصابات داخل التجمعات العسكرية البحرية مثل قوى (المارينز) الأميركية، وبالتالي فإن الجيوش لا تزال قادرة للحفاظ على قدراتها».
من ناحية ثانية، لم يرصد حمادة نقاطاً ساخنة في ظل تبدل الأولويات إلا محاولة التحرش الإيرانية بالسفينة العسكرية الأميركية خلال الشهر المنصرم، مشيراً إلى أن إيران «تحاول الخروج من أزمة كورونا وتدني مستويات الاقتصاد، محاولة إظهار (حيوية عسكرية بالحفاظ على النمط الهجومي داخل الخليج) رغم الإصابات بالـ(كوفيد - 19) التي سجلت في إيران وتعطل الحركة التجارية وتوقف الحياة في البلاد». ويقول إن «إطلاق القمر الصناعي يصب بالموضوع نفسه، إذ تسعى إيران للقول إنها تطلقه لتعبر عن خطوة متقدمة على طريق توجيه الصواريخ الباليستية، وهذا ما يدخل المنطقة في مرحلة الخطر المتزايد لأن توجيهها بدقة وإيصالها لآلاف الكيلومترات يمثل خطراً على الأمن والسلام الإقليميين».
ويعود حمادة إلى ملف تأثير الجائحة على العمليات العسكرية من زاوية تأثيره على كل الناس، «إذ ساهم بشل قدرات أو على الأقل خفض قدرات التمويل العسكرية»، وعليه «لم تعد العمليات العسكرية تحتل قائمة القرارات الكبرى، ولم يعد لديها أولوية»، لكنه يؤكد أنه «إذا ارتفع مستوى التهديد لأي دولة كبرى، ستقفز العملية الدفاعية إلى الصف الأول»، لافتاً إلى أنه «رغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يحمل على عاتقه مسؤولية مواجهة انتشار الجائحة ويقف وراء الجهود لمكافحته، فإنه إذا حصلت تحديات عسكرية سيعطيها أولوية، ويعيد بالتالي الأولويات الأمنية إلى المربع الأول، ويكون مرتاحاً من ضغوط الديمقراطيين ليعود ويلعب الدور للحفاظ على الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى بالعالم».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.