إيران.. «أليس في بلاد العجائب»

أروند إبراهيميان بحث تاريخها الحديث ودرس نتائج ثوراتها المخيبة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

إيران.. «أليس في بلاد العجائب»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

لماذا تبدو إيران دائما في صورة «أليس في بلاد العجائب»؟ لماذا تحفل كثيرا بالمتناقضات، وتثير الضجيج والمشكلات دائما، وهي تحضر أمامنا كل يوم في شاشات الأخبار؟ ولماذا شهدت ثورتين كبيرتين في قرن واحد، ولماذا هي الآن جمهورية إسلامية؟
هكذا يفتتح الباحث الإيراني أروند إبراهيميان، أستاذ التاريخ في كلية باروك بنيويورك، كتابه «تاريخ إيران الحديثة»، المنشور في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، من ترجمة مجدي صبحي، ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، محاولا أن يقدم فيه تاريخا مبسطا يبتعد عن صراعات إيران الخارجية ليغوص في أعماق شخصيتها الداخلية التي تشكلت في العصر الحديث منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. ويؤكد إبراهيميان أن البحث مناسب جدا لغير المتخصصين، فقد ابتعد فيه عن السرد الأكاديمي، واكتفى بتقديم صورة شاملة غنية ثرية للقارئ غير المتخصص.
«دخلت إيران إلى القرن العشرين بالثور والمحراث الخشبي، وخرجت منه بمعامل الصلب، وبواحد من أعلى معدلات حوادث السيارات في العالم، وبرنامج نووي يثير الذعر والغضب»، يبدأ المؤلف كتابه بهذه الجملة التي تجمل بصورة مكثفة واقع المجتمع الإيراني وتحولاته الدراماتيكية المثيرة. ويضيف «لقد كانت الدولة هي المحرك الأساسي لهذا التحول، كيف خلقت، وكيف توسعت، وكيف كانت لتوسعها عواقب عميقة الأثر، ليس فقط على السياسة والاقتصاد، بل على البيئة والثقافة، والأكثر أهمية من ذلك على المجتمع الواسع».
يؤكد المؤلف أن جغرافية وهوية إيران ثابتتان بشكل لافت خلال جميع التغيرات، فالإيرانيون اليوم يعيشون داخل الحدود نفسها التي عاش داخلها أجدادهم الأوائل، فالإقليم يعد ثلاثة أمثال حجم فرنسا، وستة أمثال حجم المملكة المتحدة، يحده من الجنوب الخليج العربي، ومن الشرق صحراء خراسان وسيستان وبلوشستان، ويحده من الغرب شط العرب وأهوار العراق، والجبال الكردية، بينما يحده من الشمال نهر آراس وبحر قزوين، وكذلك نهر أتراك الذي يمتد من حوض قزوين حتى آسيا الوسطى. إنه موقع استراتيجي مثير يجمع بين أطرافه وحدوده هوايات متعددة متنافرة وربما متداخلة، فمثل هذه الهويات الوطنية بمجملها منصهرة ومتنازع عليها، وهي تشكل هوية إيران الحديثة والقديمة.
ينسب الإيرانيون أنفسهم إلى كل من الإسلام الشيعي، وإلى تاريخهم ما قبل الإسلام خصوصا الساساني، والإخميني، والبارثيني، وتعد الأسماء التي يختارونها لأولادهم دليلا حيا على ذلك، فمن التشيع: علي، مهدي، رضا، فاطمة، حسين وحسن.. ومن إيران القديمة، ومن خلال الشاعر الفردوسي وملحمته الشاهنامة (كتاب الملوك) تأتي أسماء مثل: إسفنديار، وإسكندر، ورستم، وسهراب، وبهرام، وأتوسا.
يتحدث المؤلف عن الثورة السكانية التي حدثت في إيران منذ القرن العشرين، حيث شكل ذلك جوانب مؤثرة في الحياة الإيرانية عموما، فمنذ مطلع القرن العشرين كان عدد السكان الإجمالي 12 مليونا، وكانت طهران مدينة متوسطة الحجم يقطنها نحو 200 ألف نسمة، ومع نهاية القرن بلغ عدد السكان قرابة 70 مليونا، وطهران تحولت إلى عاصمة مليونية يقطنها أكثر من 7 ملايين نسمة.
يبدأ بعد ذلك المؤلف في فصول تاريخ إيران الحديث، تلك الفصول المثيرة للجدل والصخب والمليئة بالتغيرات العميقة في بنية السياسة والثقافة، يبدأ الفصل الأول عن تاريخ إيران تحت حكم القاجار، وهم من سماهم «المستبدين الملكيين». والقاجار هو اتحاد قبلي بلسان تركي، وقد غزوا إيران جزءا بعد الآخر خلال الفترة من تسعينات إلى ثمانينات القرن الثامن عشر، فأقاموا عاصمتهم في طهران في عام 1786، وأسسوا حكم سلالتهم عام 1796، وواصلوا حكمهم لأكثر من قرن، إلى أن جاءت الثورة الدستورية الإيرانية أو الفارسية التي ابتدأت بواكيرها منذ مطلع القرن العشرين، وتحديدا حدثت بين عامي 1905 و1907.
لكن هذه الثورة، مثلها مثل الثورات الأخرى - كما يقول المؤلف - بدأت بتوقعات عظيمة لكنها غاصت في نهاية المطاف في بحر عميق من خيبة الأمل، فقد وعدت بـ«فجر عصر جديد»، و«مستقل مشرق»، و«إحياء لحضارة قديمة»، بينما أنتجت عصرا من الصراع قاد البلاد إلى حالة من التفكك.
تعود جذور الثورة الدستورية إلى القرن التاسع عشر بسبب اختراق الغرب التدريجي للبلاد، حيث أدى هذا الاختراق إلى إضعاف الروابط الضعيفة أصلا بين قصر القاجار والمجتمع، وأسهمت هذه التدخلات في نشوء طبقة وسطى جديدة من بينها طبقة مؤثرة هم «المفكرون التنويريون»، معتمدين إعلاء الهوية الفارسية، والمصطلح الفارسي «روشن فكران»، وقامت هذه الطبقة بدور «الإنتلجنتسيا» التي تسعى إلى صياغة خطاب ثقافي اجتماعي يسعى إلى التغيير.
ونتيجة لتغيرات سياسية واضطرابات داخلية كثيرة قادت الأمور، تدهورت الأوضاع الاقتصادية والأمنية في البلاد إلى أن استولى الجنرال رضا خان في 21 فبراير (شباط) 1921 على طهران بحامية قدرها ثلاثة آلاف رجل، وسمي هذا الانقلاب لاحقا بيوم التحرير المجيد، ودشن ذلك عهدا جديدا، حيث بنى الشاه رضا دولته على عمودين أساسين: الجيش والبيروقراطية، حيث نما الجيش في عهده بمقدار عشرة أضعاف، والبيروقراطية بمقدار سبعة أضعاف. ثم يسهب المؤلف بحديث مفصل عن الدولة التي أسسها الشاه رضا، والبنية التحتية إلى قامت في عهده وما زالت جذورها فاعلة إلى اليوم.
يستعرض بعد ذلك المؤلف المنعطفات التاريخية التي حدثت بعد قيام حكم دولة بهلوي، وضعفها بعد الغزو الأنغلو - سوفياتي عام 1941، وعودة الحياة السياسية شيئا فشيئا بعد ما يسميه فترة «خلو العرش الوطنية»، ثم ثورة مصدق الوطنية، فالإطاحة به على يد شركة النفط البريطانية التي مهدت إلى قبضة شاملة للشاه محمد رضا عام 1953، الذي استأنف مسيرة والده التي توقفت عام 1941، وقام على توسعة الأعمدة السابقة، الجيش والبيروقراطية، لكنه أضاف إليها نظام محسوبيات القصر، واستمر في برامج الإصلاح الزراعي، وحركة الصناعة، لكن التوترات الاجتماعية والسياسية بدأت تؤدي مفعولها، إضافة إلى التدهور الاقتصادي الذي ضرب البلاد، وبدأت خطابات المثقفين الثوريين تحرك المشاعر نحو التمرد لكن هذه المرة بنكهة ممزوجة بالحديث عن الإسلام.. «الإسلام المسيس الذي ينتصر للمستضعفين».
كان علي شريعتي واحدا من أبرز شخصيات الطبقة المثقفة التي قادت هذا الخطاب، فهو يقول «ما الذي نعنيه بالإسلام؟ نحن نعني إسلام العدل والقيادة السليمة، وليس إسلام الحكام الأرستقراطيين. إسلام الحرية والتقدم والوعي، وليس إسلام العبودية والأسر والسلبية». وفيما كانت كتابات شريعتي تجتذب الطبقة المثقفة، بدأ نجم الخميني يبزغ بين العلماء الدينيين والمحافظين منذ أن كان مقيما في النجف، حين صاغ أفكاره في سلسلة محاضرات لطلاب الحوزة، ثم نشرها من دون ذكر اسمه بعنوان «ولاية الفقيه: الحكومة الإسلامية».
يأتي الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان «الجمهورية الإسلامية»، متسائلا «هل من الممكن تجنب ثورة الخميني لو أن الشاه سحق المعارضة، ولم يكن يعاني من السرطان، ولو أن مستشاريه الأقوياء كانوا لا يزالون على قيد الحياة، لو أنه أنفق أكثر على أجهزة السيطرة والضبط؟». يجيب المؤلف «الحقيقة أن الثورة لم تقم بسبب الأخطاء السياسية التي حدثت في اللحظات الأخيرة، بل نشبت مثل بركان بسبب ضغوط سحيقة كانت تتراكم بشكل متزايد على مدى عقود في أحشاء المجتمع الإيراني».
يؤكد المؤلف أن الخميني بعد انتصار ثورته حصل على سلطات دستورية لم تكن متخيلة، لقد أصبح شبيها بالزعيم الإيطالي موسوليني، وأعلن أحد أتباعه المخلصين قائلا «لو كان على الخميني أن يختار بين الديمقراطية وبين ولاية الفقيه، فإنه لن يتردد كون الاختيار الأخير يمثل صوت الله».
منذ اندلاع ثورة 1979 تحول التشيع بشكل عنيف إلى مذهب مسيس - كما يقرر إبراهيميان - بحيث أصبح أيديولوجيا راديكاليا، وليس دينيا محافظا ورعا، فعلى الرغم من أن التشيع - مثله مثل القومية الفارسية - استمر باعتباره جزءا أصيلا من الهوية الإيرانية، فإن محتواه الحقيقي بعد الخميني قد تغير بشدة.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.