في كل شارع من شوارعها لي قصة هناك، فهنا سكنت وهنا سهرت وهناك كنت في مناسبة، وبعد ذلك هناك تسوّقت واقتنيت الكتب، وعشرات الممارسات اليومية التي يمكن أن يمارسها الإنسان في حياته اليومية.
فمن الرويس التي حضنتنا نحن القادمين من الشمال، بدأت خطواتنا الأولى، وفي جزيرة أبو عشت طفولة مبكرة وبحرية تماماً، وفي الخاسكية كانت المحطة الأولى لي مع الكتب ودواوين درويش والسيّاب و«موسم الهجرة إلى الشمال» والطيب صالح.
أما في باب مكة فكانت محطة التسوّق الأولى لنا، حيث نتزود بمؤونة الصيف والشتاء من هذا المكان الذي في استديوهاته التقطنا صورنا المدرسية الأولى وفي صالوناته قصصنا شعورنا المتطايرة مع هبوب الشمال.
وإذا كانت لكل مدينة هوية خاصة بها، هوية تمزج فيها عراقة المكان بهوية الجغرافيا، ويتقاطع هذا النسيج المشترك مع ملامح شخصية إنسانها، فهناك مدن كتب لها أن تكون مدناً للحياة، حاضنة لها ومحرضة عليها. مدن رحبة لا تكتفي باحتضان أبنائها، بل تشرع روحها لكل القادمين إليها، وكأنها خلقت لناسها وزوارها على السواء. مدن تفتح ذراعيها للغريب، فيجد نفسه، مهما كانت المدينة أو البيئة التي جاء منها، متصالحاً معها وكأنه ولد وترعرع فيها. إلا أن جدة من هذه المدن التي عانقت البحر بحميمية الأم على مدى آلاف السنين، جعلتها الأسطورة مأوى لأم البشر السيّدة حواء؛ لذلك يحتضن قلب المدينة مقبرة قديمة جداً جداً تسمى مقبرة أمنا حوّاء، لم تتجاوز الكتابة عنها سرداً لحكايات رواها الناس عبر مئات السنين وسجلتها الكتب على هذا الأساس الذي يحيّر أكثر العقول على فك شيفرة هذا اللغز وسر وجودها هنا.
فيها كتب الأديب محمد حسن عواد كتابه الرائد «خواطر مصرحة» الذي يعتبر بكل المقاييس السفر الأول في مسيرة الحداثة السعودية، إبداعياً وفكرياً واجتماعياً.
وفيها تجلّى صوت الأرض طلاح مداح فنزف أجمل أغانيه على ضفاف سواحلها وبين ساحات حاراتها، وأكمل بعده فنّان العرب محمد عبده هذه المسيرة الجمالية التي استلهمت من عمق إرث التراث والغناء في جدة فضاءات لا حد لها، حيث تتحالف كل الثقافات المتولدة في جدة، والقادمة إليها، لتقديم لوحات يمتزج فيها المزمار مع الزار، والرديح مع الخبيتي، وتتباهى مثل كل مدن سواحل البحر بإيقاع السمسمية على مواويل الينبعاوي.
جدة التي تتباهى بالاتحاد رمزها الأول مع غريمه الأهلي، تتحول ملاعب الكرة فيها إلى أكبر حفلة غنائية للفرح والأناشيد.
جدة مدينة شبه خرافية تجد فيها العراقة تمشي على قدمين في حاراتها القديمة، حيث مركاز العمدة، والمقاهي القديمة والرواشين التي تطل على الحاضر من ماضٍ بعيد، مثلما في أحيائها الجديدة المستقبل حاضر الآن في المقاهي الجديدة والمطاعم العالمية والكورنيش الذي يحتضن أهم إبداعات النحاتين ألبرتو جياكوميتي وهنري مور، وغيرهما.
لكن جدة اليوم ليست جدة الأمس ولا الغد، إنها مثل مدن العالم محاصرة بخطر فيروس كورونا الذي غيّر عادات أهلها الذين اعتادوا على السهر والليل الطويل، فخطر التجمعات الذي يعتبر المحفز الأول لانتشار الفيروس والتعليمات بمنع التجول بعد السابعة جعل المدينة تنزوي على نفسها حماية لأهلها وزوارها من هذا الخطر الداهم الذي يهدد البشرية جمعاء وليس مدينة أو دولة عن سواها.
وإذا كان رعب فيروس كورونا أنه فيروس عالمي، فإن رعب أهالي جدة له جذور ضاربة في الجذور بسبب موقعها الجغرافي الفريد. فهي ليست ميناءً اقتصادياً فقط، بل هي بوابة الحرمين الشريفين اللذين يقصدهما ملايين البشر منذ مئات العقود، ومن كل قارات العالم.
ويروي الباحث ضياء عنقاوي أنه في عام 1348هـ، حدث وباء شديد في مكة المكرمة، أدى لوقوع ضحايا كثيرين، ولكن تأثيره الأفدح كان على جدة، حيث لم يبق فيها سوى 4 أشخاص على قيد الحياة، وإذا حدث هذا قبل عشرات السنين فإنه قبل سنوات داهم جدة فيروس «ميرس» النسخة القديمة من فيروس «كورونا».
لكن مهما مرت الأوبئة والفيروسات بها، فإن جدة سرعان ما تتعافى وتستعيد حيويتها؛ لأنها مدينة خلقت للحياة والفن والجمال.
فهي الآن، وإن كانت ملتزمة مثل مدن المملكة بوقف التجول منذ السابعة مساءً، إلا أن الحياة سرعان ما تدب فيها صباحاً من حلقة السمك إلى باعة الفول والتميس، مروراً بكل محطات الحياة فيها. جدة مدينة للحياة ولا يمكن أبداً أن ترتهن للعزلة طويلًا وستعود لتكون المكان الأجمل الذي يحتوينا.
* كاتب سعودي