نظرية القطيع والعزل الاجتماعي... وإدارة الأوبئة

كتاب عن «قواعد انتشار العدوى»

آدم كوتشارسكي
آدم كوتشارسكي
TT

نظرية القطيع والعزل الاجتماعي... وإدارة الأوبئة

آدم كوتشارسكي
آدم كوتشارسكي

منحى كوتشارسكي في الطرح كان دائماً في تعميم الأفكار حول أنماط الانتشار أبعد من الأوبئة: الموضة والأفكار والأخبار الكاذبة وهلع الأسواق المالية وسلوكيّات الاجتماع البشري

لطالما مثّل انتشار عدوى الأوبئة الفيروسية معضلة كبرى للمجتمعات البشرية عبر التاريخ. وهي بأنواعها وأجيالها قضت على مجاميع بشرٍ هائلة في الحقب المختلفة، متفوقة وحدها على الحروب والاستعمار في أعداد الضحايا. وحتى وقت قريب، لم يمتلك الأفراد والمجتمعات في مواجهتها سوى قليل بائس من التعاويذ والأدعيّة والخزعبلات، والتفرق في الأرض انتظاراً لانحسار الموت بعد أن أثخن الأحياء.
آدم كوتشارسكي، في كتابه «قواعد انتشار العدوى: كيف تتفشى وكيف تتلاشى» الذي وكأن وقت صدوره جاء مثالياً لحظة توارد الإعلانات الأولى عن تفشي فيروس كورونا (كوفيد – 19 الصين)، يُعيد الفضل في كسر هذه الحلقة المفرغة من العجز المطلق قبالة العدو الخفي إلى البريطاني رونالد روس حائز نوبل الطبّ عام 1902 - وتلك بالطبع نتيجة ممتازة لشاب لم يرد أصلاً أن يكون طبيباً من حيث المبدأ - . لقد ربط ابن الجنرال في جيش احتلال الهند أثناء أسفاره الكثيرة بين انتقال مرض الملاريا وانتشار البعوض بعد أن بقي تفسير العلم قبله لهذا الوباء القاتل مقتصراً على نظريّة «الهواء الفاسد». وهو كان أيضاً من أوائل الذين دعوا إلى توظيف الرياضيّات في نمذجة أنماط انتشار الأوبئة كوسيلة أساس لوضع خطط عمليّة فاعلة لإدارتها واستيعابها وحصر أضرارها. وهي منهجيّة مكنت العلماء لاحقاً من وضع «نظريّة القطيع» التي تقول مثلاً بأنّه في حالة إصابة 95 في المائة من مجموعة بشريّة بالحصبة تتضاءل فرص الإصابة بالمرض حد الانعدام؛ ولذا تعاونت حكومات العالم على تنفيذ برامج واسعة لحقن مواطنيها بنسخة ضعيفة من الفيروس لإكسابهم المناعة حال تعرّضهم للنسخة الشرسة منه.
كوتشارسكي يقدّم في «قواعد انتشار العدوى» مقدّمة ممتازة قريبة للقارئ غير المتخصص لفهم أساسيات علم الإحصاء البيولوجي، وهو أحد العلوم الشديدة الأهميّة في الغرب وتعتمد على ما تنتجه من نمذجات في صياغة النظريّات وتبنى السياسات في مجالات كثيرة من مسألة إدارة الأوبئة وانتهاء بتخطيط حملات التسويق وما بينهما، مروراً حتى بمحاولة تفسير تاريخ الشعوب بناءً على الصبغة البيولوجيّة الغالبة على كلّ منها. وفي الحقيقة، فإن منحى كوتشارسكي في الطّرح كان دائماً في تعميم الأفكار حول أنماط الانتشار أبعد من الأوبئة: الموضة والأفكار، والأخبار الكاذبة، وهلع الأسواق الماليّة، وسلوكيّات الاجتماع البشريّ، وكتابه السابق «الرّهان المثاليّ» طرح جرئ يستهدف تحدي مبدأ غلبة الحظّ على المقامرة اعتماداً على النمذجة العلميّة.
وفق «قواعد انتشار العدوى»، فإن الأوبئة تستمر في الظهور ليتبع كل منها السلوك ذاته مع مرور الوقت عبر مراحل ثلاث: الانطلاق، والذروة، والتلاشي بحسب العلاقة المترابطة بين نسب المصابين، والمرشحين للإصابة والمتعافين. وهكذا في مرحلة انطلاق فيروس الوباء بين تجمع بشري يكون تعداد المجموعة المرشحة لالتقاط العدوى كبيراً، لكنه يتراجع مع مرور الوقت وازدياد أعداد المصابين والمتعافين، الذين من المفترض نظريّاً أنهم أصبحوا يتمتعون بالمناعة الكافية لمقاومة العدوى، إلى كتلة حرجة يتراجع بعدها احتمال إصابة بقيّة المرشحين، فيبدأ الوباء عندئذ في التلاشي والاختفاء. وبحسب كوتشارسكي، فإن تحوّل فيروس إلى وباء يعتمد على حجم مجموعة المرشّحين للإصابة بالفيروس المعيّن، ووجود عدد كافٍ من حامليه، وكميّة التعاطي الاجتماعي بين المجموعتين. ويتحدد وصول حاملي العدوى إلى العدد الكافي لإطلاق الوباء على عدد الأشخاص الذين يمكن أن ينقل إليهم الفيروس من قبل شخص واحد، وكلما زاد ذلك الرّقم عن واحد تسارع انتشار المرض (معدل 3 أشخاص تقريباً في «كوفيد – 19» عدّونا الخفي الحالي)، وهو رقم مرتفع نسبياً؛ مما يبرر ضرورة تنفيذ سياسة عزل – ذاتي أو إجباري – لضمان تقليل فرص تناقل الفيروس أقلّه لمنح الأجهزة الطبية الوقت الكافي لبناء الطاقة الاستيعابيّة للتعامل مع المصابين – وهو يفسّر إلى حدّ كبير نجاح السلطات الصينيّة في احتواء فيروس كورونا بعد تنفيذها إجراءات صارمة للعزل المنزلي قلّلت فرص تلاقي الأشخاص على نحو دراماتيكيّ، ولا سيّما المدارس والمستشفيات التي هي مواضع نشر مكثّف لأي عدوى فيروسيّة.
وبحسب ما يفهم من الكتاب، يصبح ممكناً تفسير سياسة الاعتماد على «نظريّة القطيع» التي قرّرت بريطانيا العمل بها بداية ظهور الفيروس في المملكة والتي تسببت في تأخير تنفيذ إجراءات العزل الاجتماعي، ولا سيّما إغلاق المدارس وأنشطة الأعمال غير الحساسة على أساس تقبّل مبدأ إصابة 60 في المائة من المواطنين بـ«كوفيد – 19» على نحو يمنحهم المناعة الكافية للخروج من دائرة المرشحين للإصابة؛ مما يسهّل مهمّة القطاعات الطبية التعامل مع الأربعين في المائة المتبقيّة. لكن تلك السياسة تعرّضت لانتقادات شديدة بوصفها راهنت على سلوك تقليدي لفيروس كورونا في منح المناعة للمصابين به – وهو أمر لمّا يتأكد بعد -، ناهيك عن العدد الهائل من الوفيّات الأكيدة بين كبار السن والأشخاص الذين يعانون مشاكل تنفسيّة أو مناعيّة، والذين هم عند صاحب السياسة مجرّد 2 في المائة من السكان يمكن تقبّل مبدأ فقدانهم!
كوتشارسكي يقول بأنّه لاحظ أثناء فترة تدريبيّة قضاها يعمل في بنك استثماري بلندن تصادف أنها كانت عام 2008 والأزمة الماليّة العالميّة وقتها، أن سلوك الهلع الذي يصيب الأسواق الماليّة ينتشر على نحو مطابق لنموذج انتشار الأوبئة. وهو يرى أن بنية شبكات المُستثمرين المتمحورة حول مراكز عصبيّة في بضع بنوك كبرى سهّل من انتشار سلوك الذّعر بينهم كما لو كانت مدارس عامة كبرى في حالة الوباء الفيروسيّ. وهكذا عندما تضعضع موقف بنك ليمان بروذرز، تسارع سقوط السوق من بعده؛ إذ إن البنك كان عقدة استثماريّة تمر خلالها أعمال أكثر من مليون جهة استثماريّة حول العالم.
ويسحب كوتشارسكي هذه المقاربة ليجعل من أي تعاط اجتماعي بين البشر سواء على - أرض الواقع أو في المجال السيبيري - خاضعاً للقواعد ذاتها. وهو يقول بأن انتشار المعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً بعشوائيّة دون ممارسة نوع من الرقابة على المحتوى يفتح الباب لانتشار وبائي الطابع للأخبار الكاذبة والأفكار «الضّارة»، وإن كان لا يقدّم الكثير لتحديد المعايير التي يمكن استخدامها لتحديد الأفكار الضارة من غير الضارة، أو الإشاعات من الحقائق؛ الأمر الذي يكشف عن خطورة هيمنة شركات محددة على إدارة تطبيقات التواصل الاجتماعي عالمياً، وقدرتها على فرض خياراتها على طبيعة ما يصل فعلاً للجمهور في جغرافيا معينة وما يشكل معارفهم وأفكارهم بشكل متزايد.
في عالم ما بعد «كورونا»، حيث الأوبئة والأخبار الكاذبة والآيديولوجيّات وأدوات العزل الفكري ما عادت مسائل محليّة ولا حتى مقتصرة على الخبراء المتخصصين، يقدّم كوتشارسكي للقارئ العادي صيغة غاية المُتعة لفهم أساسيات انتشار العدوى في إطار مزيج مشوّق من البيولوجيا والتاريخ والعلوم السلوكيّة والنمذجة العدديّة والرياضيّات والخبرات الشخصيّة. ولعلّ صدور كتابه عشيّة بدء الانتشار الوبائي لفيروس كورونا منعه من التسرّع في تقديم استنتاجات مبكّرة حوله كما يحدث عادة عند سعي بعض المؤلفين والناشرين إلى كسب موجة انفجار الاهتمام بالأحداث الجديدة، لكنّ «قواعد انتشار العدوى» مع ذلك دليل محكم مستند إلى خلاصات علميّة دقيقة لتفكيك الحدث الكوروني، واستيعاب الخطوط العريضة للأشياء التي قلبت عالمنا كلّه في وقت موجز حتى نكاد لا نعرفه.
قواعد العدوى: كيف تتفشى وكيف تتلاشى
The Rules of Contagion: Why Things Spread – and Why They Stop, Wellcome Collection
المؤلف: آدم كوتشارسكي
الناشر: ولكم كولكشن
2020


مقالات ذات صلة

تاريخ سوريا السياسي خلال مائة عام

كتب تاريخ سوريا السياسي خلال مائة عام

تاريخ سوريا السياسي خلال مائة عام

عن «مركز جسور للدراسات»، وهو مركز سوري أسسه ويديره محمد سرميني، ومقره الرئيسي في تركيا، صدر كتاب بعنوان «الأحزاب السياسية في سوريا 1924 - 2024»

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب «رقصة داكنة»... وقائع اختطاف «داعش» للموصل في رواية عراقية

«رقصة داكنة»... وقائع اختطاف «داعش» للموصل في رواية عراقية

تنطوي رواية «رقصة داكنة»، على تجربة شديدة الخصوصية، فقد كتبها مؤلفها محمد سيف المفتي بالنرويجية أولاً، ثم قام ترجمتها إلى العربية لاحقاً

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق صدر كتاب السيرة الذاتية للإعلامي اللبناني كميل منسّى بعد أشهر على وفاته (الشرق الأوسط)

كميل منسّى يختم نشرته الأخيرة ويمضي

رحل كميل منسى، أحد مؤسسي الإعلام التلفزيوني اللبناني قبل أشهر، فلم يسعفه الوقت ليحقق أمنية توقيع سيرته الذاتية. تسلّم ابنه الأمانة وأشرف على إصدار الكتاب.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة

منى أبو النصر (القاهرة)

التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

ديدرو
ديدرو
TT

التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

ديدرو
ديدرو

يعتقد الناس أحياناً أن التنوير مجرد ترف فكري خطر على بال بعض المثقفين الأوروبيين أن يخترعوه ويتسلوا به لكي يخرجوا من الدين على سبيل المشاكسة ليس إلا. بل ويتوهم البعض أنهم اخترعوه لكي يتفاخروا به على الآخرين: أنا تنويري وأنت غير تنويري إلخ... كل هذا شيء زهيد وسخيف. في الواقع إنه ظهر تلبية لحاجة تاريخية ملحة جداً وعاجلة. لقد كان علاجاً ناجعاً لمشاكل طائفية أو مذهبية مزقت المجتمعات الأوروبية على مدار القرون السابقة. ومعلوم أن فرنسا عانت من الحروب المذهبية ما عانته. كما وعانت من التعصب الأعمى الكاثوليكي على وجه الخصوص. فالأغلبية الكاثوليكية دمرت الأقلية البروتستانتية تدميراً بعد أن اتهمتها بالهرطقة والكفر والخروج على «صحيح الدين»، أي على المسيحية الصحيحة التي لا يمكن أن تكون إلا كاثوليكية، حسب وجهة نظرهم. كان الكاثوليك يعدّون أنفسهم آنذاك بمثابة الفرقة الناجية في المسيحية. هم وحدهم في الجنة وباقي الفرق في النار. ولهذا السبب حاولوا استئصال البروتستانتيين. يكفي أن نتذكر هنا مجزرة سانت بارتيليمي التي اندلعت في باريس يوم 24 أغسطس (آب) عام 1572: أي قبل خمسمائة سنة تقريباً. وقد اندلعت في العاصمة أولاً قبل أن تنتقل إلى الأقاليم البعيدة وكبريات المدن كبوردو وتولوز وليون وسواها. (بين قوسين يجمع المؤرخون على أنه ذهب ضحيتها ثلاثون ألف شخص. وهو رقم ضخم بالنسبة لذلك الزمان ويساوي الآن ثلاثمائة ألف شخص على الأقل).

جان جاك روسو

كان الهدف في البداية تصفية قادة الطائفة البروتستانتية وليس الشعب البروتستانتي ككل. وقد أمر الملك الكاثوليكي شارل التاسع بإيقاف المذبحة منذ اليوم الأول. ولكن عامة الشعب الهائجة المشحونة بالتعصب شحناً من قبل الأصوليين ورجال الدين لم تستمع لأوامره فذبحوا البروتستانتيين بشكل أعمى حيثما ثقفوهم أو وجدوهم. وهكذا خرجت الأمور عن حد السيطرة. ومعلوم أنه عندما يُطلق للغرائز الطائفية العنان فلا أحد يعرف أين تتوقف ولا كيف... لن تتوقف قبل أن يشبع الدم من الدم... وهذا أكبر دليل على أن الشعب كان أكثر تعصباً من قائده أو مليكه. إذ حتى الملك الكاثوليكي المبجل جداً عجز عن إيقاف الشعب الهائج!

عندما يتذكر الفرنسيون المعاصرون ذلك لا يكادون يصدقون ما حصل. والسبب هو أنه لم يعد هناك أي أثر للتعصب الطائفي في فرنسا الحداثية العلمانية المعاصرة. فالبروتستانتيون والكاثوليكيون أصبحوا جميعاً مواطنين درجة أولى ومتساوين في الحقوق والواجبات أمام دولة القانون والمؤسسات. لقد حلت العصبية الوطنية أو القومية الفرنسية كلياً محل العصبيات الطائفية الضيقة. وهذا معاكس لما يحصل في المشرق العربي حالياً حيث لا وجود تقريباً للعصبية الوطنية الجامعة، وإنما كل المحبة والتعصب للطائفة. والسبب هو أنه لم يظهر حتى الآن فكر تنويري في العالم العربي، فكر قادر على تفكيك العصبيات الطائفية الراسخة رسوخ الجبال كما فعل فلاسفة التنوير في فرنسا وعموم أوروبا. لم يظهر فولتير عربي ولا سبينوزا عربي ولا كانط عربي... إلخ. وما دام الأمر كذلك فسوف تستمر الطائفية في الهيمنة على عقول الناس، بخاصة عامة الشعب البسيط، بل وحتى قسم كبير من المثقفين أو أشباه المثقفين.

لقد أراد الحزب الكاثوليكي الأصولي الطائفي المتعصب جداً أن يفني البروتستانتيين ويستأصلهم عن بكرة أبيهم. وهي المجزرة التي صفق لها بابا روما آنذاك معتبراً إياها بمثابة الانتصار المبارك الميمون للإيمان الصحيح. قال بالحرف الواحد: الحمد لله اليوم انتصر الإيمان الحقيقي على الزندقة والكفر... وفور سماعه بالنبأ أمر بإقامة صلاة الشكر في جميع كنائس روما حيث قرعت الأجراس في كل مكان احتفالاً بالنصر. راح يرفع آيات الابتهال إلى الله تعالى لأنه أنقذ أرض فرنسا الكاثوليكية الطاهرة من رجس الهراطقة البروتستانتيين لعنهم الله!

لولا هذه المجازر، لولا هذا الجو المشحون بالتعصب الطائفي والمذهبي، لما ظهر فولتير ولا ديدرو ولا جان جاك روسو ولا الموسوعيون ولا كل فلاسفة الأنوار. لقد ظهروا كرد فعل على هذا الفهم الطائفي المتعصب والمرعب للدين المسيحي. وهو فهم أصولي يخلع المشروعية الإلهية على المجازر الطائفية بل ويعدّها تقرباً إلى الله تعالى. وبالتالي فهناك فهم طائفي للدين وفهم غير طائفي. هناك فهم آخر للدين ممكن غير فهم «الإخوان المسلمين» والخمينيين وبقية الظلاميين. هذا شيء لم يُستوعب بعد في العالم العربي بل ولا يخطر على البال. ولا أقصد بال الجماهير الأمية الغفيرة المعذورة، وإنما أقصد بال المثقفين أيضاً إلا من رحم ربك! ولكن المسيحية الأوروبية تجاوزته بسنوات ضوئية بفضل جهود فلاسفة الأنوار.

هذا التطور اللاهوتي الهائل، هذه الثورة الفكرية التنويرية، لم تحصل حتى الآن إلا في أوروبا والمسيحية الأوروبية. ولكن البابا الأسبق بقي أصولياً أحياناً على الرغم من علمه الغزير. والدليل على ذلك أنه كان يعدُّ البروتستانتيين وربما الأرثوذكس مسيحيين بشكل ناقص لا بشكل كامل على عكس الكاثوليكيين. بمعنى آخر، فإنه ظل يعتقد في قرارة نفسه أن الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية هي المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني الذي يمثل الأكثرية أو الأغلبية العددية. هذا لا يعني أنه ظل يكفر المذاهب المسيحية الأخرى غير الكاثوليكية، كما كان يفعل أسلافه في القرون الماضية. لا، أبداً. لكنه يعني أنه لم يتخلص كلياً من رواسب العصور الوسطى ولاهوتها القديم على عكس المفكر الكاثوليكي التحريري الرائع هانز كونغ.

التنوير العربي سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة


وهل تعتقدون أنه لولا حرب الثلاثين عاماً التي اجتاحت ألمانيا وكل أوروبا كان سيظهر لايبنتز وليسنغ وكانط وفيخته وهيغل وبقية التنويريين الألمان العظام؟ ثلث سكان ألمانيا قتلوا في تلك الحرب الطائفية الرهيبة التي جرت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين. لهذا السبب قرر فلاسفة التنوير الاشتباك مع الإخوان المسيحيين وتفكيك تفسيرهم الانغلاقي والطائفي المتعصب للدين المسيحي. لهذا السبب قرروا تفكيك فتاواهم الدينية اللاهوتية القاتلة أو التي تخلع المشروعية «الإلهية» على القتل والذبح. وهي الفتاوى ذاتها التي لا تزال تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية حتى اللحظة.

لا يمكن أن نفهم ملحمة الحداثة وصعودها الصاروخي في أوروبا إن لم نأخذ كل هذه الحقائق بعين الاعتبار. أحياناً يقول بعض المثقفين العرب: يا أخي ما علاقتنا بالتنوير؟ ما حاجتنا إليه؟ يا أخي التنوير ظهر في أوروبا إبان القرن الثامن عشر قبل 200 سنة فهل تريدون إعادتنا إلى الوراء مدة قرنين أو أكثر؟ هل نحن بحاجة إلى تيار فكري مضى وانتهى؟ عندما يقولون ذلك فإنهم يرتكبون مغالطة رديئة أو سفسطة مجانية ليس إلا. إنهم يريدون قطع الطريق على التنوير، ومنع حصوله في العالم العربي والإسلامي ككل. وهذا يعني إدامة العصر الطائفي إلى ما لا نهاية. وهم بذلك متواطئون ضمناً مع «الإخوان المسلمين» وبقية الرجعيين ولكنهم لا يتجرأون على التصريح بذلك علناً مخافة أن يقال عنهم إنهم ضد الحداثة والعصر والتطور. ونحن نسألهم: التنوير مضى وانتهى بالنسبة لمن؟ هل مضى وانتهى بالنسبة للشعوب الأفغانية الطالبانية والعربية والتركية والإيرانية والباكستانية، أم مضى بالنسبة للشعب الفرنسي والألماني والإنجليزي وبقية الشعوب الأوروبية المتطورة التي لم تعد تعاني من أي مشكلة طائفية أو مذهبية؟ هذا السؤال كافٍ لإفحامهم وتبيان خطأ موقفهم ومغالطاتهم ومكابراتهم. ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج شيئاً واحداً: وهو أن التنوير لا يزال أمام المثقفين العرب لا خلفهم على عكس المثقفين الأوروبيين. نستنتج أننا لن نستطيع الإفلات من استحقاق التنوير مهما حاولنا أو فعلنا. نستنتج أن هناك تفاوتاً تاريخياً كبيراً بين المجتمعات المسيحية الغربية والمجتمعات الإسلامية عربية كانت أم غير عربية. نستنتج أن التنوير العربي قادم لا ريب فيه. لكنه لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي وإنما ستكون له فرادته وعبقريته الخاصة. لن يؤدي إلى الإلحاد المطلق، كما حصل في الغرب، وإنما سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة.