«ملائكة الرحمة» في مصر... تقدير رسمي وشعبي و«ظلم» درامي

أزمة «كورونا» أعادت الاعتبار لمهنة التمريض في مصر
أزمة «كورونا» أعادت الاعتبار لمهنة التمريض في مصر
TT

«ملائكة الرحمة» في مصر... تقدير رسمي وشعبي و«ظلم» درامي

أزمة «كورونا» أعادت الاعتبار لمهنة التمريض في مصر
أزمة «كورونا» أعادت الاعتبار لمهنة التمريض في مصر

تشغل الشابة دنيا عبد الكريم، إحدى أكثر الوظائف إثارة للفخر في مصر حالياً. فمهنتها كممرضة جعلتها ضمن خط الدفاع الأول لمواجهة فيروس كورونا في مدينة المنصورة، لكنها أصيبت بالفيروس أثناء عملها، لتنقل إلى أحد مستشفيات العزل للخضوع للعلاج، وتتعافى أخيراً بعد قضاء 3 أسابيع في الحجر الصحي.
ومع عودتها إلى مسقط رأسها بعد التعافي، خرج أهالي قريتها (ميت الصارم) لاستقبالها بالهدايا والشوكولاتة، مصطفين على مداخل القرية تحيةً وعرفاناً لها، رافعين لافتات «مرحباً بإحدى بطلات جيش مصر الأبيض»، «تحية شكر وعرفان للبطلة دنيا عبد الكريم».
المشهد، الذي تكرر بتفاصيله في محافظات أخرى، بعد إصابة 29 ممرضاً وممرضة بالفيروس وهم على خط المواجهة معه؛ هو أحد مظاهر إعادة الاعتبار لمهنة التمريض في مصر خلال الأسابيع الأخيرة، بعد سنوات مريرة من النظرة غير المناسبة لـ«ملائكة الرحمة»، بحثن خلالها طويلاً عن مكانة اجتماعية وأدبية واقتصادية.
فحتى أسابيع قليلة مضت، كانت دنيا مثل غيرها من الممرضات المصريات تعاني من صورتهن السلبية في المجتمع، وهو ما تصفه لـ«الشرق الأوسط» بقولها «أعمل في التمريض منذ 5 سنوات، عانيت فيها طويلاً من نظرة المجتمع السلبية للممرضات، ومن الصورة السيئة التي تُرسم لنا والتي تتعارض مع العادات والتقاليد والأفكار السائدة في المجتمع». مشيرة إلى أنه «بسبب ظروف المهنة نضطر إلى أن نظل في العمل لأوقات متأخرة من الليل، أو المبيت في المستشفيات، وهو الأمر الذي لا يقبله كثيرون، ويترتب عليه نظرات شك وأخرى متدنية، وصعوبات في التعامل مع الآخرين، وهو ما كان يؤثر علينا سلباً ويصيبنا بالضيق، رغم أننا نترك منازلنا وأسرنا لخدمة المرضى».
اليوم؛ تؤكد الممرضة العشرينية أن «الصورة تغيرت تماماً»، والفضل في ذلك لفيروس كورونا، وتردد بفخر «نحن جيش مصر الأبيض... اصطففنا مع الأطباء لكي نواجه الوباء... أُصبنا بالفيروس وتحملنا مشقة علاجه... وهو ما جعل المجتمع يغير نظرته لنا». ولا تخفي دنيا سعادتها البالغة بمشهد استقبال قريتها لها بعد التعافي، وتؤكد أنه دليل إثبات قوي على تغير النظرة السلبية للتمريض.
يمتد شعور السعادة بالمشهد الاحتفالي إلى غالبية العاملين بالمهنة، وفي مقدمتهم الدكتورة كوثر محمود، نقيب عام التمريض المصري، رئيس الإدارة المركزية للتمريض بوازرة الصحة، التي تعلق بعبارة «كان استقبالاً رائعاً، فقد جاء (كورونا) لكي يعطي بريق أمل لنا... رُب ضارة نافعة». وتقول لـ«الشرق الأوسط»، «صورة التمريض تغيرت قليلاً خلال السنوات الأخيرة، كما زادت نسبة الإقبال على دراسة التمريض في المعاهد والكليات المختلفة، ثم جاء فيروس كورونا ليجعل الناس كافة تشيد بأداء التمريض ودورهم الكبير، بل يخرج رئيس الجمهورية للإشادة بهذا الدور، ويقرر زيادة البدل المادي للمهن الطبية».
أكثر ما يؤرق نقيبة التمريض هم من يسيئون لمهنة التمريض، وفي المقدمة الدراما، «التي ما زالت تتطرق لدور التمريض بصورة سيئة بعيداً عن الواقع، فمصر جميعها في واد والدراما في وادٍ آخر»، بحسب الدكتورة كوثر.
خلال الأسبوع الماضي، وجهت النقيبة اتهاماً مباشراً لصناع فيلم «يوم وليلة»، الذي عرض في دور العرض السينمائي المصرية مطلع العام الحالي، بالإساءة لدور الممرضة، بعد أن أظهرها الفيلم تقوم بأعمال منافية للآداب داخل المستشفى بسبب حاجتها المادية، كما تسرق الأدوية الخاصة بالمرضى لبيعها والتكسب منها.
وبضيق تتابع الدكتورة كوثر «رغم حالة التقدير الشعبي والرسمي للتمريض حالياً، فإننا نعاني من ظلم درامي... لذا؛ أقول لصناع الدراما الرحمة بنا».
بخلاف الدراما، ترى النقيبة أنه «لمزيد من الصورة الإيجابية نحتاج إلى الدعم الأدبي والمعنوي من كل قيادات الدولة، وأن يستمر ذلك حتى بعد أزمة (كورونا)، كما أنه مطلوب أن يفتح ملف التمريض من الناحية المالية وألا ينظر له على أنه مطلب فئوي، كما أنه مطلوب أن يخرج قانون مزاولة مهنة التمريض للنور من جانب وزارة الصحة».
ليس هناك قانون واحد ينظم مهنة التمريض في مصر ويطبق على كل الممرضات العاملات في المستشفيات العامة، وتعاني مصر من عجز في عدد الممرضات والممرضين يصل إلى 60 ألف ممرض وممرضة (وفقاً لوزارة الصحة والسكان)، حيث تبلغ نسبة الممرضات إلى عدد المرضى في كثير من المستشفيات الحكومية، ممرضة واحدة لكل 20 مريضاً.
بعد أيام قليلة، وتحديداً يوم 12 مايو (أيار)؛ سيحتفل العالم باليوم الدولي للتمريض 2020، وهي السنة الدولية المخصصة لكادر التمريض؛ كونها توافق هذا العام الذكرى المئوية الثانية لولادة فلورنس نايتنجيل، أول من وضعت قواعد وأسس علم التمريض الحديث... وهي المناسبة التي ستحتفل بها الممرضة دنيا ونقيبتها كوثر ومن خلفهما عضوات الجيش الأبيض، وهن حالمات بالكثير من التحسن المادي والأدبي، ومزيد من صورتهن الإيجابية درامياً ومجتمعياً.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)