حتى الساعات الأخيرة، كان همّ الدبلوماسية الفرنسية موجهاً نحو أمرين رئيسيين. الأول، استعادة 132 ألف فرنسي موجودين خارج البلاد، إن كان بصفتهم مقيمين أو رجال أعمال أو سائحين. وهذه المهمة شارفت على نهاياتها. والثاني، توفير وسائل الوقاية من وباء «كورونا» وأجهزة التنفس الاصطناعي والمضادات الحيوية والأدوية الضرورية للقطاع الصحي، والكثير منها يأتي من الخارج، وخصوصاً من الصين. إلا أن باريس وتحديداً رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، رغم انهماكه بالوضع الداخلي، يريد أن يبقى حاضراً على الجبهة الخارجية. وينصبّ اهتمامه على ثلاثة ملفات رئيسية مترابطة فيما بينها، هي دور مجلس الأمن في محاربة الوباء، وتعبئة الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً على الصعيد المالي، وأخيراً الالتفات إلى أوضاع أفريقيا.
خلال الأسبوع الماضي، لمح ماكرون عقب اتصال هاتفي بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى «إطلاق مبادرة مهمة» لتعزيز محاربة فيروس «كورونا»، من غير الإفصاح عن مزيد من التفاصيل. وأول من أمس، وعقب اتصال جديد مع ترمب، فهم من مصادر قصر الإليزيه أن الرئيسين يعملان على تنظيم اجتماع على مستوى القمة يضم فقط رؤساء دول وحكومات الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، من أجل التنسيق فيما بينهم لمبادرة دولية. وأفادت هذه المصادر أيضاً بأن ماكرون اتصل بنظرائه الأربعة للحصول على موافقتهم. وما يدفعه إلى تفعيل آلية مختصرة أن مجلس الأمن «مشلول» بسبب التوتر القائم بين واشنطن وبكين بسبب الاتهامات الأميركية للصين بأنها أخفت حقيقة الوباء عن العالم، واعتمدت سياسة بعيدة عن الشفافية.
وما يسعى إليه ماكرون أيضاً هو تعبئة «الخمس الكبار» من أجل محاربة الوباء في مناطق النزاع عبر العالم، أكان ذلك في سوريا أو أفريقيا أو غيرها، وتوفير الدعم للمبادرة التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في هذا الصدد.
بيد أن مصادر دبلوماسية في باريس تشير إلى أن الانقسامات داخل مجلس الأمن التي تضع الصين وروسيا في مواجهة الآخرين لن تمحى في إطار مجموعة الدول الخمس دائمة العضوية، ومن بينها روسيا والصين، وبالتالي فإن التجاذبات ستبقى على حالها. يضاف إلى ذلك الانقسام العمودي القائم داخل المجموعة لجهة رفع أو تخفيف العقوبات، خصوصاً الأميركية، على عدد من الدول لتمكينها من مواجهة الوباء. وتحتل إيران رأس اللائحة. وفيما تسعى بريطانيا وفرنسا وألمانيا لمساعدة طهران عن طريق «آلية إنستكس» لتمكينها من الاستحصال على الأجهزة والمعدات والأدوية لمواجهة فيروس «كورونا»، تبدو واشنطن، حتى اليوم، منغلقة رغم تأكيداتها بأنها لا تفرض حظراً على هذه المعدات.
أمس، نقلت «وكالة الصحافة الفرنسية» عن مسؤولين في قصر الإليزيه قولهم إن قمة من هذا النوع، في حال حصولها، ستكون «استثنائية» و«الأولى من نوعها»، إذ إن الخمس الكبار لم يجتمعوا قطّ بهذه الصيغة لمواجهة أزمة من الأزمات. ويريد ماكرون، إلى ذلك، الدفع باتجاه قرار في مجلس الأمن الذي يجتمع أعضاؤه الحاليين عن بُعد بسبب الوباء، يدعو إلى «وقف شامل وعالمي لإطلاق النار»، في مناطق النزاع، ومن أجل توفير الوصول إلى المدنيين لغرض تجنب تفشي الوباء. وبحسب باريس، فإن «قمة الخمس»، ولو عن بُعد، من شأنها التغلب على الانقسامات وتسهيل عمل مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة الذي وجّه مؤخراً، نداء لوقف النار في كل مناطق النزاع.
تريد باريس، وفق قراءتها، الاهتمام بأفريقيا، نظراً لما تعتبره من فقدان الوسائل الكافية لمواجهة الوباء في بلدانها. وحتى اليوم، ما زالت البلدان الأفريقية باستثناء عدد قليل منها، بعيدة عن الموجة الجارفة التي تسقط آلاف الضحايا في المناطق الأخرى. وفي هذا السياق، فقد بادر الرئيس ماكرون إلى تنظيم قمة عن بُعد، أول من أمس، مع عشرة من القادة الفارقة «بينهم قادة جنوب أفريقيا ومصر وإثيوبيا...». وأفادت الرئاسة الفرنسية بأن باريس أرادت أن تناقش مع الجانب الأفريقي المسائل الصحية والتبعات الاقتصادية للفيروس. وفي هذا السياق، تم التوافق بين باريس والعواصم الأفريقية على إلغاء القمة الفرنسية - الأفريقية التي كانت مقررة في شهر يونيو (حزيران) المقبل، في مدينة بوو بسبب تفشي الوباء. وتتخوف باريس من التبعات الصحية والأمنية والاقتصادية والغذائية للوباء في حال تفشيه على نطاق واسع، خصوصاً بالنسبة للبلدان الهشة التي تعاني من كثير من الصعوبات، ومنها بلدان الساحل.
يبقى الملف الأوروبي، حيث تشكو باريس من ضعف التنسيق بين أعضاء الاتحاد، وخصوصاً من غياب التضامن مع البلدان الأكثر تعرضاً للوباء، وعلى رأسها إيطاليا وإسبانيا. ويظهر ذلك في رفض هولندا وألمانيا ودول أخرى في شمال أوروبا لطلب تمكين الدول المحتاجة من الاستدانة وفق شروط مسهّلة عبر إصدار سندات «كورونا بوندز».
ووقفت باريس ومعها بلجيكا واليونان والبرتغال وقبرص إلى جانب روما ومدريد، للضغط على ألمانيا بالدرجة الأولى من أجل تغيير أو على الأقل تليين موقفها. وأرادت فرنسا، بحكم علاقتها الخاصة مع ألمانيا، أن تكون الجهة التي تحمل برلين على الاستجابة. إلا أن وزير الاقتصاد الألماني قطع الطريق على الاستدانة الجماعية مفضلاً عليها الاستفادة من «آلية الاستقرار الأوروبية» المالية، التي تمكّن الدول الراغبة من الاستفادة من هذا الصندوق. ووعد أولاف شولز بالامتناع عن ربط تقديم القروض بإصلاحات اقتصادية والتساهل في الشروط المطلوبة مع البلدان المحتاجة للمساعدة. وأبعد من ذلك، فإن باريس تريد أن ينكبّ الاتحاد على مرحلة ما بعد فيروس «كورونا»، من أجل احتواء الكساد، وإعادة إطلاق اقتصاد شبه المتوقف في الوقت الحاضر.
«كوفيد ـ 19» يهيمن على أولويات باريس الدبلوماسية
تعمل على 3 ملفات تشمل قمة الخمس الكبار والتضامن الأوروبي
«كوفيد ـ 19» يهيمن على أولويات باريس الدبلوماسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة