عجز الحكومة اللبنانية عن حل الأزمة يزيد المخاوف من تدهور أمني

«كرّ وفرّ» بين محتجين والجيش في طرابلس وبيروت... وحرق مصارف وآليات عسكرية

جنود من الجيش في طرابلس أمس قرب مصرف تلتهمه النيران (أ.ب)
جنود من الجيش في طرابلس أمس قرب مصرف تلتهمه النيران (أ.ب)
TT

عجز الحكومة اللبنانية عن حل الأزمة يزيد المخاوف من تدهور أمني

جنود من الجيش في طرابلس أمس قرب مصرف تلتهمه النيران (أ.ب)
جنود من الجيش في طرابلس أمس قرب مصرف تلتهمه النيران (أ.ب)

اتسع نطاق المواجهات، أمس، بين المتظاهرين والمحتجين على الغلاء وانهيار قيمة الليرة، فشمل بيروت وطرابلس في شمال لبنان ومناطق أخرى، ما زاد المخاوف من تدهور الوضع الأمني في البلاد، وسط تحذيرات من «تدحرج كرة النار» و«توسع الاحتجاجات» التي لم تستطع الحكومة تطويقها بالإجراءات العملية حتى الآن.
ومع أن جانباً أساسياً من أسباب اندلاع الاحتجاجات يعود إلى الفقر والبطالة وارتفاع سعر الدولار في السوق مقابل الليرة اللبنانية، فإن حكومة الرئيس حسان دياب لم تتخذ بعد أي إجراء يخفف من تلك التحديات، وتحديداً خفض سعر صرف الدولار الذي فاقم الأزمات ورفع أسعار البضائع أكثر من 100 في المائة. ووعد دياب أمس بالقول: «إننا ماضون في تلبية مطالب الناس بمكافحة الفساد»، كما أن «العبث بالاستقرار ممنوع»، مشيراً إلى أن «ما حصل في بعض المناطق من اعتداء على الممتلكات واستهداف للجيش يؤشر إلى وجود نوايا خبيثة خلف الكواليس لهزّ الاستقرار الأمني، وهذا لعب بالنار».
وأسفرت المواجهات بين المتظاهرين والجيش في طرابلس عن سقوط قتيل وجرحى في صفوف المتظاهرين وجرحى في صفوف الجيش وإحراق آلية له. وأعربت قيادة الجيش عن «بالغ أسفها لسقوط شهيد خلال احتجاجات الاثنين»، مؤكدة «أنها فتحت تحقيقاً بالحادث». وجددت القيادة في بيان صادر عن مديرية التوجيه «تأكيدها احترام حق التعبير عن الرأي شرط ألا يأخذ التحرك منحى تخريبياً يطال المؤسسات العامة والخاصة»، ودعت المواطنين للالتزام بالإجراءات الأمنية.
وأكدت مصادر عسكرية لـ«الشرق الأوسط» أن الجيش يكفل حرية التعبير، لكنه يؤكد أن «التعدي على الأملاك العامة والخاصة ممنوع، كما أن التعرض للجيش ممنوع، ولن يقبل المس بالأمن وبعناصره».
وتجددت المواجهات بعد تشييع الشاب فواز السمان حيث شهدت المدينة تحرّكات شعبية اتسمت بالعنف، وأطلق الجيش القنابل المسيّلة للدموع لتفريق المتظاهرين بعد أن أضرموا النيران بعدد من فروع المصارف في منطقة التل وأقدموا على تكسير بعض واجهاتها. وعمد بعض المحتجين إلى رمي الحجارة في اتّجاه الجيش الذي ردّ بالقنابل المسيّلة للدموع.
كما أحرق محتجون آلية لآمر فصيلة التل في قوى الأمن الداخلي بطرابلس، وأخرى للشرطة القضائية، فيما تواصلت عمليات الكر والفر.
وحذرت مصادر لبنانية مواكبة للتطورات من أن «الوضع الأمني غير مطمئن»، قائلة لـ«الشرق الأوسط» إن التقارير الأمنية تشير إلى «مخاوف من تفاقم الوضع الأمني، بسبب تفاقم الجوع والعوز والحاجة، كما تشير إلى أن استغلال الناس ومطالبة الفقراء قد يزيد أيضاً، ما قد يرفع مستوى العنف في ظل غياب أي أفق سياسي واقتصادي من شأنه أن يثبت الحلول، وبغياب بوادر لحلحة المعضلات الاقتصادية القائمة».
وفي غياب أي معطيات حول ما إذا كانت هناك جهات راعية للتحركات، أكد وزير العدل الأسبق اللواء أشرف ريفي أن الأمور في طرابلس باتت متشابكة؛ حيث يشترك فيها طرفان، الجائعون، إلى جانب آخرين هم منظمون في تلك التحركات، مشيراً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الأجواء المواتية لهذه الاحتجاجات باتت موجودة نتيجة الجوع. وقال: «من خبرتي الأمنية، أؤكد أن الجائعين أكثر من المدسوسين، لكن من يحرق ويكسر ويهاجم ويستخدم العنف، بالتأكيد هو منظم».
وقال ريفي: «لقد بدأنا مرحلة مختلفة الآن عما سبق، فالجائعون والأبرياء يزداد عددهم، وهم يتحركون الآن مطالبين بحلول لواقعهم المعيشي»، مشدداً على أنه «لا أفق للحل إلا بتأمين حياة كريمة وإيجاد حلول للأزمات الاقتصادية، ورفع اليد الإيرانية عن لبنان»، مضيفاً: «طالما يدور لبنان بالفلك الإيراني، فإن أزماته ستتفاقم بالنظر إلى أن الأزمة ناتجة عن قطع أوصال البلد العربية والتاريخية وهو يتغذى من هذه الرئة، الرئة العربية والغربية، ولن ينفع إلحاقنا بالمشروع الإيراني، لأن طهران عاجزة عن إطعام شعبها».
واتسمت الاحتجاجات في طرابلس أخيراً بوتيرتها العنفية بما يتخطى التجربة الماضية مع دخول عاملين جرى رصدهما، أولهما أن التحركات كانت منظمة بانطلاقتها، وشاهد المتابعون وجوهاً جديدة كانت غائبة عن الاحتجاجات في المرة الماضية بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كما أن الوجوه القديمة لم يكن لها أي دور قيادي حتى بعد ظهر أمس، ولم يظهر كثير منها في الاحتجاجات، والثاني يتمثل في أن دائرة المشاركة بدأت تتوسع لتشمل مناطق وتيارات أخرى، بحسب ما تقول مصادر ميدانية في طرابلس لـ«الشرق الأوسط».
ولا يخفي المشاركون في الاحتجاجات أن هناك عملاً منظماً، لكنه غير سياسي، إذ قالت ناشطة في الحراك أن العمل «تم التحضير له منذ 4 أشهر»، مضيفة: «الوجوه التي تقولون إنها جديدة، هي موجودة من الأساس، لكن العمل المنظم استدعى أن يتحرك كل منهم في مكانه وموقعه». وقالت: «إننا نعمل على تحقيق 4 أهداف، هي إيجاد قضاء نزيه وعادل وغير مسيس، وانتخابات نيابية مبكرة، وتشكيل حكومة تكنوقراط تعيد بناء مؤسسات الدولة، وإعادة البحث بعقود استخراج الغاز والنفط واسترجاع الأموال المنهوبة».
وإلى جانب طرابلس، تجددت الاحتجاجات في بيروت وسط إجراءات أمنية مكثفة في شارع المصارف، وسط معلومات عن التحضير لاستهداف المصارف، تكراراً لإحراق فرع أحد المصارف في بيروت صباحاً، ومصارف أخرى في الشمال.
وبموازاة الدعوات للتحرك أمام مصرف لبنان وإضاءة شموع على روح الشاب فواز السمان، أفادت «الوكالة الوطنية للإعلام» الرسمية اللبنانية أن عدداً من الناشطين المحتجين بدأوا بالتجمع في ساحة الشهداء في وسط بيروت، استعداداً للانطلاق بمسيرة نحو شارع المصارف احتجاجاً على الأوضاع المعيشية والتردي الاقتصادي والمالي. وعمد عدد من المحتجين إلى قطع الطريق من ساحة الشهداء باتجاه مبنى النهار بالحجارة، فيما حضرت قوة من الجيش إلى ساحة الشهداء معززة بآليات، وعمد بعض المحتجين إلى رشق الجيش بالحجارة. ووصلت لاحقاً قوة من مكافحة الشغب إلى ساحة الشهداء في بيروت؛ حيث تجمع المحتجون ورددوا هتافات «مش سلمية مش سلمية هيدي ثورة شعبية».



الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم