«تراث الاستعلاء»... بين الثقافي والديني

دراسة مصرية تحلل جذوره وأبعاده

«تراث الاستعلاء»... بين الثقافي والديني
TT

«تراث الاستعلاء»... بين الثقافي والديني

«تراث الاستعلاء»... بين الثقافي والديني

يبحث هذا الكتاب في ظاهرة الاستعلاء، ويرصد أبعادها السياسية والاجتماعية والعقائدية، وخصوصاً علاقتها بالموروث الشعبي والثقافي، كما يكشف دورها في البناء الطبقي للمجتمع، مركزاً على البيئة المصرية بصفتها نموذجاً تتجلي فيه هذه الظاهر بكل أبعادها المتشعبة.
الكتاب يحمل عنوان «تراث الاستعلاء... بين الفلكلور والمجال الديني»، وقد صدر حديثاً عن دار «بتانة» بالقاهرة، للدكتور سعيد المصري، أستاذ علم الاجتماع الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة.
وينطلق الكتاب من إشكالية التراث، والهوس به وتقديسه كأنه المصدر المطلق للحكمة الإنسانية، وما يقابلها من نظرة أخرى تزدري مضامين التراث. ويطرح المؤلف تساؤلات جوهرية في هذا الشأن، من أبرزها: ما المعايير التي ينبغي أن نستند إليها في التفرقة بين الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية في التراث؟ وأي عناصر من التراث تلك التي ينبغي العمل على تطويرها؟ وما حدود التطوير الذي يجب أن يتمتع به التراث بجميع عناصره؟
ويبدو المؤلف حريصاً في منهجه على الدعوة الفكرية للتخلص من مبدأ الحياد العلمي الزائف في دراسات التراث في سبيل أولويات التقدم والتنمية، ويسلط الضوء على تراث الاستعلاء كأحد عناصر التراث اللامادي المعززة للتمييز بين البشر، بحسب خصائصهم أو انتماءاتهم، وأنه تراث يكرس التعالي على الآخرين بمقتضى الاختلاف عنهم، ويلفت إلى أثر ذلك في تفاقم الصراعات الاجتماعية والتعصب والتطرف والكراهية والصراعات الإثنية والطائفية. ويصف المؤلف الاستعلاء بأنه عنصرية ثقافية في أقصى صورها، إذ إنها تمثل حال كثير من الثقافات الإنسانية التي تحمل قدراً من التعصب في النظرة للآخرين، وفي رؤية كل جماعة لذاتها، ويصل التمييز الثقافي لذروته إذا ما اتخذ صبغة دينية، وهنا يصبح الانتماء لدين معين مبرراً للتمييز في الحقوق والواجبات.
ويؤكد المؤلف أن هذا النمط من الاستعلاء الديني شاع داخل حركات الإسلام السياسي، ويستشهد بما كتبه سيد قطب، وطرحه لمفهوم «الاستعلاء بالإيمان»، كاشفاً أنه خصص له فصلاً كاملاً في كتابه «معالم في الطريق»، يحرض فيه على تضخيم الذات، واعتبار الآخرين على باطل، مشيراً إلى أن تلك المفاهيم عززت روح العنصرية والتعصب لدى المنتمين لتيار الإسلام السياسي.
ويتتبع الكتاب، عبر أكثر من 350 صفحة، خريطة تراث الاستعلاء من التراث الشعبي إلى المجال الديني، ويحتوى على سبعة فصول: يعرض الأول قراءة نظرية حول مفهوم التمييز في التراث اللامادي والثقافة المجتمعية السائدة. وفي الفصل الثاني يضع تحليلاً لصور التمييز الثقافي، من واقع دراسة ميدانية للتراث الشعبي المصري، وهنا يسلط الضوء على التراث الذكوري، وأشكال التمييز ضد المرأة، والنظرة الدونية من مجتمع كبار السن إلى الشباب، والنظرة الطبقية، مع تفنيد للقناعات الثقافية الشائعة في الضمير الجمعي، التي كانت تروى على لسان الحكواتية، مضخمة صورة الشر في شخصية اليهود. وهو يرى أن التمييز الديني كامن في السير الشعبية (خضرة الشريفة والسيد البدوي والظاهر بيبرس وجوان)، كما يرصد النكات والأمثال الشعبية التي رسخت التمييز في الوعي الجمعي.
أما الفصل الثالث، فيركز على جذور الفجوة الراهنة بين التعليم والتراث الثقافي، والعوامل التي ساهمت في تفاقمها. وفي الفصل الرابع يقدم المؤلف تحليلاً لديناميكية مشروع حركات الإسلام السياسي في سعيها لتكوين مجتمع إسلامي جديد، وطبيعة هذا المجتمع، ومسارات الوصول إليه، وتقييم حصاد تجربة الإسلام السياسي في عملية استعادة الماضي من قلب التراث الثقافي الإسلامي القديم، وكيف مارست الحركات الإسلامية عمليات التخيل الاجتماعي لبناء «مجتمع إسلامي جديد»، مشيراً إلى محاولات «جماعة الإخوان المسلمين» في العشرينيات من القرن الماضي أن يحل المجتمع الإسلامي محل الرأسمالية والاشتراكية، لكنها لم تتبع أسس وقواعد الإسلام، بل توقفت عند استعادة أجواء القرن السابع، في خلط لبدايات الإسلام والنظام الإسلامي نفسه.
ويذكر المؤلف أن الجماعات المتطرفة تطبق بعض مصطلحات سيد قطب، مثل عمل «عزلة شعورية» لخلق ثقافة مضادة تقاوم ثقافة المجتمع عموماً. وفي الفصل الخامس يقدم المؤلف رصداً للسياقات المرتبطة بتفعيل فكرة المجتمع الإسلامي المتخيل في البادية، وتطور الحركة الإسلامية، وتأثيرها في أسلمة المجتمع البدوي، والسيطرة على القضاء العرفي، في محاولة لإعادة بناء المجتمع الإسلامي المتخيل، بهدف فرض تراث الاستعلاء باسم الدين.
وبعنوان «معضلة المجال الديني في مصر»، يطرح الفصل السادس تحليلاً لأوضاع المؤسسات الدينية المصرية، ورغبتها في السيطرة على المجال الديني، والصعوبات التي تواجه الدولة في إعادة تنظيم الشأن الديني. ويتطرق الكتاب برؤية علمية لإشكالية تجديد الخطاب الديني، طارحاً رؤية مقترحة لإعادة صياغة العلاقة بين الدين والمجتمع، وفقاً لأولويات مجتمعية يتم بمقتضاها تجاوز روح التسلط والاستعلاء الديني.
ثم يقترح أربع زوايا لإعادة صياغة الفكر الديني، هي: التأويل، والتوافق، والتفرد، والتحرر، بما يحقق اعتبارات أساسية، وهي: التجاوب مع التحديات الاجتماعية الجديدة، والتفاعل الإيجابي مع إمكانيات العصر الحديث، والإسهام في تحقيق السعادة الإنسانية، والتخلص من أوهام العلاقة بالآخر، والتأسيس للمصالحة والتعايش السلمي، بدلاً عن الصراعات والنزاعات.



«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».