عناصر فكرية وآيديولوجية لما بعد {كورونا}

TT

عناصر فكرية وآيديولوجية لما بعد {كورونا}

يبدو أن المتنبي كان صائباً حينما قال «وبين الجسم والفكر ارتباط.... إذا ما طاب ذاك فذا يطيبُ»، فالمرض والفكر أصبحا مترابطين اليوم أكثر من أي وقت مضي، مع ما يشهده العالم من كوارث ناتجة عن جائحة الكورونا على المستوى الدولي. صحيح أن الجوائح ضربت العالم، وحصدت الأرواح، ولكنها المرة الأولى التي تتحول فيها إلى كارثة دولية بكل المعايير، فالولايات المتحدة -الأكثر تضرراً- بلغ حجم ضحاياها في أربعة أسابيع ما حصدته حرب فيتنام في حقبتين، ورصدت الحكومة تريليونين من الدولارات للخروج من الأزمة الاقتصادية المصاحبة للوباء. أما إسبانيا وفرنسا وإيطاليا -على سبيل المثال- فلم ترَ هذا الخطر منذ انتشار وباء الأنفلونزا في 1920. فالعالم كله يتأثر ويتألم، فلا شاغل اليوم أمام الأنظمة السياسية المختلفة إلا مكافحة هذا الفيروس، ما بين البحث عن مصل أو توفير المستلزمات الطبية لمقاومته، ولكن الأهم يظل البحث عن المنظومة السياسية أو المالية أو الاقتصادية المتكاملة لإنقاذ الدولة من تبعات هذه الجائحة.
أدى كل ذلك لفتح المجال على مصراعيه أما المنظرين والمفكرين للبحث عن الفجوة أو الخطأ في النظرية السياسة والاقتصادية المطبقة باختلاف توجهاتها على خلفية الجائحة، فالقاعدة المعرفية (Epistemological) الأولى هي أن من أركان النظرية يكون قدرتها على التعامل مع الفرضيات، بل والأهم التنبؤ بها، وهو ما لم يحدث مع الجائحة الحالية. ففي فكر آدم سميت، وما تضمنه من وجود «أيدٍ خفية» تنظم آليات السوق، فإنه لا مكان فيها لعلاج أزمات الجوائح، فالأزمة أكبر من قدرة اقتصاديات السوق منفردة على تحملها. أما الفكر الماركسي، أو اليساري بصفة عامة، فالأمر أيضاً لا يخلوا من قصور، فتحكم الدولة في أدوات وآليات الإنتاج لا يُغني عن شبع أو جوع الآن، فأي سوق يتعامل مع العرض والطلب على حد سواء. وفي زمن الجائحة، فإن العرض والطلب يُضربان معاً على حد سواء، فما فائدة فرضية استمرار العرض أو الإنتاج، إذا ما تلازم مع انخفاض حاد في الطلب نتيجة للأزمة الاقتصادية، فالبطالة وضعف القوة الشرائية كارثة اقتصادية بكل المعايير، فالأزمة الاقتصادية الدولية عام 2008 كانت أزمة تمويل، أو كما وصفها بعض المنظرين، فإنها كانت أزمة قلبية فقط، بينما كان الجسد سليماً، ولكننا الآن أمام أزمة بوادر شلل واسع النطاق في الجسد الاقتصادي، فأصبح دور التمويل هو العلاج المؤقت لأي اقتصاد، مهما كانت خلفيته.
واتصالاً بما تقدم، فإن العالم يشهد في المضمار نفسه نشوب حرب كلامية وآيديولوجية، بين الدول والمفكرين على حد سواء، حول مصداقية أو فاعلية النظم السياسية المختلفة في مواجهة هذه الجائحة، فنرى الاتهامات تتبادل بين الساسة على الشاشات والصحف، فيتهمون الدولة التي استطاعت السيطرة بأنها استخدمت آليات متشددة، بينما سارعت هذه الدولة بالرد على أن حماية صحة المواطن، وإعادة الاقتصاد لمجراه، هو الدور الحقيقي للحكومة، وبينهما بدأت الآراء تزداد حدة للمطالبة بأنظمة أكثر حزماً وحدة لإحكام السيطرة على الجائحة، ورفع قدرة الدولة ككل على الصمود والتخطي للأزمة.
ويبدو أن السجالات الدائرة ما هي إلا إرهاصات لرؤى فكرية غير متكاملة لمعطيات ستكون أساس الحوار الفكري والنظري في الأشهر المقبلة، نرصد منها ما يلي:
أولاً: إن الآيديولوجيات الفكرية المطبقة، يميناً ويساراً، ثبت وجود قصور واضح بها نتيجة لظهور متغير دولي جديد، وهو الجائحة الدولية الحادة، لم يوضع أبداً في الحسبان، وأتي بتأثيره الداخلي والخارجي على الدولة ككل.
ثانياً: نتيجة لما تقدم، فإننا أمام ما نطلق عليه في علم المعرفة بالتحول في النموذج (Paradigm Shift)، أي أن النماذج المختلفة المطبقة، يميناً ويساراً، ستحتاج لتعديل وتوفيق فرضياتها من جديد، بعد إضافة العنصر السابق في معادلاتها الفكرية والتطبيقية، وهو أمر يصعب معه التعرف على مداه أو نتائجه، ولكنه سيكون محل تمحيص فكري ونظري بكل تأكيد.
ثالثاً: لا خلاف على أن الوضع الحالي سيدفع بقوة نحو تدعيم نظرية أو مدرسة «الليبرالية الجديدة» في علوم العلاقات الدولية، لا سيما مع ما أثبتته الجائحة الحالية من أن عجلة الاعتمادية المتبادلة على المستوى الدولي لن تعود للوراء، فلقد ثبت أن الجائحة العالمية أبرزت أهمية آليات التعاون بين الدول، فنظرية العولمة حتماً ستأخذ امتداداً جديداً بعد ما شاهدناه من اندماجية دولية لمواجهة الجائحة، وهو ما سينعكس حتماً على ظهور فرضيات جديدة ستسعى لتطوير نظرية العلاقات بين الدول، لا سيما المرتبط منها بالمنظمات الدولية ودورها المتنامي.
رابعاً: رغم أنه من المرجح أن يظل النموذج الليبرالي الغربي هو المتسيد آيديولوجياً على المستوى الدولي حتى المنظور القريب، فإن الباب سيُفتح على مصراعيه لمراجعة هذا النموذج، سياسياً واقتصادياً، لا سيما مع الفشل المقارن لكثير من هذه الأنظمة في احتواء الجائحة وتداعياتها وحماية دولها، مقارنة بأنظمة أخرى مختلفة أكثر نجاحاً وتنظيماً.
في التقدير أن هذه العناصر ستكون جزءاً من الحوار الفكري والآيديولوجي الآتي، فالجائحة اليوم لا تقل أهمية في آثارها عن انهيار الاتحاد السوفياتي من الناحية النظرية. وأمام هذه الكارثة العالمية، فإن الطوفان الفكري المتولد عنها سينال كل نظام دولي ومنظومة داخلية، وخيرها سيكون أكثرها استفادة للتأقلم الفكري والعملي على المدى القصير.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.