مشهديات من عصر قادم

العالم فريمان دايسون الراحل عنا أخيراً يدعونا إلى التمسك بالأمل

فريمان دايسون
فريمان دايسون
TT

مشهديات من عصر قادم

فريمان دايسون
فريمان دايسون

ليست أياماً مريحة أو مرغوباً فيها هذه التي نعيشها اليوم؛ لكنّ هذا هو واقع الحال وما يستلزمه من قوانين إجرائية صارمة للتعامل مع حالة تنطوي على الكثير من الطارئية والتهديد للبشر الذين يتمايزون فيما بينهم تمايزاً عظيماً بشأن ترسيماتهم السيكولوجية وكيفية تعاطيهم مع الأزمات: البعضُ يذهب مذهباً ديستوبياً حالكاً يتناغم مع رؤيته السوداوية للأمور؛ فيصوّرُ واقع الحال وكأننا بتنا على أعتاب مرحلة قيامية apocalyptic منذرة بفناء البشرية، وثمة آخرون (هم ذوو معرفة علمية مقبولة في الأعمّ الغالب) يميلون لعقلنة الأمر وتوصيف الحالة وفقاً لمبادئ علمية متفق عليها في علم الوبائيات أو الجائحات المرضية، وإذا ما كان لنا أن نستخلص خلاصة مفيدة فسنقول أنّ العلم والتقنيات المرتبطة به هي الملاذ العملياتي الذي يبدو متفرّداً في قدرته على تدعيم ركائز الأمل والتفاؤل والعمل الإيجابي القادر على تجاوز هذه المحنة (الكورونية) بأقلّ الخسائر الممكنة.

غلاف الكتاب

صحيحٌ أنّ هذه الجائحة الوبائية الكورونية تبدو شديدة القسوة وغير مسبوقة؛ لكنّ العقل العلمي المدرّب لا ينظرُ إليها من ثقب الديستوبيا التي شاعت في أيامنا هذه وغادرت ثنايا كتب الخيال العلمي لتصبح أطروحات يقينية مغلّفة بأغلفة آيديولوجية أو دينية تبشّرُ باقتراب نهاية العالم وفنائه. العقلُ العلمي لا يرتكنُ إلى هذه الأطروحات القيامية التي تتناغمُ مع البصمة السيكولوجية لكثرة من البشر الذين يحيون على هذه الأرض؛ إذ يبشّرُ هؤلاء بالفناء المصاحَب بالأجواء الديستوبية المظلمة للبشرية، وقد يغلّفون رؤاهم التبشيرية بمنكّهات مفاهيمية تمنح هذه الرؤى شيئا من مقبولية جمعية؛ فنراهم يكتبون عن موت الرأسمالية وموت العولمة وموت نظرية الدولة وسواها من الميتات التي لطالما طرقت عقولنا منذ عقود عدّة.
العقل العلمي في الجانب الآخر هو عقل مضاد للديستوبيا بالضرورة، وقد لا يكون مبشراً بيوتوبيا على شاكلة اليوتوبيا التي شاعت في أعقاب الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية وبقيت تأثيراتهما فاعلة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى؛ لكنّ العقل العلمي هو عقل محكومُ - بالضرورة - بالأمل: يجتهد ويتقصّى ويسائلُ ولا يفرّطُ بطاقته الجبارة في الدهاليز الديستوبية المظلمة.
ذكّرتني هذه الجائحة الكورونية بكتاب، كتبه البروفسور (فريمان دايسون Freeman Dyson) الذي توفّي يوم 28 فبراير (شباط) من هذا العام. البروفسور دايسون شخصية رائعة على المستويين العلمي والإنساني، وهو وإن كان فيزيائياً لامعاً ساهم في العديد من المشروعات البحثية الرائدة لكنه عبقري ذو اهتمامات متعدّدة دفعت مجايليه لكي يصفوه بصفة Polymath التي تعني قدرة فائقة في التعمّق المعرفي التفصيلي (لا المعرفة السياحية العامة) بطائفة واسعة من الحقول المعرفية العلمية وغير العلمية. الكتاب الذي عنيته (وهو موضع الاهتمام في موضوعنا هذا) عنوانه (الشمس والجينوم والإنترنت The Sun، The Genome، and the Internet)، وبرغم أنّ الكتاب نشرته جامعة أكسفورد في طبعته الأولى عام 1999 لكنه يبقى كتاباً حيوياً عظيم التأثير حتى يومنا هذا. يرى البروفسور دايسون أنّ التقنيات الثلاث الأسرع تطوّراً في عالمنا المعاصر هي: تقنيات الطاقة الشمسية، الهندسة الوراثية، والشبكة التواصلية العالمية (الإنترنت)، وأنّ هذه التقنيات الثلاث لو تعاضدت مجتمعة فستكون لها مفاعيل عظيمة وبخاصة في موضوعة تحقيق تنمية شاملة في كلّ أنحاء كوكبنا الأرضي فضلاً عن تجاوز حالات الفقر المدقع التي أصبحت معيبة بل وتمثّل مثلبة إنسانية. يمضي البروفسور دايسون في كتابه الرائع هذا (الذي ينتمي لصنف اليوتوبيا المستقبلية ممكنة التطبيق) في التبشير بقدرة الجنس البشري على اجتياز عقبات خطيرة، ويرى أنّ الطاقة الشمسية متى ما استغلّت بطريقة عملية معقولة التكلفة فستجعل كلّ البشر - وبخاصة هؤلاء القابعين في مناطق نائية من العالم - قادرين على الولوج إلى منجم الثروة المعلوماتية التي تتيحها الشبكة العالمية (الإنترنت)، وبهذا يمكن وضع حدّ نهائي لحالة العزل الثقافي للبلدان الفقيرة، وبطريقة مماثلة يمكن للتطوّرات الهائلة في الهندسة الوراثية أن تخلّق لنا محاصيل غذائية أكثر غنى في محتواها الغذائي؛ الأمر الذي يساعد في إعادة بث الحيوية المتضائلة في الحياة الريفية التقليدية التي جرى التعدّي عليها وتهميشها لصالح دعم أخلاقيات السوق العالمية.
يمكن أن تكون الديستوبيا التي تصوّرها عقول البعض إيذاناً بالنهاية القيامية للعالم ميدان اختبار ممكن ومجاني يولّد طاقة الدفع المطلوبة لتحفيز تقنياتٍ ما كان ممكناً اختبارها في ظروف غير ديستوبية، وإذا ما شئنا التخصيص فيمكن القول أنّ هذه الجائحة الكورونية ستعملُ على توفير دعم مؤسساتي (على الصعيدين الحكومي والخاص) لتطوير التقنيات التي بشّر بها البروفسور دايسون في كتابه أعلاه، وأظنّ أنّ تدعيم التقنيات الخاصة بتعزيز الفردانية وإدامة الحياة البيولوجية للكائن الحي ستلقى أسبقية خاصة، ومن أجل هذا سنرى انقلاباً محتوماً في أنماط التعاون الدولي والآيديولوجيا الحاكمة لعالمنا (آيديولوجيا العولمة والأسواق المفتوحة) في مقابل صعود آيديولوجيا الفردانية التي قد تبلغ مستويات غير متصورة على صعيد تخليق الغذاء لكلّ فرد وطريقة تواصله مع العالم المعلوماتي بالإضافة إلى إعادة النظر الجذرية بفلسفة التعليم الحالية، وربما سيكون من أهمّ الأسباب الداعمة لتطوير شبكة التواصل العالمية (الإنترنت) وجعلها مجانية تعمل على سعات كبيرة هو هذا الانقلاب الجذري في عملية التعليم الحالية التي باتت مكلفة وغير ذات جدوى في الكثير من مخرجاتها التي لم تعد تلائم عصر الثورة التقنية الرابعة. هكذا يعمل العقل العلمي إذن: ليس من تبشير بموت أو ميتات، وليس من ابتهاج لنهاية قيامية للأرض، وليس من مشهديات ديستوبية يطرب لها بعض المسكونين برغبات تدميرية؛ بل ثمة في المقابل معرفة وبحث وتمويل لتحديد الخسائر (حتى لو بلغت تريليونات الدولارات) ومن ثمّ العمل على تجاوزها بالمنهجيات العلمية والتقنية المطوّرة.
هل أنّ ما نعيشه اليوم ينطوي على شيء من الخيال العلمي؟ أقول: نعم، هذه الحالة التي نعيشها اليوم هي مجرّد بروفة أولية (تجريبية) لما سيحصل في عالم الأنسنة الانتقالية Transhumanism وما بعد الإنسانية Posthumanism لاحقاً، وحيث سيكون بمستطاع الفرد المكتفي بذاته Self - contained individual إدامة حياته عبر شبكة حاسوبية خارقة القدرات التقنية. الفرد نفسه سيصبح آلية معالجة معلوماتية عظمى من خلال رقاقات مصغرة تستزرعُ في دماغه بطريقة روتينية شبيهة بالتطعيمات المضادة للأمراض السارية في يومنا هذا، ومن لا يفعل هذا لن يكون له مكان في العالم القادم. علينا تفعيل خيالنا البشري وتصوّر ما سيحصل في تلك الحقب الزمنية القادمة لامحالة: نمطٌ من الفردانية الخالصة التي ستأتي بمنظومة قيمية وسيكولوجية وأخلاقياتية غير معهودة.
الكائنات الديستوبية مخلوقات شديدة الخطورة تجاه ذواتها والآخرين معاً، وقد لا تتقصّد هذه المخلوقات الإيذاء بقدر ما تعكسُ نمطاً من السلوك السيكولوجي المحكوم بنوازع ديستوبية؛ لكن في كلّ الأحوال ربما (وأقول ربما) قد يساعد انتصار العلم والتقنية في تحقيق الغلبة على كلّ العوامل الساعية لتدمير النوع البشري في كسر الرؤية الديستوبية لدى هؤلاء أو التخفيف من غلوائها في أقلّ تقدير. قد يجادل بعض عُتاة الديستوبيين: إذا كانت الديستوبيا غير مرغوبة؛ فلماذا إذن وُجِد الأدب الديستوبي الذي حقّقت بعض سردياته (ولم تزل تحقّق) قراءات كبرى منذ إج. جي. ويلز والدوس هكسلي حتى يومنا هذا؟ الجواب ببساطة: ثمة فرق عظيم بين أن تكتب عن حالة ديستوبية (راهنة أو مستقبلية) بقصد توصيفها وتجاوزها وأنت تشيعُ الأمل بالمقدرة الرائعة للعقل البشري على تجاوز كلّ النتوءات الحادة في سلسلته التطوّرية، وبين أن تشيع حالة مظلمة ليست سوى انعكاس عقلي لسيكولوجيا تدميرية تستطيب فناء البشرية وتتلذّذُ برؤية البشر وهم يلعقون جراحاتهم ولا يمتلكون القدرة على دفن موتاهم.
كم نحنُ محكومون بالأمل في عصرنا هذا وفي كلّ العصور!
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في عمّان



«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.