تجارب حياتية تطل من المتخيل

شاكر نوري في «جحيم الراهب» يواصل النبش في حفريات الحروب

شاكر نوري  و غلاف جحيم الراهب
شاكر نوري و غلاف جحيم الراهب
TT

تجارب حياتية تطل من المتخيل

شاكر نوري  و غلاف جحيم الراهب
شاكر نوري و غلاف جحيم الراهب

هو واحد من الذين يطيب لي أن أُسميهم قدامى المحاربين. عرفته زميلا للمهنة في باريس، يجري في الاتجاهات الـ4 لكي يصطاد خبرا ثقافيا، أو يجري مقابلة مع مستعرب، أو يكتب عن فيلم جديد. هكذا هو شاكر نوري منذ أكثر من 30 سنة، حتى بعد انتقاله للإقامة في دبي.
وبمثل هذا الدأب، كان يسرق نفسه من عمله الصحافي لكي يؤلف، بين حين وآخر، كتابا في النقد أو السيرة أو الرواية. وروايته الأخيرة «جحيم الراهب»، الصادرة حديثا عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، هي قطعة تضاف إلى الفسيفساء الأدبية التي أرخت لأجيال المنافي والهجرات، وفصل في الرواية الكبيرة التي ترسم ملامح الجحيم العراقي ويسجلها روائيون من كل الأجيال، لا في الوطن وحسب بل الموزعون في قارات العالم، كل من زاويته.
الراوي أو الشخصية الرئيسة يدعى إسحاق، عراقي يتلبس ثوب الكهنوت ويتقلب ما بين الشك والإيمان. عاش الحروب كلها وعانى من القمع والرقابة والطائفية. وحكايته لا يمكن إلا أن تكون واقعية. لكنه ذلك الواقع الرهيب العصي على التصديق. ولدى سؤال الكاتب عن بطله يستشهد بما قاله نيكوس كازنزاكيس: «الفن يملك الحق، وليس الحق وحسب، بل إن من واجبه أن يعيد كل شيء إلى جوهره. إنه يغذي القصة، ثم يختزلها ببطء، وبشكل متألق، ويحيلها إلى أسطورة». ومعنى هذا، أن البطل حقيقي، ويمكن أن يكون فلانا من مئات الذين مروا بباريس وتعرفنا إليهم، وما حكاية اضطراره، وهو المسلم، إلى الالتجاء إلى دير للرهبان في جبل لبنان، والاندماج في أجواء الدير، سوى حجة يمكن أن تقوده إلى الدراسة في الفاتيكان، أي بلوغ عتبة اللجوء إلى أوروبا.
سمع شاكر نوري الحكاية، وبنى عليها عمارته الروائية. سافر إلى لبنان واخترع تسمية «دير الأيقونات»، وتخيل الرهبان الـ7 المقيمين فيه، ونسج علاقة كل منهم ببطله الذي بلغ الـ50. وما زال يبحث عن بقعة يقيم عليها مستقبله. إنه الراهب الذي يرتل في سره تعاويذه المختلفة عنهم: «رب أنقذني من عذاب الذاكرة ومطارقها الثقيلة. كنت أبغي أن يكون عقلي صفحة بيضاء ناصعة، لكنه متاهة مكتظة بخطوط أخطبوطية». إنه يتمنى لو «يضغط على زر ويمسح كل ما رسم في ذهنه من علامات وندوب». ثم يرى نفسه «يندحر في دولاب الزمن الدائر، عاجزا عن الوقوف في وجهه». ولأن في كل رواية شيئا من كاتبها، فإن تجارب شاكر نوري وأسفاره وتخصصه في الأدب الإنجليزي، ثم في الفن السينمائي، وإجادته للغتين أجنبيتين، تطل برأسها من تفاصيل رواياته. وهو أيضا قارئ نهم، يؤمن بالمثل القائل: «كل لسان بإنسان»، ويعتبر المطالعة عصا سحرية أفادته في الاطلاع على أساليب الروايات التي تكتب في الشرق والغرب، لا سيما الرواية النفسية. ويقول: «إن الأبعاد النفسية للشخصيات شبه غائبة في الرواية العربية، ومعظمها يهتم بظاهر الشخصيات ولا يبحث في دواخلها. إن دوستويفسكي العرب لم يولد بعد، ولا حتى تولستوي، الكاتب المبدع عن الحرب». أما الترجمات التي تنجز إلى العربية، فيرى شاكر أنها لا تعبّر عن روح النصوص باللغة التي كتبت بها.
وطبعا، فإن الاشتغال بالصحافة، رفد الكاتب بالكثير مما تحتاج إليه الكتابة الروائية من مشاهدات واقتراب من مختلف أنواع البشر. وهو يؤمن بأن الصحافيين هم «رواة المدن»، لكن الخطورة تكمن في الخلط بين الصحافي والروائي. فالأول، يمتلك لغة بسيطة ومختزلة تتوجه لجميع الفئات، بينما لغة الروائي معقدة، ومفكرة، واستطرادية، بالإضافة إلى مهارات أخرى في البناء والتفكير والصياغة. «نحن في الرواية نستطيع أن نتلاعب بالزمن والمعلومات، نعيد صياغتها ونضفي عليها الكثير من خيالاتنا. بينما نتجنب ذلك في المادة الصحافية بأنواعها كافة. وبالنسبة لي، لا أنكر ازدواجيتي. فأنا أتغيّر كثيرا حتى في جلستي على المكتب، وأنا أكتب الرواية، ويحدث أن أستيقظ ليلا أو عند الفجر لكي أكتب فصلا أو بضعة أسطر، أما المقالة فأكتبها في وقت محدد ومن دون طقوس».
يلفت النظر في «جحيم الراهب»، وفرة المعلومات التاريخية واللاهوتية والإثنوغرافية المبثوثة فيها. ويقول نوري، إن فكرة الرواية كانت تدور في رأسه منذ 1992، عندما التقى بصديقه الرسام عدنان الجبوري، وسمع منه ما سمع. ومنذ ذلك الوقت، بدأ يطلع على الأديان، وتفاصيل الحياة في الأديرة. واستفاد كثيرا من كتاب ألبير أبونا «شهداء الشرق»، من دون أن يسمح للوثائق الفكرية واللاهوتية بأن تكون عقبات جامدة ومملة تشل التدفق العاطفي للسرد الروائي. وبهذا المعنى، فإننا لا نجد الحرب، أو الحروب والصراعات التي مرت على العراق، حاضرة في الرواية، مثل الكثير من النصوص التي كتبها أدباء وشعراء جربوا الجندية وحملوا السلاح. إن الراهب في جحيمه، هو نتاج تلك الأحداث، وواحد من بيادق صغيرة لا تعد ولا تحصى، حرفتها الحرب وطاشت بها عن مساراتها الطبيعية. هل تكتب النصوص الكبرى في المعمعة، أم أن الرواية العميقة هي تلك التي تأتي بعد خمود الحرائق؟ ومتى نطوي صفحة اللون الخاكي ونبدأ الكتابة عن شؤون الحياة اليومية وهمومنا الصغيرة؟
يقول شاكر نوري «إن الحرب العالمية الثانية لم تستمر سوى 4 أعوام، لكنها أنتجت وما تزال تشغل كما هائلا من الروايات والقصائد والأفلام والدراسات. بينما نحن في حرب مستمرة لا أول لها ولا آخر منذ أكثر من 3 عقود، فكيف ستكون عليه ذاكرتنا؟ لذا تراودني الضحكات عندما يقول لي البعض إنه لم يحن الوقت للكتابة عن الحرب. لنأخذ مثلا من الكاتب الفرنسي باتريك موديانو، آخر الحائزين على (نوبل) في الأدب. لقد ظل طوال حياته يكتب عن ذاكرة الحرب، فكيف بنا نحن الذين نشهد برابرة جددا جاءوا لتدمير حضارة عمرها أكثر من 7 آلاف سنة؟ إن كل متر مربع من بلدنا يحتاج إلى رواية».
بعد «نافذة العنكبوت» و«كلاب جلجامش» و«نزوة الموتى» و«المنطقة الخضراء» و«مجانين بوكا»، تأتي رواية «جحيم الراهب» استمرارا لدأب شاكر نوري في حفريات الحروب. «الحرب مرآة لنا، نرى فيها ذواتنا بصورة أفضل، ونبحث عن مصائرنا المكنونة في التاريخ. أظن أننا غير قادرين على مفارقة تاريخنا للحظة واحدة».



الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)
مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)
TT

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)
مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

في نهاية ربيع الأول من عام 1341 للهجرة، كتب الملك عبد العزيز رسالة جاء فيها «إلى حضرة الوطني الغيور والمصلح الكبير أمين أفندي الريحاني المحترم، دامت أفضاله، آمين. سلاماً وشوقاً وبعد، فبأشرف طالع وردني كتابكم الكريم المنبئ بوصولكم إلى البحرين، وإنكم مزمعون التوجه إلى طرفنا. أهلاً وسهلاً على الرحب والسعة. بالله لقد سررت جدّاً بذلك؛ فطالما كنت مشتاقاً للقياكم، وقد حققت الأيام شوقي والحمد لله».

وردت هذه الرسالة التي تعكس الرابط الوثيق بين الملك المؤسس عبد العزيز مع الأديب والمثقف اللبناني أمين الريحاني، في مطبوع وزعته دارة الملك عبد العزيز خلال الحفل الذي أقيم (الأربعاء) في مدينة الرياض، بمناسبة مرور مائة عام على صدور كتابه «ملوك العرب»، الذي أودع فيه الريحاني خلاصة رحلته إلى الجزيرة العربية بين عامي 1922 و1924، وقدّمها في عمل استثنائي وثّق معالم الجزيرة العربية وشخصياتها.

شارك في الندوة نخبة من الأكاديميين والمفكرين من مختلف التخصصات، لمناقشة الأبعاد المتعددة التي تضمنها كتاب «ملوك العرب».

واستعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات، وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها، من خلال استعراض تجربة المفكر الريحاني التي عكست وعي الملك عبد العزيز المبكر بأهمية كتابة التاريخ، وتوفير كل الوسائل المتاحة لتمكين المؤرخ من عمله.

الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن (الشرق الأوسط)

محطة لتأمل العلاقة بين الريحاني والجزيرة العربية

قال الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين رئيس مجلس إدارة الدارة، إن الاحتفاء بالكتاب هو بمثابة محطة لتأمل العلاقة الفريدة التي جمعت بين هذا المفكر الكبير والجزيرة العربية، مضيفاً أن الريحاني جاء مشحوناً بتصورات ضبابية، ومخاوف زُرعت في أذهان الكثيرين ممن لم تتسن لهم فرصة التعرف على جزيرة العرب من قرب.

وأشار الأمير فيصل، في كلمته خلال افتتاح الندوة، إلى أن «الجزيرة العربية كانت تتوجس من الآخر، وتنظر له نظرة شك، إلا أن الملك عبد العزيز بحكمته، تبنّى نهجاً منفتحاً ومرحباً بالجميع، إيماناً منه بأن معايشة القيم الإسلامية والعربية الأصيلة من شأنها تغيير المفاهيم وكسر الحواجز وعبور المسافات».

وأبان أن الريحاني «لم ينبهر بشخصية الملك عبد العزيز، حين أُسر بحنكته ورحابة صدره فحسب، بل سحرته أرض الجزيرة العربية، وأحب جبالها الشامخة ووديانها الغنية وصحراءها الفسيحة»، مضيفاً: «من أهم ما لفت نظر الريحاني هو اهتمام الملك عبد العزيز بالتاريخ والصحافة وتجارب الأمم الأخرى».

وتابع الأمير فيصل: «كما لم تفت الريحاني الإشارة إلى تفاصيل متعددة تعكس النهم لدى الملك المؤسس حول السياسات العالمية والدول الكبرى والفوارق بينها، وإدراكه كيف يسخر ذلك لمصلحة بلاده الفتية وللأمة العربية والإسلامية».

‏⁧وواصل: «من تجربة شخصية في الواقع، لا أكاد أعرف شخصاً كان عنده تصورات سلبية مسبقة عن هذه الدولة إلا وتشكلت عنده نظرة إيجابية بعد زيارتها والتعرُّف على شعبها الكريم».

من جهته، شارك الأكاديمي والباحث الدكتور أمين ألبرت الريحاني، رئيس مؤسسة الريحاني وابن شقيق المحتفى به، بكلمة مصورة، حكى فيها عن مسيرة الراحل البحثية، والأثر الذي تركته مؤلفاته على المستويين العربي والدولي.

الأمير فيصل بن سلمان خلال كلمته في افتتاح الندوة (دارة الملك عبد العزيز)

وقال أمين ألبرت إن الريحاني فوجئ عندما خاطبه الملك عبد العزيز بقوله: «لك الحرية يا أستاذ أن تتكلم معي بكل حرية، ولا أقبل منك غير ذلك، وأنا أتكلم معك بكل حرية، ولا تتوقع مني غير ذلك».

وأضاف: «القارئ يستوقفه ما كتبه الريحاني في مذكراته من اليوم الأول واللقاء الأول مع الملك عبد العزيز، حيث قال: لقد قابلت أمراء العرب كلهم، فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل، لست مجازفاً أو مبالغاً فيما أقول، فهو حقاً كبير، في مصافحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظراته».

واستشهد ألبرت بآراء عدد من كبار المفكرين العرب والغربيين الذين أشادوا بكتاب «ملوك العرب» الذي نقل قصة الشرق إلى الغرب، وذلك بلغة علمية دقيقة وراقية، وكان كتابه إضافة أدبية في أدب السياسة، وفي أدب الرحلات الصحراوية.

ثم انطلقت الجلسات العلمية للندوة التي تناولت جوانب أدبية وتاريخية عن الكتاب والمؤلف، وشارك في الندوة نخبة من الأكاديميين والمفكرين من مختلف التخصصات، لمناقشة الأبعاد العميقة والمتعددة التي تضمنها كتاب «ملوك العرب».

واستعرضت الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات، حيث كتب في مجالات الأدب، والفلسفة، والسياسة، والاجتماع، وأدب الرحلات، وهو ما أكسبه مكانةً خاصةً، وجعل رؤاه تتجاوز الزمان والمكان.

من ندوة الاحتفاء بمئوية كتاب ملوك العرب (دارة الملك عبد العزيز)

وقال الدكتور عبد اللطيف الحميد، الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، إن أبناء الملك عبد العزيز ورثوا مكانة الريحاني لدى والدهم المؤسس، ومن ذلك اهتمام الملك سلمان بمؤرخي التاريخ السعودي، وفي مقدمتهم أمين الريحاني.

وأضاف الحميد في ورقته «السعودية كما رآها الريحاني» أن «السعودية أعادت طباعة كتابة ملوك العرب، في طبعته الخامسة قبل خمسة وأربعين عاماً، في استمرار للاهتمام بإرث الريحاني قبل أن تحين لحظة الاحتفاء السعودي العربي المئوي المهيبة هذه، بأمين الريحاني وبمؤلفه الرصين».

من جهتها، قالت الدكتورة زهيدة درويش أستاذة الأدب الفرنسي بالجامعة اللبنانية، إن المناسبة تجديد للجسور بين السعودية ولبنان، وإن الطريقة التي وصف بها الريحاني لقاءه بالملك عبد العزيز تعكس هذه العلاقة الممتدة منذ أكثر من مائة عام.

وأضافت درويش: «هذا الاحتفاء يأتي في لحظة مهمة للسعودية، التي تشهد تحولاً كبيراً في كل المجالات، والتنوع الثقافي والجغرافي لديها وما تتميز به من ازدهار ورخاء، يعكسان اعتزاز المجتمع السعودي بهويته».

وتابعت: «استوقفتني في الكتاب مقدمته، وما ورد فيه عن إشكالية الهوية والعلاقة بالآخر، وأزعم أن سؤال الهوية هذا، شكّل أحد الدوافع الرئيسية لزيارة أمين الريحاني إلى شبه الجزيرة العربية، التي وفرت له مادة غنية بوضع هذا المؤلف المرجع».

وواصلت: «يبوح لنا الريحاني، بأن وعيه تكوّن وهو طفل على صورة مغلوطة للعربي، تكشف عن أحكام نمطية وصور مسبقة طالما أطبقت على وعينا الثقافي، إلا لدى من حثّه فضوله المعرفي، إلى طرح السؤال، وبدء مغامرة البحث عن حقيقة يتبناها بقناعة».

واستعرض فيلم قصير جزءاً من سيرة أمين الريحاني، والكتاب الذي عدّ أحد أبرز الأعمال الأدبية التي وثّقت الحياة في المنطقة العربية وتاريخها في مطلع القرن العشرين، لتسليط الضوء على أثر هذا الكتاب المميز في توثيق الثقافة العربية ورؤى الريحاني في مستقبل المجتمعات العربية، من خلال استعراض محاور ثقافية وفكرية متنوعة.

وسعت «دارة الملك عبد العزيز» من خلال هذه الندوة إلى إحياء التراث الثقافي العربي، وتعزيز الوعي بأهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.