(تحقيق): صراع خفي بين أميركا وإيران على «الجبهة» السورية ـ العراقية

روسيا تدخل عسكرياً إلى مسرح العمليات شرق الفرات

معبر البوكمال ـ القائم على الحدود السورية ـ العراقية الذي شجعت إيران على افتتاحه (سانا)
معبر البوكمال ـ القائم على الحدود السورية ـ العراقية الذي شجعت إيران على افتتاحه (سانا)
TT

(تحقيق): صراع خفي بين أميركا وإيران على «الجبهة» السورية ـ العراقية

معبر البوكمال ـ القائم على الحدود السورية ـ العراقية الذي شجعت إيران على افتتاحه (سانا)
معبر البوكمال ـ القائم على الحدود السورية ـ العراقية الذي شجعت إيران على افتتاحه (سانا)

لحدودِ العراقِ نكهةٌ استراتيجيةٌ خاصّة. كانت تُسمّى «الجبهة الشرقية» مع إيران. الجهة الغربية؛ أصبحت حالياً «الجبهة» مع إيران أيضاً. بإصرار غير معلن لا تعكّره سوى «غارات غامضة»، هناك صراعُ خفيّ أميركيّ - إيرانيّ للقبض على الحدود العراقية - السورية...
جديده؛ دخول روسيا على الخط والانغماس براً في المسرح المعقّد بتوسيع الوجود العسكري في «منطقة النفوذ» الأميركية والتحرش بقاعدة التنف من بوابة مخيم «الركبان» والحديث عن «انشقاق» مقاتلين سوريين موالين لواشنطن و«اعترافهم» بالتدرّب على مهاجمة حقول النفط السورية «المحمية» أميركيّاً.
قبل سقوط نظام الرئيس صدام حسين، كان الثقل على الحدود الإيرانية، خصوصاً خلال حرب الثمانينات بين بغداد وطهران. الطرف السوري منها، كان مغلقاً وممراً لـ«التآمر» بين جناحي «البعث» في بغداد ودمشق. في نهاية التسعينات؛ فُتحت ثغرة في جدار الحدود؛ مَرَدُّها الحاجة السورية إلى النفط العراقي وعائدات اقتصادية.

بعد الغزو الأميركي، بدأت رحلة التركيز على الطرف الغربي. بدايةً؛ باتت الحدود السورية بوابة لتدفق الباحثين عن مقارعة الأميركيين والراغبين في إفشال «المشروع الأميركي» في الشرق الأوسط. باتت هذه الحدود ممراً لآلاف المقاتلين من كل العالم الراغبين في قتال الأميركيين. ساهم هذا في إغراق الأميركيين و«مشروعهم». كان هذا «النجاح» المدبَّر سورياً وإيرانياً، خميرة تطورات حصلت عسكرياً في سوريا في العقد الأخير.
ومع الانسحاب الأميركي من العراق واندلاع الاحتجاجات في سوريا في 2011، وقعت هذه المناطق رويداً رويداً في حضن «داعش». أول ما فعله التنظيم، الذي أعلن جغرافيته زعيمه السابق أبو بكر البغدادي من الموصل في منتصف 2014، إلغاء هذه الحدود. أسس «ولاية الفرات» على طرفيها وجذب البيئات المحلية.
خلال الحرب على «داعش»، اسْتَعَرَ الصراع للسيطرة عليها. السباق على وراثة «داعش» كان يرسم مناطق النفوذ والتعايش على جانبي الحدود السورية - العراقية بين أميركا وإيران وضفتي نهر الفرات بين أميركا وحلفائها السوريين وروسيا وحلفائها السوريين والإيرانيين. استعر سباق وتعاون وصراع. بدايةً؛ عززت واشنطن وجودها في غرب العراق وشرق سوريا وقطعت طريق طهران - بغداد - دمشق - بيروت بسيطرتها على معبر التنف - الوليد. ردّت طهران بالسيطرة على جيوب غرب الفرات ومناطق في دير الزور وطريق البوكمال - القائم للوصول إلى دمشق وبيروت والبحر المتوسط بالالتفاف على الطريق التقليدية عبر التنف - الوليد.
انتقلت الحدود من نقاط بين دولتين إلى جبهة بين قوى إقليمية ودولية. على الأرض العراقية؛ هناك «الحشد الشعبي» المدعوم إيرانيّاً والجيش العراقي والقوات الكردية المدعومة غربيّاً. شرق سوريا؛ هناك «قوات سوريا الديمقراطية» التي يدعمها التحالف الدولي بقيادة أميركا، وفصائل سورية في التنف. هناك أيضاً الجيش السوري بدعم إيران وروسيا. في الجو، هناك قوات التحالف غرب العراق وشرق سوريا. هناك القوات الروسية شرق سوريا عدا شرق الفرات. أيضاً، هناك الطائرات الإسرائيلية التي أغارت في العراق وسوريا وبينهما.
مع مرور الوقت؛ زاد الاهتمام الدولي والإقليمي بدينامية هذه المناطق واهتمام مراكز الأبحاث في محاولة لفهم الوقائع. في الأيام الأخيرة، صدرت دراسات مهمتان؛ إحداهما من «وقفة كارنيغي» الأميركية أجراها الباحثان خضر خضور وحارث حسن، والأخرى من «المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية» أجراها حميد رضا عزيزي.

- عقارب الساعة
جرى ترسيم الحدود بين القائم والبوكمال في عام 1920، في أعقاب وقوع صدامات بين قوات عربية وقوات بريطانية كانت تحتل المنطقة بعد انسحاب القوات التركية. ولم يخْلُ ترسيم الحدود من بعض العشوائية؛ الأمر الذي بررته لندن بأن القائم النقطة الواقعة أقصى شرق منطقة نفوذ الدليم، أكبر اتحاد قبائل في غرب العراق. وكانت تلك بداية فترة انفصل خلالها القائم عن البوكمال وجرى دمج كل منهما في الدولتين العراقية والسورية. ورغم استمرار النزاع بين العراق وسوريا حول مناطق حدودية أخرى في فترات لاحقة، فإنه لم تطرأ تغييرات كبرى على منطقة القائم - البوكمال منذ ذلك الحين. وأقرت عصبة الأمم رسمياً الحدود العراقية ـ السورية عام 1932.
تقول ورقة «كارنيغي»؛ إنه على الأرض، تبلغ المسافة بين القائم والبوكمال 7 كيلومترات (كلم). على الجانب السوري من الحدود، تشكل البوكمال أقصى شرق سوريا، وتبعد 500 كلم عن دمشق. وتشكل القائم أقصى غرب محافظة الأنبار، وتبعد 400 كلم عن بغداد، وتقع عند النقطة التي يدخل عندها نهر الفرات العراق آتياً من سوريا. وتمتد القائم لـ26 كلم على الضفاف الجنوبية للنهر. أما في سوريا، فيقسم الفرات المنطقة إلى منطقتين فرعيتين؛ يطلق على الجانب الغربي «شامية» ويقع تحت سيطرة النظام السوري، بجانب ميليشيات مدعومة من طهران. في المقابل، يحمل الجانب الشرقي اسم «الجزيرة» ويخضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية».
عندما نجح الغزو في إسقاط نظام صدام في عام 2003، اختفت مؤسسات الدولة العراقية والأجهزة الأمنية التابعة لها فجأة من القائم والمناطق الحدودية. ولاحظت الورقة أن الفراغ سمح بظهور «تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، الذي اشتهر باسم «القاعدة في العراق»، بقيادة أبو مصعب الزرقاوي. ونجح «القاعدة في العراق»، الذي تحول في نهاية الأمر إلى تنظيم «داعش»، في التغلغل داخل النسيج الاجتماعي بالمنطقة من خلال تجنيد مقاتلين محليين واستغلال الشعور المتنامي بالسخط بين العرب السُنًّة في العراق بعد سقوط نظام صدام.
وتحولت منطقة القائم، والحدود بوجه عام، إلى معقل للمتطرفين، لسببين؛ أولهما: سمحت المنطقة الخصبة للمقاتلين بممارسة الزراعة وتحقيق اكتفاء ذاتي من الغذاء. ثانياً: كان من شأن المساحات الصحراوية الواسعة الممتدة على جميع أطراف المنطقة أن سمحت للشبكات بالتشتت والمناورة داخل مناطق غير مأهولة بالسكان، مع بقائها على مقربة من مراكز حضرية. يضاف سبب ثالث؛ هو التسهيلات التي قدمتها دمشق للمتطرفين وغضّ الطرف عن نشاطاتهم.
وخلق الانسحاب الأميركي من العراق في 2011 وبدء الانتفاضة السورية فرصاً جديدة أمام المتطرفين لإعادة نشاطهم والاندماج وصولاً إلى «داعش». كما دبّ النشاط من جديد في بعض شبكات التهريب التي كانت قائمة بفعل انسحاب قوات النظام. وقالت الورقة: «قاد واحدة من هذه الشبكات صدام الجمل في البوكمال، الذي أصبح لاحقاً أحد العناصر الرئيسيين في (داعش). بدأ الجمل نشاطاته التهريبية عبر الحدود في عام 1998 واستمر في ذلك حتى عام 2010. وبعد اشتعال الانتفاضة، حاول استغلال خبرته في تيسير حركة المتطرفين والمسلحين والأسلحة قبل أن يشكل جماعة مسلحة خاصة به في البوكمال. وفي وقت لاحق، انضم إلى (داعش) في مواجهة (جبهة النصرة)؛ جماعة منافسة كانت تسعى للسيطرة على البوكمال».
في 29 يونيو (حزيران) 2014، أعلن «داعش» بناءه خلافة مزعومة على مساحة واسعة من الأراضي شرق سوريا وغرب العراق. وقالت الورقة إن التنظيم ادّعى أنه أزال ما عدّها «حدود سايكس - بيكو بين العراق وسوريا» ؛ رغم أن ذلك الاتفاق الأنجلو – فرنسي، لم يحدد قط الحدود العراقية – السورية. الأمر المهم هنا أن «داعش» سعى لتحويل إعلانه إلى واقع من خلال تشكيل منطقة الفرات، التي تضمنت مناطق من عانة في غرب محافظة الأنبار العراقية والميادين في شرق سوريا. وأصبحت هذه المنطقة، التي تضمنت القائم والبوكمال، مركز المنطقة.

- ما بعد «داعش»
أدى طرد «داعش» من القائم عام 2017 على أيدي قوات عراقية مختلفة، إلى نشر كثير من القوات العسكرية وشبه العسكرية في منطقة القائم - البوكمال الحدودية. وارتبط كثير من الميليشيات بروابط وثيقة مع إيران و«الحرس الثوري» الإيراني. وساعدت هذه الروابط في إحداث تحول على مستوى المنطقة الحدودية لتصبح ممراً لإيران يمكنها من خلاله بسط نفوذها الإقليمي، خصوصاً بعد إغلاق معبر التنف - الوليد.
وفي مارس (آذار) 2019، أعلنت واشنطن القضاء الكامل على «داعش» جغرافياً بتحرير الباغوز بالتعاون مع حلفائها في «قوات سوريا الديمقراطية». عزز هذا نظرة الولايات المتحدة وإسرائيل إلى المنطقة الحدودية بوصفها جبهة محورية في الجهود الرامية لاحتواء النفوذ الإيراني. وكتب خضور وحسن: «نتيجة وجود نظام أمني مختلط بالمنطقة الحدودية، مع انتشار قوات أمنية رسمية بالقرب من ميليشيات، ظهر وضع عام غير مستقر في جوهره. وتترك المشاحنات الجيوسياسية الإقليمية الكبيرة، بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة؛ وإيران من جهة أخرى، تأثيراً كبيراً على ديناميكيات الأوضاع بالمنطقة الحدودية. وعليه، تحولت منطقة القائم - البوكمال الحدودية إلى مسرح لجهود إعادة ترتيب المشهد الجيوسياسي مع مساعي إيران الحثيثة للفوز بنفوذ أكبر».
ولوحظ أن الدعم الإيراني في السنوات الأخيرة للحكومتين السورية والعراقية في قتالهما ضد خصومهما المسلحين، عزز روابط طهران بالبلدين. ومع ذلك، أسس «الحرس الثوري» شبكة ممتدة من الجماعات شبه العسكرية عابرة للحدود تقيّد حرية الحكومتين في العمل على نحو مستقل عن المصالح الإيرانية. وتتضمن شبكة الجماعات التي يقودها «الحرس» مقاتلين من أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا قاتلوا إلى جانب القوات الحكومية العراقية والسورية في مواجهة «داعش» أو المعارضين السوريين، مما جعل الحكومتين معتمدتين على نحو متزايد على مثل هذا الدعم وإن كانت الصورة أكثر تعقيداً في سوريا جرّاء وجود روسيا ودخول تركيا على الخط.
علاوة على ذلك؛ اكتسبت هذه الجماعات نفوذاً بسيطرتها على مساحات من الأراضي وتأمينها موارد وحصولها على شرعية وحصانة من خلال دمجها لعناصرها في الدولة، مثلما حدث مع قوات «الحشد الشعبي» العراقية. ورغم أن هذه القوات على أرض الواقع أبقت على درجة واسعة من الاستقلال الذاتي الإداري والعملي عن سلسلة القيادة الرسمية، فإنها استغلت مظلة قوات «الحشد الشعبي» غطاءً شرعياً لنشر القوات؛ حسب الورقة.

- غايات إيران
تقدم الدراسات تقييماً متكاملاً للأسباب التي دفعت بإيران إلى تعزيز وجودها في القائم – البوكمال؛ إذ ذكرت ورقة «كارنيغي» أربعة أسباب؛ هي: أولاً: سعيها لحرمان «داعش» من فرصة إعادة بناء قواته داخل المناطق الواقعة على أطراف العراق وسوريا. ثانياً: تأمين ممر بري لربط المناطق الخاضعة للنفوذ الإيراني في العراق ولبنان سوريا، في مهمة تتطلب السيطرة على حركة الأشخاص والأسلحة والسلع عبر الحدود؛ أو المراقبة الوثيقة لها. ثالثاً: تودّ طهران إعاقة محاولات واشنطن وحلفائها لاستغلال المنطقة الحدودية قاعدةً للتصدي للنفوذ الإيراني. رابعاً: تحتاج إيران إلى الاحتفاظ بقدرتها على تعزيز «حزب الله» عسكرياً في لبنان ونشر ميليشيات أخرى مدعومة من «الحرس» الإيراني بمنطقة الهلال الخصيب حال اشتعال صراع مع إسرائيل عبر لبنان أو سوريا.
من جهته؛ يقول «المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية» إن إقامة إيران ممراً برياً للربط بينها وبين لبنان عبر العراق وسوريا سيمكّنها من دعم الجماعات التابعة لها في الدول الثلاث بشكل أفضل، إلى جانب نقل السلاح والمعدات بسلاسة وسهولة إلى تنظيم «حزب الله» في لبنان؛ «لكن، هناك مبالغة فيما يتعلق بأولوية ذلك الممر في الاستراتيجية الإيرانية تجاه سوريا، فمنذ المراحل الأولى من الأزمة السورية وحتى نهاية عام 2017 استمرت إيران في دعم (حزب الله) بعدة طرق مختلفة، بينها استخدام ممر جوي، رغم عدم تمكُّنها من استخدام المعابر الواقعة على الحدود العراقية - السورية».
وبالنظر إلى الوجود العسكري الأميركي في أجزاء عدة من العراق وسوريا من جانب؛ والتفوق الاستخباراتي الإسرائيلي على الدولتين من جانب آخر، سيتضمن نقل الأسلحة والمعدات بشكل مباشر عبر ما يُسمى «الممر البري» مخاطر كبيرة، فقد قصفت إسرائيل أهدافاً إيرانية في سوريا أكثر من 200 مرة خلال الفترة ما بين 2016 و2018.
عليه، يرى المركز أن أهمية معبر البوكمال - القائم بالنسبة إلى إيران من منظور عسكري تكمن بدرجة أكبر في تيسير انتقال القوات العسكرية وشبه العسكرية عبر الحدود، لذا تجعل سيطرة إيران على مناطق واقعة على جانبي الحدود من السهل بالنسبة للقوات الإيرانية؛ الانتقال جيئة وذهاباً، وإعادة الانتشار والتموضع في مناطق أخرى. على سبيل المثال، جرى إرسال نحو 400 عنصر من «الحشد الشعبي» العراقية إلى إدلب من خلال هذا المعبر خلال شهري فبراير (شباط) ومارس 2020. ويمكن لازدياد حركة القوات المدعومة من إيران جعلها محصنة جزئياً من الهجمات الأميركية والإسرائيلية التي تحدث بين الحين والآخر.

- أهداف أميركا
أعلن مسؤولون أميركيون أكثر من مرة أن أحد أهدافهم الرئيسية في سوريا، هو «تحديد» أو «إنهاء» نفوذ إيران. وتدعم واشنطن عبر التحالف الدولي «قوات سوريا الديمقراطية» في سيطرتها على مناطق شرق الفرات بوجود قوات وقواعد برية وغطاء جوي ومعدات لحماية النفط، ولديها قاعدتان في العراق وسوريا. إحداهما في التنف، قرب معبر التنف - الوليد الحدودي المغلق حالياً بين سوريا والعراق، الأمر الذي أدى عملياً إلى إغلاق الطريق التقليدية بين بغداد ودمشق، حيث ينتشر في القاعدة مائة عنصر وراجمات صواريخ لحماية دائرة بقطر 55 كلم.
أما القاعدة الأخرى؛ وهي «عين الأسد»، فتقع داخل محافظة الأنبار قرب ضاحية البغدادي. وزار الرئيس الأميركي دونالد ترمب القاعدة في ديسمبر (كانون الأول) 2018 وأعلن أنه سيجري استخدامها في إبقاء عين واشنطن على النشاطات الإيرانية بالمنطقة.
بجانب ذلك، جرى نشر قوات أميركية في وقت سابق قرب محطة القطارات القديمة في القائم أثناء الحملة التي جرى شنها ضد «داعش». وتقول ورقة «كارنيغي» إن ميليشيات مدعومة من «الحرس» استغلت نشر قوات أميركية في غرب العراق لتبرير وجودها قرب الحدود. وقال مسؤولون عراقيون من الأنبار إن الولايات المتحدة تحاول بناء قواعد جديدة في مدينة الرمانة، شمال القائم.
وفي أغسطس (آب) 2019، قتلت هجمات بطائرات «درون» وأصابت العديد من أعضاء جماعة «كتائب حزب الله» قرب الحدود. واتهمت قوات «الحشد الشعبي» إسرائيل بالوقوف وراء الهجوم. وفي بيانات أخرى، اتهمت قوات «الحشد» الولايات المتحدة بتيسير الهجمات الإسرائيلية، مما دفع بجماعتين سياسيتين مواليتين لـ«الحشد» بتكثيف المطالب برحيل القوات الأميركية.
في 29 ديسمبر 2019، شنت القوات الأميركية هجمات جوية ضد مواقع فصائل مدعومة من «الحرس» قرب الحدود؛ ثلاثاً منها بالعراق واثنتان في سوريا، مما أثار تنديدات قوية من الحكومة العراقية و«الحشد». وأعلنت واشنطن أن الضربات الجوية جاءت رداً على هجمات شنتها «كتائب حزب الله» ضد قاعدة عسكرية شمال العراق تنتشر بها قوات أميركية، ما أسفر عن مقتل مقاول عسكري أميركي.
وتسبب الهجوم في تفاقم التوتر بين الولايات المتحدة وجماعات مدعومة من إيران والحكومة العراقية، حيث أمرت إدارة ترمب باغتيال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس»، وأبو مهدي المهندس، نائب قائد «الحشد». وثأرت إيران من هذا الهجوم بإطلاقها صواريخ ضد قاعدتين عسكريتين في العراق بهما قوات أميركية.
وفي 16 مارس 2020، أعلنت القوات الأميركية إعادة نشر هذه القوات إلى قاعدة مختلفة في كركوك بشمال العراق. وقام الجيش الأميركي بإخلاء مواقعه في قاعدة القيارة الجوية جنوب الموصل، والقصر الرئاسي السابق شمال الموصل، وقاعدتي «كيه1» قرب كركوك والقائم على الحدود مع سوريا، وسلمت قاعدة «الحبانية»، إلى الغرب من بغداد، للقوات العراقية، حيث جرى سحب القوات من المراكز الصغيرة وتجميعها في مجمعات أكبر لتوفير فرص أكبر لحمايتها من هجمات صاروخية ممكنة، عبر منظومات «باتريوت»، التي وصلت، بالفعل، إلى «عين الأسد» في محافظة الأنبار غرب العراق مع توقع شحن منظومتين من الكويت في الأيام المقبلة تخطط القوات الأميركية لنشرهما في قاعدة «حرير» قرب أربيل، عاصمة إقليم كردستان.

- جانب اقتصادي
هناك بُعد آخر للتنافس بين الولايات المتحدة وإيران بإعادة البناء والتشييد بمنطقة الحدود والطرق المؤدية للمنطقة. يذكر المركز الألماني سبباً اقتصادياً؛ إذ إنه من المعروف منذ عام 2013، لمبادرة «الحزام والطريق» الأولوية في السياسة الخارجية الصينية لتيسير التبادل التجاري بين الشرق والغرب. وجعلت في الخطط الأولية لربط الصين بأوروبا الأولوية لإقامة الطرق البرية الشمالية عبر روسيا ووسط آسيا، إلى جانب طريق بحرية عبر الخليج العربي. مع ذلك تحاول طهران جذب اهتمام بكين إلى طريق برية جنوبية تربط إيران والعراق وسوريا بالبحر المتوسط ثم بأوروبا.
وكشفت إيران في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 خطة لإنشاء خط سكة حديد يربط معبر الشلامجة الحدودي الواقع على الحدود الإيرانية - العراقية بميناء البصرة في جنوب شرقي العراق. ومن المفترض أن يمتد الخط بعد ذلك باتجاه الساحل السوري. جرى الإعلان في ربيع 2019 عن اعتزام إيران استئجار محطة الحاويات في ميناء اللاذقية. ومن المؤكد أن هناك مكوناً وعنصراً اقتصادياً للتدخل الإيراني في سوريا.
وبين الأمثلة على ذلك ما ذكرته مصادر لباحثي ورقة «كارنيغي» حول مشروع يتضمن بناء شبكة من الطرق السريعة بين بغداد والمعبرين الحدوديين طريبيل على الحدود الأردنية والتنف على الحدود السورية. أيضاً؛ ترتبط شبكة الطرق السريعة عبر طريق ثانوية آتية من الرطبة بمعبر القائم - البوكمال الحدودي، ثم بامتداد داخل سوريا من طريق القائم ـ البوكمال.
يذكر أن طريق بغداد - طريبيل السريعة الممتدة لـ570 كلم جرى إنشاؤها أواخر الثمانينات وأصبحت قناة الاتصال الرئيسية بين العراق والعالم الخارجي عندما خضعت البلاد لعقوبات في التسعينات. وتبعاً لبعض التقديرات، فإن نحو 40 في المائة من التجارة البرية في العراق مرت على هذا الطريق خلال تلك الفترة. وبعد 2003، أصبحت الطريق خطيرة بسبب هجمات جماعات مسلحة، خصوصاً «القاعدة»، التي اعتدت على المسافرين بالسرقة أو استولت على بضاعتهم أو سياراتهم لإعادة بيعها لهم.
في مارس 2017، وافقت حكومة حيدر البغدادي على مقترح من محافظة الأنبار لمنح الشركة الأميركية «أوليف غروب»، عقداً للاستثمار في إصلاح الطريق السريعة وحماية عمال البناء والمسافرين. وتضمن العقد، أيضاً، خطةً لتطوير طريق سريعة دولية تربط بغداد وعرعر على الحدود السعودية، بجانب بناء طريق سريعة جديدة تربط الأنبار مباشرة بالحدود.
لكن المشروع واجه معارضة من جانب كثير من أعضاء البرلمان العراقي، بمن فيهم جماعات متحالفة مع إيران. وأدت موجة الجدل إلى التخلي عن العقد وتكليف قوات الأمن العراقية بمهمة حماية الطريق السريعة.
ومع هذا، وتبعاً لما أفاد به مسؤول سابق من الأنبار كان مشاركاً على نحو مباشر في صياغة المشروع، لمعدّي البحث، فإن جماعات موالية لإيران حشدت ضد المشروع لأنها رأت فيه محاولة من جانب الولايات المتحدة لتوسيع نطاق نفوذها داخل الأنبار وغرب العراق. وبجانب حقيقة أن القوات الأميركية تسيطر على الفضاء الجوي بالمنطقة وتطلق مناطيد استطلاع من قاعدتها الجوية في الأنبار، رأت بعض الفصائل الموالية لإيران المشروع جزءاً من خطة طويلة الأجل لترسيخ الوجود الأميركي في المحافظة وتحويلها إلى قاعدة للنشاطات المناهضة لإيران.
وقد عبّر مسؤول من «كتائب حزب الله» عن هذه الأفكار عندما ندد بـ«محاولة قوات أميركية ضمان السيطرة الكاملة على الحدود العراقية ـ السورية، بذريعة الحيلولة دون استغلال إيران للحدود لدعم سوريا و(حزب الله)».
أيضاً، سعت جماعات موالية لإيران إلى تطوير خطط بديلة لاستغلال منظومة الطرق السريعة في العراق لتوسيع نطاق نفوذها وترسيخه على امتداد الحدود، وهناك محاولات لبناء طريق من كربلاء إلى منطقة القائم - البوكمال لتيسير حركة الجماعات المرتبطة بقوات «الحشد»، والأشخاص العاديين الذين يتوجهون إلى مزارات في سوريا.
وتتجلى أهمية معبر القائم ـ البوكمال لدى إيران عندما يدرك المرء أن مصالحها كانت العامل الأبرز وراء إعادة فتح المعبر في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وتبعاً لما ذكره عضو في البرلمان من القائم، فإن الحدود أعيد فتحها بصورة أساسية لمعاونة الاقتصاد السوري وتخفيف حدة أزمة نقص النفط والوقود وتوفير فرصة للحكومة السورية لإحياء الإنتاج الصناعي داخل حلب.
واكتسب المعبر أهمية إضافية بالنظر إلى أن المعبرين الحدوديين الآخرين؛ أي التنف - الوليد، وربيعة - اليعربية، لا يزالان مغلقين. وتعوق قوات أميركية و«قوات سوريا الديمقراطية» قدرة دمشق على الوصول لهذين المعبرين.
ويعتقد بعض المسؤولين المحليين في القائم أن إعادة فتح المعبر ستخدم بصورة أساسية إيران وحلفائها. ويقولون إنه سيسمح فقط للشركات المرتبطة بإيران أو الجماعات المتحالفة معها بالمشاركة في نشاطات عبر الحدود، وهي في الجزء الأكبر منها شركات لبنانية وعراقية وسورية. وكانت الحكومة اللبنانية و«حزب الله» اللبناني قد أبديا اهتماماً كبيراً بتطورات المعبر، مشيرين إلى أنه سيسهم في جعل السوق العراقية الكبيرة متاحة بدرجة أكبر أمام السلع اللبنانية وسيساعد الاقتصاد اللبناني المتداعي.
وتسعى طهران وحلفاؤها إلى ربط منطقة القائم ـ البوكمال بشبكة أوسع من الجماعات الموالية لإيران لتوحيدها في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. وكان «المرصد السوري لحقوق الإنسان» أكد «مواصلة القوات الإيرانية و(حزب الله) اللبناني عمليات التجنيد لصالحها بشكل سري وعلني في الضفاف الغربية لنهر الفرات». وقال إن العدد «ارتفع إلى نحو 3600 من الشبان والرجال السوريين من أعمار مختلفة، ممن جرى تجنيدهم في صفوف القوات الإيرانية والميليشيات التابعة، في خضمّ الصراع الأميركي - الإيراني ودخول روسيا على الخط بتوسيع انتشارها شرق الفرات وإقامة قاعدة عسكرية في القامشلي ونشر منظومة صواريخ تحت المظلة الأميركية، إضافة إلى قاعدتي طرطوس واللاذقية وشن حملة على «معاناة» المدنيين في مخيم «الركبان» قرب قاعدة التنف، واستمرار الغارات الإسرائيلية على «مواقع عسكرية إيرانية» في البوكمال ونشر تركيا لقواتها وحلفائها شمال شرقي سوريا، تحولت الحدود السورية - العراقية إلى جبهة معقّدة لصراع إقليمي – دولي؛ إذ ترتبط استراتيجيات هذه الدول بخطوط تماس ونقاط صغيرة على الأرض وقدرة كل طرف على التغلغل في البيئة المحلية التي نقلت ولاءاتها عبر العقود والسنوات من طرف إلى طرف. بين التطورات التي ستترك آثارها المستقبلية، مستقبل الوجود العسكري الأميركي شرق الفرات مع أن واشنطن أعلنت أكثر من مرة أنها باقية في التنف «حيث تتحقق أهداف استراتيجية كبرى باستثمار عسكري صغير»، إضافة إلى مدى جرأة التوسع الروسي والتوغل التركي في شرق الفرات، ومستقبل الأكراد في العراق وسوريا... والعلاقة مع المركز في دمشق وبغداد وما يجري في هاتين العاصمتين.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!