تحدث في حلقة أمس عدد من المثقفين السعوديين عن عزلتهم القسرية التي فرضها فيروس «كورونا»، حالهم حال ملايين البشر، وعن انشغالاتهم في تفرغهم الإجباري ومشاريعهم المؤجلة التي يمكن أن يعملوا على إنجازها، بعدما كانت الحياة اليومية تستهلك كثيراً من أوقاتهم وأرواحهم أيضاً. ورأى الكثير منهم أن من حسنات الإقامة في المنزل أنهم أعادوا ترتيب مكتباتهم، التي كانت أُمنية مؤجلة منذ زمن بعيد، وقراءة كتب انحبست على الأرفف، علاها الغبار ولم تطلها الأيدي.
في هذه الحلقة الثانية، تحدث عدد المثقفين السعوديين عن برنامجهم اليومي غير المعتاد الذي فرضه الواقع الحالي في جميع أنحاء العالم.
عبد العزيز بن ناصر المانع: لكل فرد طريقته
في ظل أزمة «كورونا» التي أحاطت بالعالم، وفرضت الدول حجراً على السكان، ومن ضمنها بلاده السعودية؛ الأمر يحتاج إلى كثير من التضحية وغلبة النفس لحمايتها ومجتمعه في آنٍ واحد. وبالطبع، إن لكل فرد طريقته الخاصة في ملء هذا الفراغ، بما يتماهى مع طبيعته وهوايته وتخصصه، لكنّ الحديث عن النفس معيب، وإن تجربته مع الإقامة في المنزل لا يتطرق إليها الملل بحال.
«أيامي منذ التحقت بالجامعة مرتبطة بالكتاب والبحث وتحقيق التراث، وهذا النمط من الاهتمام الشخصي لا يلتزم بمكان أو زمان، سواء أكان في الجامعة أم في المنزل، خصوصاً أني ولله الحمد أمتلك مكتبة تغنيني عن مكتبة الجامعة حالياً. إن فرض منع التجول قد أضاف حافزاً آخر لمواصلة البحث وعدم التفكير في الخروج والاكتفاء بالتواصل الهاتفي مع الآخرين. مشيراً إلى أنه من الناحية النفسية مستقر تماماً، خصوصاً بعد أن قرر العلماء أن علاج هذا الجرثوم لمن تجاوز السبعين أمر مستبعد! لكن لنا مع الله -جل جلاله- عظيم اليقين في رحمته ورضاه».
عبد الرحمن بن عبد الله الشقير: كنا بحاجة إلى صدمة
«حياتي اليومية بعد قرار حظر التجول تحولت إلى قسمين، هما: المكوث الإلزامي في البيت، والخروج لتأمين متطلبات البيت، وذلك للعطل الكبير في الحياة العامة. وحقيقة لم يتغير نظامي كثيراً، وذلك لأني أقضي معظم وقتي في البحث، وأنام وأصحو مبكراً»، معتبراً أن الذي فقده هو الجلوس مع الأصدقاء والأقارب، وقد عوّضه بالسؤال عنهم هاتفياً وعبر الرسائل، وخصص كل الوقت للقراءة والبحث والكتابة. «لقد تحولت أعمالي الخاصة والمهام الجامعية إلى التقنية والإيميلات، واستفدت وعائلتي بمسألة ترشيد الاستهلاك والعودة إلى الأكل المنزلي وتوزيع جديد للمهام والتحفيز على استثمار أوقات الفراغ.
كنا بحاجة إلى صدمة توقظنا من الانغماس في الحياة العصرية والاستهلاك الجائر وطوفان الدعايات والتخفيضات والتشجيع على الاقتراض من أجل مزيد من استهلاك الكماليات، وكنا بحاجة لإعادة ترتيب حياتنا وتأملاتنا وعلاقاتنا.
وبحكم تخصصي، كان من الواجب عليَّ المساهمة في نشر التوعية حول وباء (كورونا الجديد)، من خلال التنويه بصفحاته على تطبيقات التواصل الاجتماعي إلى التعليمات الموثوقة والرسمية، وكتابة مقالات حول منظور علم الاجتماع للأزمات والأوبئة من خلال قراءة المشهد السعودي وتحليله.
وأخيراً، إني على ثقة أن العلم سيتغلب على الوباء، بإذن الله تعالى، وأن الأزمة تعد فرصة لنا جميعاً لإعادة ترتيب نظامنا الاجتماعي واقتصاد الأسرة، وتقييم إنتاجيتنا لأنفسنا ولأهالينا وللمجتمع».
أحمد الشنبري: أحافظ على سلامتي العقلية بالقراءة
«إن الشعور بالخطر قد يحفز الإنسان على القيام بما يساعد على الابتعاد عن المخاطر والحفاظ على الصحة كأسلوب للاستمرار في البقاء على قيد الحياة ومقاومة الأوهام والقلق والهموم، والانشغال عنها بمهام فكرية كالقراءة المكثفة عما يجري في هذا العالم، وقراءة كتب الفلسفة، إضافة إلى الروايات، وممارسة رياضة المشي، التي أقوم بها لمدة ساعة كل يوم.
تهاجمني من وقت لآخر مخاوف التعرض لهذا الفيروس اللعين وآثاره المرعبة التي تهدد الحياة. لقد بدأت أنظر إلى الحياة بعين الحذر... وأراقب نفسي طوال لحظات اليقظة، وأتّبع برنامجاً يومياً مكثفاً يختلف تماماً عما سبق من فترات حياتي... بعد ممارسة المشي والاستحمام، أنطلق مشياً إلى دارين متجاورتين للكتب، بجانبهما مقهى، آخذ منه نصيبي اليومي من القهوة مع الشوكولاته وسماع مقطوعات من موسيقى الجاز والبلوز والموسيقى الكلاسيكية... ثم أعود إلى ارتياد دور الكتب. الأمر الذي تحوّل إلى ما يشبه الإدمان أكثر منه طلباً للتنوير والازدياد من المعرفة... أصبحت المكتبات السبيل الوحيد للمحافظة على السلامة العقلية، والوحيدة التي لا تقارَن بها أي متعة أخرى. القراءة تُبعد الهموم، وقد تدرأ الجنون، مع الاطلاع اليومي على ما يجري في العالم كل يوم، وأحياناً كل ساعة».
وهناك مواقع على الإنترنت لا بد أن يزورها كل يوم، وهي تخص موضوعات مختلفة، كآخر التطورات في العلوم الطبية وعلوم الفلك والرياضيات الجديدة والفيزياء، إضافة إلى الآداب والفلسفة، وأخيراً التقلبات الاقتصادية والسياسية، مضيفاً أن هناك صحفاً لا بد من زيارتها يومياً، مثل «نيويورك تايمز» و«وول ستريت» و«فاينانشيال تايمز» ومجلات تحليل العلاقات الدولية... وأخيراً الاطلاع على ما يُنشر في الدوريات الأكاديمية.
خالد بن عبد المحسن العبدان: إرهاب المعرفة القاتلة
مع إعلان الحكومة السعودية الحجر المنزلي لم أجد بُدّاً من التوجه إلى مكتبته، ليقع في يديَّ كتاب «بناء الكون ومصير الإنسان» لمؤلفه هشام طالب، الذي يتحدث في الكتاب عن إمكانية قيام جهات مجهولة باستخدام ما سماه «إرهاب المعرفة القاتلة» عن طريق نشر وباء جرثومي عام 2020 يقضي على مليون شخص بالعالم، لأن هذا العام سيكون عام الخطأ البشري، الذي أعدت له مجموعة من الأشرار!
وأوضح الكتاب أن إرهاب المعرفة القاتلة، هو الإرهاب البيولوجي ومخاطر التعديلات الوراثية والاستنساخ البشري والحيواني، والزراعة النسيجية، وغيرها من العلوم البيولوجية، مستشهداً بما قاله العالم البريطاني مارتن ريس، الذي توقع في كتابه الصادر عام 2003 «ساعتنا الأخيرة» حدوث كارثة تدمر نصف البشر ناتجة عن إرهاب نووي وفيروسات مميتة، معدلة وراثياً.
هذا الكتاب الذي وقع في يدي صدفه جعلني أفكر كيف للتنبؤات أن تحدث، وبعدها سكتّ عن الكلام المباح، ورميت «الريموت»، وامتنعت عن متابعة البرامج والأخبار، بعد أن أيقنت أن الحياة مسرحية هزلية، وأن هاجس المؤامرة عند كثيرين له ما يبرره، وبعدها أُصبتً بالأرق، ولم أجد ملاذاً من ذلك غير ترديد بيتين حفظتهما للشاعر صناجة العرب، الأعشى، الذي عاش في قرية منفوحة، وهي تبعد عن منزلنا في الرياض 25 كيلومتراً، وأضحت اليوم حياً من أحياء العاصمة السعودية:
أرقتُ وما هذا السُّهادُ المُؤَرِقُ *** وما بِي مِنْ سُقْمٍ وما بي مَعْشَقُ
وَلَكِنْ أُراني لا أزالُ بِحَادِثٍ *** أُغَادِي بِمَا لمْ يُمْسِ عندي وأُطْرَقُ