«الأروقة السوداء» رواية مغربية عن «الحجر الصحي»

«الأروقة السوداء» رواية مغربية عن «الحجر الصحي»
TT

«الأروقة السوداء» رواية مغربية عن «الحجر الصحي»

«الأروقة السوداء» رواية مغربية عن «الحجر الصحي»

صدرت أخيراً الطبعة الثانية لرواية «الأروقة السوداء» للأديب المغربي محمد النعمة بيروك، وهي من منشورات «دار راشد» للنشر والتوزيع بدولة الإمارات العربية المتحدة، وكانت الرواية قد دخلت اللائحة الطويلة لـ«جائزة راشد بن حمد الشرقي» في دورتها الأولى.
«تيمات» كثيرة تناولها النص بعضُها واقعي صريح والبعض الآخر غرائبي بنكهة علمية، لكن الطريف في الرواية هو تناولها لموضوع الحَجْر الصحي كنمط اجتماعي دائم تعيش فيه الشخصية الرئيسية حياتها اليومية باستمرار، وتبرز من خلاله تمثّلاتها الخاصة عن المعاناة والصبر وصولاً إلى حالة الرفض الشجاع، وهي حالة انتقالية تحرض سرائر الذات المسجونة على مغادرة هذا الحَجْر نحو سماء الحرية الصعبة والمكلّفة.
رواية «الأروقة السوداء» يمكن تصنيفها عموماً ضمن أدب الجنوب بكل تعقيداته السوسيولوجية والثقافية. وبما أن الأمر يتعلق بجنس السرد، فقد استفاض الكاتب بما يكفي في وصف البيئة الحسّانية لمجتمع الجنوب المغربي، مستحضراً خصائص بنياته الأُسَرية التقليدية، حتى وإن كانت الأحداث تدور كلها في إطار المدينة.
وشكل الجانب الأسري عمدة البناء الدرامي للنص، إذ تحكي الرواية عن أسرة جنوبية تعيش حياة غير عادية تماماً، تغلّفها الصراعات والأسرار ضمن سياق عاطفي ونفسي غير مستقر، وتتعمق حالة الاستثناء في الأسرة بنمط عيشها الغريب، الذي يجعلها حبيسة البيت لا تغادره إلا في لحظات الضرورة، وهو اختيار فردي فرضته الأم المتحكمة على أبنائها كنوع من التضامن مع حالة ابنها الصغير «بدر»، الذي يمثل الشخصية الرئيسية في الرواية، ويظهر كطفل عاجز محجور في غرفة معزولة تغطي نوافذَها أروقة سوداء تحجب أشعة الشمس. هذا الطفل الذي يعاني مرضاً نادراً يُعرف بـ«داء أطفال القمر»، لا ينبغي له أن يتعرض لأشعة الشمس أبداً حفاظاً على حياته، وهو ما يحتّم عليه البقاء في غرفته تلك إلى الأبد.
وتحت وطأة الرتابة القاتلة والمكوث الطويل في دائرة البيت، أصبحت تفاصيل المنزل بحد ذاتها كابوساً يعصف بالأحلام البسيطة التي شكلها خيال هذا الطفل المسكين عن العالم وخباياه، أحلامٌ كانت تتوالد من فضاء البيت المحدود... «في البيت أشعر أني مثل سمكة تسبح في حوض صغير تلامس جوانبه ثم تعاود الكرّة باستمرار... أجزم أني أستطيع التحرك فيه وأنا مغمض العينين، حفظتُ عن ظهر قلب كل شبر فيه، أعرف حتى شكل الطنافس في الصالون ومجموع عدد الأرائك والوسائد في المنزل، حتى أواني المطبخ أعرفها معرفة شخصية، كما أعرف كل التفاصيل المعلقة على الحيطان، أو الموضوعة على الخزانات والدواليب، وألوان الأفرشة وأحجامها، وأشكال النقش على السقف، وكل شيء...».
هذا القدر الصعب الذي لازم الطفل منذ الصغر، تعززت تبعاته النفسية بشعور الغبن المطبوع بالرفض والرغبة في التجربة واكتشاف ذلك الخارج الممنوع، وهي هواجس مكثفة امتلأت بها شخصيته وجعلته يغامر أكثر من مرة.
مواجهة الشمس من خلف الأروقة السوداء ومقاومة الحجر بالخيال شكّلا عنصر التشويق الرئيسي في الرواية.
«كنتُ أحاول أن أخلق عالمي الخيالي من كل شيء في هذه البقعة المحدودة، أحاول ألا أرى الأشياء على حقيقتها الفعلية، فقد تكون الأرائك سيارات عابرة، والوسائد أشخاصاً من الجيران والمعارف، وحتى البيت برمته أراه مركباً شراعياً مثلاً، ما زال البيت مسرحاً لأحلامي..».
الإخوة الآخرون، الذين وجدوا أنفسهم في لحظة ما يقاسمون المريض حالة الحجر الصحي بدوافع غير مقنعة، أصبحوا هم أيضاً يتخبطون في دوامة كبيرة من مشاعر اليأس والحيرة، والشك المشوب بالأسئلة الحادّة عن أسرار مريبة يجهلونها.
ويمكن القول إن الرواية من هذا الجانب، شخّصت بقوة حالة الإنسان في فترة الحجر المنزلي المفاجئ، وكيف تتسرب إلى عوالمه النفسية نوبات القلق العارم والخوف مما لا يدركه على وجه صريح، وكيف يتأمل هذا الإنسان اليائس ملامحَ وجوده المحدود داخل فضاء لم يعد يتسع للكثير من الأحلام، ولا يملك في المقابل سوى خيار واحد هو البحث عن مفاتيح الأمل التي يخلقها التفكير، وفي انتظار ذلك تكتفي الذاكرة باستعادة صور الحياة الفسيحة في آفاق الماضي الأخضر، الذي كان ينمو دائماً خارج حدود البيت.
«علّمني هذا الوضع قيمة الحياة والحرية، علمني قيمة الوقت، أشعَرني بقيمة كل لحظة لم أعشها كما يجب حين كان في إمكاني الخروج»، تقول إحدى شخصيات الرواية وهي تكابد العزلة داخل قفص الحَجْر.



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.