الصحافة في زمن «كوفيد ـ 19»... تحديات لتغطية الأحداث

جانب من مؤتمر صحافي للرئيس ترمب حول «كورونا» (أ.ب)
جانب من مؤتمر صحافي للرئيس ترمب حول «كورونا» (أ.ب)
TT

الصحافة في زمن «كوفيد ـ 19»... تحديات لتغطية الأحداث

جانب من مؤتمر صحافي للرئيس ترمب حول «كورونا» (أ.ب)
جانب من مؤتمر صحافي للرئيس ترمب حول «كورونا» (أ.ب)

لم يتردد الصحافيون يوماً بالغوص في تغطيات خطرة من حروب وكوارث طبيعية وأزمات اجتماعية؛ هدفهم نشر الوعي والكشف عن الحقيقة في عالم لا ينضب من مشكلات ومعضلات. لم يفكر هؤلاء يوماً أنهم سيضطرون إلى التقهقر وراء خطوط التماس والتجاء المأوى، والاختيار بين الوجود في موقع الحدث وتحدي إرشادات الأطباء والمجتمع الدولي، أو الإصابة بفيروس قاتل، إن لم يقضِ عليهم قضى على غيرهم من أحبائهم وأقاربهم... خيار صعب، بل وفي بعض الأحيان لم يعد حتى خياراً، بل أمراً بالبقاء في المنازل، والعمل من وراء مكتب صغير لا يتسع لأسئلتهم، ولا يستوعب حجم القضية التي يعملون عليها.
فهؤلاء الصحافيون لا يخشون على أنفسهم فحسب، بل يعلمون أن احتكاكهم بالمجتمع الخارجي يعرض غيرهم للخطر. هم يعلمون الكثير، فهذه هي طبيعة عملهم: جمع المعلومات... ولأن من يعلم الكثير، يفهم طبيعة الخطر، ويقدر حجمه، فقد حاول كثير منهم ابتداع وسائل لمواكبة الحدث، سواء من منازلهم ملتصقين بشاشات حواسيبهم، أو من مؤتمرات صحافية شبه خالية، يتناوبون على حضورها، ويحرصون على ترك مسافة شاسعة بين كرسي وآخر، تجنباً لالتقاط العدوى.
الكونغرس، على سبيل المثال، كان خلية نحل للصحافيين، يتسابقون في أروقته، ويتدافعون على أدراجه، لاستراق أخبار حصرية من سيناتور يهرول هرباً منهم، ويحتمي بمساعديه، ثم يأخذ منعطفاً مفاجئاً في أروقة المبنى التاريخي لتضليلهم... وفي محاولة أخيرة قبل الاستسلام، يتناول هاتفه ويدعي أنه تلقى اتصالاً مهماً لا يستطيع تجاهله.
لكن هؤلاء الصحافيين لا يستسلمون، بل يراقبونه كالفهد من بعيد، لينقضوا عليه عندما يظن أنهم تعبوا وكلّوا من الانتظار، فيضطر للإجابة، وتبدأ كتابة الخبر، والتهافت على الحصري والعاجل.
إلى أن ظهر كورونا، وحاول الصحافيون مقاومة القيود لعدم الغياب عن الخبر، من دون تعريض زملائهم وأعضاء الكونغرس لأي خطر صحي يعلمون أنه يتربص بالكبير أكثر من الصغير، فبدأوا بالتعاون في التغطيات، وباحترام المسافات. فبدلاً من التهافت والتدافع للحصول على حديث من سيناتور أو نائب، أضحوا يهتفون بأسمائهم، ويحاولون المشي بعيداً عنهم وهم يسائلونهم عن مواضيع الساعة.
ويتحدث مراسل محطة «فوكس نيوز» الأميركية، تشاد برغام، عن التحديات هذه، ويقول: «أصبحت مهمة الصحافي صعبة للغاية في زمن الكورونا، الصحافيون في الكابيتول يحصلون على أخبارهم من خلال الانتظار خارج أبواب الاجتماعات وجلسات الاستماع وأقبية الكونغرس. اليوم، لم يعد محبذاً أن يجتمع الصحافيون حول عضو في الكونغرس للحديث معه، ولم يعد من الممكن مرافقة أعضاء الكونغرس وهم يتمشون في الأروقة».
حتى في المؤتمرات الصحافية، بات كل مقعد بعيد كل البعد عن المقعد الآخر. ويتذكر أحد الصحافيين المخضرمين هناك تغطية محاكمة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فيقول لي شبه باكياً: «انظري حولك، هل تذكرين كيف كانت هذه الغرفة أيام العزل؟ انظري اليوم، الصحافيون يعدون على أصابع اليد الواحدة».
وبالفعل، هذا هو الواقع المرير الذي فرضه الفيروس. فالاحتكاك شبه اليومي الذي عُرف به هذا المبنى العريق بين الصحافيين وصانعي القرار لم يعد مطروحاً. وإن لم تتخذ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة قراراً حاسماً ببقاء المراسلين في منازلهم، اعتمدت المكاتب المعنية بالتنسيق مع الصحافيين في الكابيتول إجراءات حازمة.
ومع تقييد عمل الصحافيين في الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، كان التغيير الأكبر والأكثر تحدياً هو في التغطية التلفزيونية. فكيف يتمكن مراسل تلفزيوني من الظهور عبر الكاميرات من موقع الحدث؟ الجواب هو: لن يتمكن من ذلك، بل سيكون ظهوره من منزله، أمام صورة تعكس بشكل من الأشكال طبيعة الحدث، وتوحي بأن اللقطة هي من موقع مختلف عن غرفة جلوس أو صالون. وبالفعل، اعتمد بعض المراسلين هذه الاستراتيجية في غياب حل آخر. فتابعوا المؤتمرات الصحافية والأخبار عبر شاشاتهم، وسألوا أسئلتهم عبر الإيميل، ثم ظهروا على المشاهدين، الجالسين هم أيضاً في منازلهم، لتفسير الأحداث وطرحها للنقاش. وتقول مراسلة شبكة «إن بي سي» الأميركية، كيلي أودونيل: «ونحن نعيش مرحلة يسمح فيها المسؤولون عنا بالعمل من المنزل، لقد طورت احتراماً متزايداً لعمل المصورين ومختصي الإضاءة»، وذلك في إشارة منها لنوعية الصورة التي تختلف بشكل جذري بين كاميرا الهاتف والكاميرات التلفزيونية.
ولا يزال هناك بعض المراسلين القلائل الذين يحاولون قدر المستطاع الظهور على الشاشات من موقع الحدث.
وفي البيت الأبيض، لأول مرة يتم التحقق من حرارة المراسلين قبل الدخول إلى قاعة المؤتمرات الصحافية. وفي بداية الأمر، ظنّ بعض الصحافيين الذين غطوا البيت الأبيض لمدة طويلة أنها مزحة، لكنهم واجهوا النظرات المحذرة للحرس الخاص هناك، وعلموا أن القرار بعيد عن المزاح.
ولم يقتصر الأمر عند التحقق من حرارة الصحافيين فحسب، بل عمد البيت الأبيض إلى وضع إشارات برتقالية اللون على عدد من المقاعد في غرفة «جايمس برادي» للمؤتمرات تشير إلى أن هذه الكراسي لا يجب الجلوس عليها احتراماً لقاعدة الست أقدام.
ومع تزايد التدقيق في عدد الصحافيين، تعاونت جميع الوسائل الإعلامية المتنافسة عادة في تغطية البيت الأبيض، فاعتمدت مصوراً واحداً لتغطية المؤتمرات يشارك الصور ومقاطع الفيديو مع المحطات الأخرى.
البرامج المسائية الساخرة هي برامج تعتمد بشكل أساسي على جمهور يحضر التصوير داخل الاستديو. وفي ظل الإجراءات المرتبطة بالفيروس، اعتمدت المحطات التلفزيونية قراراً بإلغاء الحضور، لكن هذا أثر على الأجواء في البرامج المختلفة، فصعّد المسؤولون عنها الموقف، وقرروا إلغاءها حتى انقشاع الأزمة.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.