«كورونا» قد يعيد الاعتبار إلى الحدود الجغرافية

محللون رأوا أن الأزمة أزاحت حكومات عن مدارها... وتضع آمال الشعبويين على المحكّ

ريتشارد كزول رايت مدير قسم «استراتيجية النمو والعولمة» خلال مؤتمر للأمم المتحدة في جنيف الشهر الماضي (إ.ب.أ)
ريتشارد كزول رايت مدير قسم «استراتيجية النمو والعولمة» خلال مؤتمر للأمم المتحدة في جنيف الشهر الماضي (إ.ب.أ)
TT

«كورونا» قد يعيد الاعتبار إلى الحدود الجغرافية

ريتشارد كزول رايت مدير قسم «استراتيجية النمو والعولمة» خلال مؤتمر للأمم المتحدة في جنيف الشهر الماضي (إ.ب.أ)
ريتشارد كزول رايت مدير قسم «استراتيجية النمو والعولمة» خلال مؤتمر للأمم المتحدة في جنيف الشهر الماضي (إ.ب.أ)

تداعيات الانهيار المالي لعام 2008 أفرزت زلزالاً انتخابياً قلَب السياسات الحزبية في عالم ما بعد الحرب، الذي سيطرت على مشهده السياسي أحزاب الديمقراطية الاجتماعية (العمالية والاشتراكية في أوروبا الغربية) والمحافظة. إلى أن جاءت سلالة جديدة من الشعبويين إلى الحكم وحوَّلت موازين القوى العالمية عن أميركا باتجاه الصين. وربما يكون لأزمة «كورونا» التأثير نفسه.
ويتبادر إلى الذهن سؤال عمّا إذا كانت هذه الأزمة الجديدة سوف تضعف سيطرة هؤلاء على السلطة. وذكرت وكالة «بلومبرغ» للأنباء في تقرير لها حول الوضع الجديد الذي يواجهه العالم، أنه من السابق لأوانه التكهن بالحكومات التي ستفرزها هذه الحالة، حيث يستمر ارتفاع عدد الوفيات، ويظل ربع سكان العالم في حالة إغلاق. ومن غير الواضح معرفة تأثير «كورونا» على رؤساء مثل دونالد ترمب في أميركا، وجاير بولسونارو في البرازيل، وزعيم المعارضة الإيطالية ماتيو سالفيني.
كذلك ليس من الواضح ما إذا كانت الصين ستنجح أم ستفشل في تحويل مرض، يبدو أنه بدأ رحلته من مقاطعة هوبي إلى جميع أنحاء العالم، إلى فرصة جيوسياسية، حيث تنقل فرقاً طبية وإمدادات من الأقنعة ومعدات أخرى لتلميع صورتها في دول مثل إيران وإيطاليا.
ولكن ما هو واضح بالفعل هو أنه بالنسبة للقادة الشعبويين؛ الذين يسعون جاهدين من أجل تصوير بلادهم على أنها واقعة تحت الحصار، فيروس «كورونا» يثبت أنه يمثل تحدياً... هذه المرة العدوّ غير مرئي ولا يتناسب بسهولة مع الرواية البسيطة لمناهضة النخبة أو المهاجرين أو العلم، والتي أثبتت أنها مثمرة سياسياً من قبل.
ويقول آهن تشول سو، وهو مرشح سابق لرئاسة كوريا الجنوبية، إن فيروس «كورونا» لا يخلق فقط اختباراً داروينياً يكشف عن أي الأنظمة والمجتمعات أقدر على التأقلم مع الوضع، بل سيزيد من عدد المواطنين الذين يؤكدون على أهمية دعم القرارات السياسية بالحقيقة.
ويضيف آهن، الذي شكل مجموعة سياسية تفرض تحدياً في الانتخابات البرلمانية في 15 أبريل (نيسان): «سيساعد ذلك في نهاية المطاف على بناء مشهد سياسي لا تتأثر فيه الجماهير بالشعبوية. وهذا سيجعل الشعبويين يخسرون قواعدهم في نهاية المطاف».
أيضاً لقد أجبر الفيروس حتى الحكومات التي تفضل العولمة، على وقف حركة السفر وتعطيل سلاسل الإمداد.
بعد رفض شدة الجائحة في البداية، غرد ترمب بأن «هذا هو سبب حاجتنا إلى الحدود!». وربط سالفيني، زعيم «حزب الرابطة» الذي يضرب بجذوره في شمال إيطاليا الأكثر تضرراً من فيروس كورونا، انتشار المرض بالمهاجرين الذين عبروا البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا من شمال أفريقيا، ولكنه لم يقدم أي دليل يعزز رؤيته.
وصور سالفيني، وهو وزير داخلية سابق، رئيس الوزراء جوزيبي كونتي على أنه لا يفعل إلا القليل وببطء لمكافحة فيروس «كورونا»، بينما يتهمه في الوقت نفسه بفرض قرارات نخبوية دون استشارة البرلمان. غير أن أيّاً من هذه الحجج لم تكتسب زخماً حتى الآن. وبدلاً من ذلك، يحتشد الإيطاليون خلف مؤسساتهم في حالة الطوارئ. وساهمت سياسة كونتي بفرض أكثر حالات الإغلاق صرامة حتى الآن، في تسجيل شعبية حكومته رقماً قياسياً وصل إلى دعم 71 في المائة من الإيطاليين لها.
يبدو أن هناك ديناميكية مماثلة تتكشف في ألمانيا. تعرضت المستشارة أنجيلا ميركل وحزبها «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» المحاصر بالمشكلات، لأضرار بالغة في الانتخابات، بسبب موجة اللاجئين الذين فروا إلى ألمانيا هرباً من الحرب السورية في 2015، وهم يشهدون الآن ارتفاع مستوى شعبيتهم على خلفية استجابتهم لفيروس «كورونا». وأظهر استطلاع حديث أن دعم «الديمقراطيين المسيحيين» قد قفز بخمس نقاط مئوية.
وقال بنجامين موفيت، وهو محاضر بارز في العلوم السياسية بالجامعة الكاثوليكية الأسترالية في ملبورن، ومؤلف كتاب «الشعبوية»: «الأزمة الاقتصادية وزيادة الهجرة، هذه أمور يمكنك إلقاء اللوم فيها بسهولة على جماعة أو نخبة سياسية، ولكن الأزمة الحالية بيولوجية؛ لكي توقفها، فلا يمكنك فقط تصريف المستنقع أو منع اللاجئين من القدوم».
وتعرض الرئيس الأميركي لهجوم من حكام الولايات لأنه لم يتصرف بالسرعة الكافية لاحتواء «كوفيد19»، رغم حزمة مساعدات بقيمة تريليوني دولار للاقتصاد، وافق عليها الكونغرس. وادّعى أن الكنائس ستكون ممتلئة مرة أخرى في عيد الفصح، بعد نحو أسبوعين بقليل. ويوم الخميس، تجاوزت الولايات المتحدة إيطاليا في الحالات، بأكثر من 80 ألفاً و700 حالة إصابة، ومن المرجح أن تتجاوز الصين. وفي البرازيل، أدى إصرار بولسونارو على ضرورة استمرار مظاهر الحياة والعمل كالمعتاد إلى احتجاجات في المدن الكبرى.
وقال كرومار دي سوزا، الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة دارما للمخاطر السياسية والاستراتيجية» في البرازيل، كما نقلت عنه وكالة الأنباء الألمانية في تحقيق لها: «لقد أزاحت هذه الأزمة الحكومة من مدارها. إن الخصائص التي يتمتع بها والتي كانت تبدو إيجابية، مثل القتال والعناد، ينظر إليها الآن على أنها تحولت إلى عبء ومثار شكوك».
وفي المملكة المتحدة، طغت الضرورة الملحة المحيطة بـ«كوفيد19» على الجدل حول شروط خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، وكذلك على الحديث عن بداية مغازلة رئيس الوزراء بوريس جونسون، الذي يعالج حالياً بعد إصابته بفيروس «كورونا»، للشعبوية. وقد عبّر جونسون بشكل واضح عن احترامه لخبراء الطب وعلماء الأوبئة في محاولته الأولية لاتخاذ نهج مدروس لمكافحة المرض، وخلال حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان هؤلاء الخبراء موضع سخرية متعمدة.
غير أن الفكرة القائلة بأن مكافحة فيروس «كورونا» ستؤدي إلى استعادة الثقة التي كانت سائدة فيما قبل الأزمة المالية، ربما تكون مجرد أمنية، وفقاً لموفيت. هذا ينطبق بشكل خاص على الولايات المتحدة. وقال: «الخبرة، فيما يتعلق بفكرة المعرفة المحايدة هذه، لا وجود لها في كثير من العقول، لا يمكنك أن تقضي عقداً من الزمان تجادل بأن تغيُّر المناخ هراء، وأنك لست بحاجة إلى لقاحات، ثم تستدير وتقول في الواقع، نعم نحن بحاجة إلى خبراء».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟