موسكو تطلق وكالة «سبوتنيك» سلاحا إعلاميا في حربها مع «البيت الأبيض»

بعد أن فرغ من ترتيب البيت من الداخل، وتخلص من أبرز ممثلي الطابور الخامس من رموز اللوبي اليهودي الصهيوني بين جنبات الكرملين وأروقة السلطة في تسعينات القرن الماضي، تحول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى تصفية حساباته مع «إمبراطوريات الإعلام» التي كانت استمرأت الاستمتاع بمآثر وأضواء «الدولة داخل الدولة».
وما أن نجح بوتين في تحقيق مراده، حتى تحول إلى التفكير في تشكيل آلياته الضاربة في الساحة الخارجية التي أعرب عن الأمل الكبير في احتواء ما تشكله من أخطار تهدد سلام واستقرار الوطن ووحدة أراضيه.
كان ذلك مقدمة للإعلان عن إطلاق «روسيا اليوم» الناطقة بالإنجليزية في عام 2005 التي كانت مقدمة لسلسة مشروعات إعلامية موجهة، ومنها «النسختان العربيتان»، اللتان صدرتا على التوالي في عامي 2007 و2009 لتغطي مساحات أكثر رحابة، كانت ولا تزال فريسة هجمات الإعلام الغربي في أميركا اللاتينية والمنطقة العربية والبلدان الناطقة بالإنجليزية.
ورغم الطابع الرسمي الحكومي الذي يغلب على ما تقدمه القنوات الروسية الـ3، فقد استطاعت هذه تحقيق الانتشار المطلوب، رغم بعض ما يشوبها من إغراق في تبني وجهة النظر الرسمية على حساب الحيادية الإعلامية، فقد أصبحت نافذة شديدة التأثير على الساحة المتعطشة للاطلاع على رؤى مغايرة لما دأبت على تقديمه الأجهزة الدعائية الغربية وقواها الضاربة والمتمثلة في وكالات الأنباء التي طالما احتكرت «الحقيقة» بما تريد لها من أطياف ألوان تتلاءم مع توجهاتها ومخططاتها.
وكان بوتين أحكم أيضا قبضته على «الإنترنت»، ومنظمات المجتمع المدني من خلال ما استصدره مجلس الدوما من قوانين تحد من انتشار وتأثير هذه الشبكات والمنظمات، شملت ما تسمى بـ«الصحافة المستقلة» وأجهزة الإعلام التي يجري تمويلها من الخارج.
وقد كشفت مصادر الحزب الحاكم في مجلس الدوما عن أن الدورة البرلمانية الجديدة سوف تتناول كذلك دراسة مشروع قانون جديد يستهدف تقنين أوضاع هذه الصحف والقنوات التي دأب معظمها على التدخل في الشؤون الداخلية الروسية، وصار أقرب ما يكون إلى «بوق للدعاية الأجنبية». ونقلت صحيفة «إزفيستيا» عن مصادر الحزب الحاكم قولها، إن «من حق المجتمع معرفة القوى التي تقف وراء تمويل بعض ممثلي من يسمون أنفسهم (السلطة الرابعة)، ومدى ما تتمتع به هذه القوى من استقلالية».
وتمضى الأيام لتؤكد بعض مظاهر القصور الذي شاب عمل ونشاط هذه الأجهزة الإعلامية، ومنها سقوط بعض أنصار الحزب الحاكم من كبار الرموز الإعلامية في شرك النمطية المهنية والقوالب الدعائية، على نحو بات أقرب إلى تبنى مبدأ «الملكية أكثر من الملك»، وهو ما استشعره الكرملين في حينه، ليبادر في نهاية العام الماضي بإطلاق مشروعه الذي اختار له اسم «روسيا سيفودنيا»، وهو الاسم نفسه الذي كان اختاره لقنواته التلفزيونية الـ3 الموجهة «روسيا اليوم»، التي تحولت لتحمل حرفي «آر تي - RT»، الأولين لكلمتي «روسيا اليوم»، اسما مميزا على النمط الغربي، بوصفه بديلا عن الاسم السابق «Russia to day» الناطقة بالإنجليزية، و«روسيا اليوم» الناطقة بالعربية التي كان الرئيس بوتين اختار الرابع من مايو (أيار) يوم ميلاد الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، موعدا لانطلاقتها، واستهلها بحديث على الهواء مباشرة معه، كشف فيه عن سر اختياره لمثل ذلك التوقيت.
أما عن المشروع الجديد الذي يحمل اسم «سبوتنيك» فقد اختار القائمون عليه، منهم دميترى كيسيليوف المعلق التلفزيوني المعروف بتوجهاته القومية، وقناعاته المطلقة بتوجهات الرئيس بوتين وسياساته، ليعهدوا إليه برئاسته ورسم استراتيجيته في إطار سياسات الكرملين للمرحلة المقبلة، وهو الذي «شَرُفَ» بأن يكون في صدارة قائمة العقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها على أبرز شخصيات ورموز الدولة الروسية وأجهزتها الرسمية والإعلامية.
الأزمة الأوكرانية بينت القصور الإعلامي في مجال مواجهة الماكينة الضخمة للإعلام الغربي التي نجحت إلى حد ما، في تصوير موسكو، وكأنها قوة احتلال غاشمة تهدد جيرانها. وبدت الحاجة شديدة الإلحاح وأكثر من ذي قبل، إلى وضع خطة عاجلة للتصدي للهجمات الغربية الشرسة، التي استهدفت النيل من مواقع الكرملين على خريطة الساحة الإعلامية الدولية.
وكان الكرملين حقق الكثير من النجاح في معركته «غير المعلنة» مع خصومه في الساحة الدولية، قبل أن يعود ويعتري الوهن بعض مواقعه، تحت تأثير الضربات المتوالية والعقوبات من جانب خصومه الغربيين، ممن راحوا يروجون لضرورة العمل من أجل التصدي لما وصفوه بـ«مخططات الكرملين التوسعية»، وقولهم إنها «تستهدف تحقيق استعادة الاتحاد السوفياتي السابق»، على حد زعمهم.
ولعل ذلك تحديدا ما قد يبدو تفسيرا مناسبا لظهور المشروع الجديد، باكورة إنتاج مؤسسة «روسيا سيفودنيا»، أما عن الاسم الذي اختاره كيسيليوف لمشروعه الجديد فقد استمده من رصيد إنجازات الماضي المجيد التي سبق واختارت موسكو كلمة «سبوتنيك» (القمر الصناعي) رمزها المميز الذي سرعان ما رفدته بالكثير من الكلمات التي فرضت نفسها على قاموس ذلك الزمان، تمييزا للوفير من الإنجازات التي استهل بها الاتحاد السوفياتي متقدما عن غيره من كبريات البلدان، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بمشروعه لغزو الفضاء في عام 1957.
قال كيسيليوف في معرض طرحه لفكرته وإيجاز استراتيجيته للعمل في الفترة المقبلة: «نحن ضد الدعاية العدائية التي يقتات عليها العالم.. سنقدم تفسيرا بديلا للعالم.. هناك حاجة إلى ذلك».
وأضاف الإعلامي الروسي قوله إن ما سوف تقدمه الوكالة الروسية الجديدة «سيكون منتجا إعلاميا متميزا خاليا من الفبركة، ويتسم بأكبر قدر من الموضوعية والأمانة التي يحتاجها العالم، وما يعد محاولة لمواجهة سيل الأكاذيب والافتراءات التي تتدفق من مواقع القطب الواحد. ويبدو العالم وقد سئم تكرار محاولات ترويجها وفرضها؛ ولذا، فإن ما سوف يتلقاه المشاهد أو المستمع أو القارئ سيكون من إعداد الصحافيين العاملين في بلادهم، وبما يتلاءم مع احتياجات هذه المناطق المتفرقة من العالم».
وأكد كيسيليوف أن مشروع «سبوتنيك» سيفتتح مكاتبه بينما يزيد على 30 من أهم العواصم والمدن العالمية، ومنها: واشنطن، ولندن، وبرلين، وباريس، وريو دي جانيرو، إلى جانب جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
وخلص إلى تأكيد أن الكثيرين أدركوا أن العالم يجب أن ينأى بنفسه عن تصديق ما تروجه الولايات المتحدة حول صحة ما تفعله وتقوم به، وأن روسيا تعرض نموذجا جديدا للعالم المعاصر يقوم على احترام كل البشر، وأشار إلى أن بلاده تؤمن بالتعددية وتنوع الثقافات والحضارات، مؤكدا وجود الكثير من الحلفاء والأصدقاء، وهو ما قال إن مشروعه الجديد سيحاول وضعه حيز التنفيذ.
وسرعان ما تلقفت الأجهزة الدعائية والإعلامية الغربية هذه الكلمات التي وصفتها بأنها «تعبير عن رغبة دفينة في استعادة أمجاد الماكينة الدعائية السوفياتية»، ومع ذلك فقد اعترف الكثيرون من المراقبين بعدالة الموقف الروسي، مؤكدين أن «خطوة الإعلان عن افتتاح المشروع الجديد أملتها ضرورة مواجهة تسلط وتعسف الدعاية الغربية التي ظهرت في أسوأ صورها مع اندلاع الأزمة الأوكرانية»، وكانت الأحداث التي شهدتها أوكرانيا بما في ذلك جنوب شرقي البلاد، أكدت أن «الولايات المتحدة تقف وراء إشعال الأزمة وتأجيجها، بينما تتخذها اليوم ستارا لمحاولات تنفيذ مخططها القديم - الجديد الذي تستهدف به زعزعة استقرار روسيا، والنيل من هيبتها وسيادتها في المنطقة».
إن ما أعلنته موسكو، يوم الاثنين الماضي، حول تأسيس مشروع «سبوتنيك» لم يكن وليد اللحظة؛ حيث سبق وأعدت له من خلال ما أعلنت عنه في نهاية العام الماضي حول تأسيس مؤسسة «روسيا سيفودنيا» - الوريث الشرعي لمؤسسة «ريا نوفوستي» - التي سبق وكانت بديلا روسيا للمشروع السوفياتي السابق الذائع الصيت «وكالة نوفوستي للأنباء» «APN»، وقالت المصادر آنذاك، إن «المشروع الجديد سيقوم على أساس إذاعة (صوت روسيا)، التي تعتبر بديلا للإذاعة السوفياتية الموجهة».
أما عن رئيس المشروع الإعلامي الكبير فهو دميتري كيسيليوف البالغ من العمر ستين عاما، الذي سبق وتلقى تعليمه بكلية الآداب في جامعة «لينينغراد» العريقة، مما يعني أنه كان زميلا «غير مباشر» لكل من الرئيس بوتين ورئيس ديوانه سيرغي إيفانوف، وتقول السيرة الذاتية إنه تخرج من القسم نفسه الذي تخرج منه إيفانوف، وهو قسم اللغات الاسكندنافية في كلية الآداب. وكان كيسيليوف عمل منذ تخرجه في الإذاعة السوفياتية وعدد من مكاتبها الخارجية الأوروبية إلى أن تحول إلى العمل بالتلفزيون مراسلا ومعلقا سياسيا؛ حيث كشف عن توجهاته القومية المتشددة من خلال ما قدمه من برامج وشرائط وثائقية سجلت «سقطات» ميخائيل غورباتشوف، وبوريس يلتسين، و«انهيار الاتحاد السوفياتي»، وهو ما لفت إليه، على ما يبدو، أنظار فلاديمير بوتين. ولعل ذلك يمكن أن يكون سببا في إدراجه ضمن قائمة المحظور دخولهم إلى واشنطن وبلدان الاتحاد الأوروبي بموجب العقوبات التي علق عليها في حديثه مع صحيفة «إزفيستيا» بقوله: «حسب ما أذكر هذه هي المرة الأولى التي يفرض فيها عقوبات دولية ضد صحافي. يتهمونني بأنني أمارس الدعاية، ولكن كلمة الدعاية باللغة اليونانية تعني نشر المعلومات والأفكار والمواقف الفلسفية، أما الغرب فيستخدم هذه الكلمة ويعتبرها سبابا.. وهذا أمر سخيف حقا».
واستطرد كيسيليوف في حديثه، الذي نقلته إذاعة «صوت روسيا»، ليقول إن «جميع الوكالات الغربية تفرض وجهة نظرها، ومنها على سبيل المثال وكالة (رويترز) ووكالة (أسوشييتد برس)، إن هذه الوكالات تمارس بالفعل فن الدعاية وتقوم بصياغة جدول أعمال المواضيع الملحة، وتفرض الطريقة التي ينبغي أن يفكر بها المرء، وتحدد ملامح الترتيب الواجب اتباعه»، وأضاف قوله إن «ما يثير قلق الغرب هو رؤية روسيا دولة تنهض من جديد»، مؤكدا: «نحن ننهض، وبالتالي إذا كان هناك برنامج تلفزيوني يؤيد هذه النهضة الروسية، فهذا يعني أن الغرب سوف يفرض عقوبات على مؤلف هذا البرنامج. والأكثر من ذلك فإنهم يقولون إن كيسيليوف يكره المثليين، ومعاد للسامية، ويدعو لحرق أميركا.. إلخ. كل ذلك يبدو غير لائق».
أما منصب رئيس تحرير المشروع الجديد، فقد عهدت القيادة الروسية به إلى «فتاة الكرملين المدللة»، مارجريتا سيمونيان، التي سبق وعهد إليها برئاسة مشروع «قنوات روسيا اليوم» التلفزيونية، ولم يكن عمرها تعدى الـ25 بقليل، وهو ما لم يحل دون تحقيقها للكثير من النجاح خلال مسيرتها المهنية التي وإن كانت قصيرة، فإنها تحمل الكثير من مشاهد «الإثارة»، الأمر الذي سبق وسجلنا بعض صفحاته وجوانبه، في معرض حديثنا عن «روسيا اليوم» على صفحات «الشرق الأوسط» في حينه.
وتقول المصادر الرسمية إن «الدولة خصصت لتمويل مشروع (روسيا اليوم) ما يقدر بـ6.48 مليار روبل، إلى جانب ميزانية قنوات (روسيا اليوم) التي تبلغ 15.38 مليار روبل في عام 2015. وللمقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع المالية لوكالة أنباء (ريا نوفوستي)، نشير إلى أن ميزانية هذه الوكالة كانت 2.35 مليار روبل! أما عن أعداد العاملين في المشروع الجديد، فمن المقرر أن يزيد قليلا على 1500 من رجال الصحافة والإعلام سوف ينتشرون في مختلف عواصم ومدن الأميركتين وأوروبا وأفريقيا وآسيا، بما في ذلك بلدان الفضاء السوفياتي السابق».