كيف نخرج من هذا الثقب الأسود؟

عالم تحاصره أخطار الخوف وحيرة الحاضر وقلق المستقبل

كيف نخرج من هذا الثقب الأسود؟
TT

كيف نخرج من هذا الثقب الأسود؟

كيف نخرج من هذا الثقب الأسود؟

كيف نضمن الوصول الآمن إلى عالم مستقر متضامن؟ وهل سيحدث هذا بمعزل عن اختيارات الأطراف الأخرى من العالم وخصوصياتها وتعقيداتها؟

صدرت أخيراً عن دار «توبقال» للنشر بالمغرب ترجمة لكتاب «الخروج من الثقب الأسود: الإنسية القانونية كبوصلة»، للأكاديمية الفرنسية ميراي ديلماس مارتي، قام بها الباحث المغربي عزالدين الخطابي، تحت عنوان «إنسية متعددة»، حاملاً عبرها مضامين هذا الكتاب الفلسفي إلى القارئ العربي بأسلوب رشيق ممتع.
ترى مارتي، كغيرها من الإنسيين المنحازين لسمو فكرة القيم والمبادئ الكونية، أنّ العالم بات غارقاً حقاً في ثقب أسود، تعصف فيه الرياح بالأحلام العامة للبشر، وتحاصره أخطار الخوف وحيرة الحاضر، وتحلق فوق آفاق سمائه غيومُ المستقبل القلق. ومع السعي المتواصل إلى الخروج من هذه الورطة الوجودية، يطرح العالم مزيداً من الأسئلة الشاحبة حول كيفية الخلاص، وطبيعة تلك البوصلة العظيمة التي قد تقوده اتجاهاتها إلى ضفاف النور والنظام والقانون. فهل يتعلق الأمر ببوصلة قانونية صرفة؟ إذا كان الأمر كذلك، فأي نوع من القانون سيفي بالغرض؟ وهل يكفي تمركُز القواعد القانونية في جهات بعينها كي يستقيم التوازن؟ وهل تصحّ التمثّلات العامة لمفهوم الإنسية في قلب العالم «المتحضّر» كي نضمن الوصول الآمن إلى عالم مستقر متضامن؟ ثم هل سيحدث كل هذا بمعزل عن اختيارات الأطراف الأخرى من العالم، وخصوصياتها وتعقيداتها، وبمعزل كذلك عن الرياح الأخرى الآتية من معطيات البيئة والاقتصاد والديناميات الديموغرافية والثقافية المتسارعة المتباينة؟
تقول مارتي إن الإنسيّة، في مفهومها العام، تبدأ من الأسطورة، وتنتقل بعد ذلك إلى اليوتوبيا، ومن اليوتوبيا إلى حكايات الاستباق المبنية على عوالم المُتَخَيَّل والقادم، وبين كل هذه التحولات السياقية العميقة تبرز تعقيدات كل مرحلة على حدة، لكن الخيط الجامع بين كل هذه العناصر يبقى هو السعي الصادق نحو الخلاص العام عند مفترق طرق العوالم، هناك حيث تصبح الحاجة ملحة أكثر لابتكار بوصلة بحجم الإنسية القانونية كي يتجسد هذا الخلاص واقعاً، لا خيالاً فقط.
الكونية في حقوق الإنسان، كما أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ليست بعيدة عن الطابع الإشكالي، فهي بشكل من الأشكال تعكس رؤية الأطراف المتحكمة التي صاغت محاورها وتفاصيلها العامة والخاصة. البلدان الأوروبية، مثلاً، استعملت هذه الكونية حجة كي تمرر رؤيتها الوطنية، وتفرضها بعد ذلك على المستعمرات، وهو نفسه ما فعلته الولايات المتحدة عبر تدخلاتها المستمرة في شؤون البلدان الأخرى، باسم كونية حقوق الإنسان، لكن هذا التوظيف السياسي السيئ، على ما فيه من تجاوزات، لا ينفي بأي حال من الأحوال الحاجة الماسة المستمرة، بل المتزايدة، لتعميم هذا المبدأ الكوني لحقوق الإنسان، وتكريسه في العالم القوي والضعيف، لعله بذلك يخفف شيئاً ما من حدة هذا الاحتقان والنزوع إلى الشر والشعور المُربِك بالخطر الذي بات اليوم يجتاح كل أروقة عالمنا المعيش في سياقات مختلفة.
لقد شكلت العودة إلى النصوص الرومانية القديمة محور العبور إلى الإنسية القانونية كأسطورة، فعصر النهضة الأوروبي شجع كثيراً على هذه العودة القرائية إلى القانون الروماني، إنها عودة مشوبة بالتناقضات، بين قانون روماني مبني على الفكر العقلاني من جهة، وبين عقل إنساني طامح إلى الكونية الشاسعة من جهة أخرى. هذه العودة النموذجية إلى المربع الروماني الأول، حيث تولد الأسطورة، لم تحدث أثراً كبيراً على مستوى الواقع، لكنها في الوقت نفسه طبَعَت على الدوام صفحات الفكر القانوني الغربي، لا سيما القانون الدولي الذي تهيمن عليه الرؤية الغربية بشكل واضح. ولعل أكبر مشكل يواجه هذا النوع من الإنسية القانونية، كما يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فيلاي، هو افتقار المتعاملين معها إلى الحس التاريخي، وقيامهم بنزع القانون الروماني من سياقاته التاريخية، والحلم بقانون روماني ثابت كوني لا يتغير؛ إنها فرضية قائمة على مبادئ العقل اللازمني.
الأساطير تموت عادة، وتولد بعدها اليوتوبيات، تتساءل صاحبة الكتاب لماذا؟ ثم تقف عند جواب السوسيولوجي الفرنسي الشهير ريمون أرون الذي يرى أن الأسطورة تموت في الغالب بعد فقدانها لمصداقيتها. إنها تموت، لكنه ليس موتاً نهائياً على الأرجح، فاستخدام الأساطير من جديد لغايات الشرعية التاريخية يمكن له أن يأخذ صورتين تعيدان حضوره في هيئة مختلفة: الصورة الأولى استعادية تهدف إلى تأسيس نظام تقليدي فوق ماضٍ بعيد؛ أما الصورة الأخرى فتأتي استشرافية كي تجعل هذا الماضي مدخلاً لمستقبل يشرع في الارتسام.
تتحدث مارتي أيضاً عما سمته «الحكايات»؛ إنها ببساطة حكايات الاستباق التي تقدم سيناريوهات من الواقع ترسم مستقبل العالم، وتقول باختصار: إن للإنسانية مصيراً مشتركاً. هي حكايات لا تقترح يوتوبيا، لأنها تعكس وقائع ملاحظة سلفاً في العالم الملموس، وهي كذلك لا تقترح أسطورة جديدة تفترض نسقاً ما للتفكير في شؤون العالم. وقد تكون المؤسسات السياسية والاقتصادية ذات البعد العالمي، وكل نقط الجمع والالتقاء، عناصر حقيقية من شأنها أن تعكس شيئاً من حالة هذا الاستباق الإنساني، فالأرض مثلاً هي أم لكل البشر، لذا فإن التغيرات المناخية تولّد لنا حكايات كارثية تصيب كل البشر بالضرورة. وفي هذا الاتجاه، تتطرق مارتي أيضاً إلى الإمبراطورية العالمية، بصفتها فكرة لحكاية من حكايات الاستباق، والشيء نفسه يُقال عن البرنامج الاقتصادي (كل السوق) والبرنامج الرقمي (الكل رقمي)، هذا العالم إذن هو حكاية تروي عن مغامرة العالمية التي يخوضها الإنسان بشغف وتحدٍّ، مغامرة لا نهائية تجمع بشراً مختلفين، لكن أيضاً مترابطين متضامنين.


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».