أبحاث لتحويل الأشجار إلى مولدات كهرباء

مشروعات دولية لإنتاج طاقة الاحتكاك

أبحاث «كهرباء الاحتكاك» جارية على شجرة الدردار
أبحاث «كهرباء الاحتكاك» جارية على شجرة الدردار
TT

أبحاث لتحويل الأشجار إلى مولدات كهرباء

أبحاث «كهرباء الاحتكاك» جارية على شجرة الدردار
أبحاث «كهرباء الاحتكاك» جارية على شجرة الدردار

ما الذي سيحصل إذا أصبحت الأشجار قادرة على توليد الكهرباء في المدن؟ ببساطة، سيختفي تشابك خطوط الطاقة، والألواح الشمسية المتقادمة، والتوربينات الهوائية القاتلة للطيور، لتحل محلها أشجار جميلة وبساتين خضراء، تعمل أيضاً كمولدات للطاقة النظيفة.

«كهرباء الاحتكاك»
لم تعد هذه الفكرة السوريالية الرائعة بعيدة عن التحقيق، بحسب فريق يضم باحثين من اليابان، والصين، وإيطاليا يعملون اليوم على حصاد طاقة كهربائية قابلة للاستخدام من النباتات، من خلال اختبار تأثير «كهرباء الاحتكاك» على أوراق الأشجار. وتحدث هذه الظاهرة عند انفصال مواد معينة كانت تحتك بعضها ببعض، على غرار طريقة توليد الكهرباء المستقرة. وقد تبدو هذه الظاهرة مثيرة للاهتمام، ولكن طلاب جامعة «كيئو» في طوكيو ما زالوا يدرسون الآثار الأخلاقية المترتبة على تقنية بهذه القوة.
قدمت المصممة الكولومبية الأميركية كاتالينا لوتيرو المشاركة في هذا الفريق، شرحاً لهذا العمل في مؤتمر «ديزاين إندابا 2020» (Design Indaba 2020)، الذي أقيم أخيراً في مدينة كيب تاون. وتقول لوتيرو إن أوراق الأشجار ذات الشحنة الموجبة تنتج كميات قليلة من الكهرباء عندما تحتك بجذع الشجرة أو أي مادة أخرى سالبة الشحنة. واليوم، يعمل الفريق البحثي على استخدام هذه الطاقة في «شبكة حيوية دقيقة» سماها الباحثون «رايكي» (Raiki). ويتخيل الباحثون أن تستخدم هذه التقنية في المستقبل بديلاً لإنتاج الطاقة في المجتمعات المحرومة التي لا تزال تعتمد على الشبكات التقليدية.
ولتحويل الأشجار إلى مولدات كهرباء فعالة، طبقت لوتيرو وزملاؤها تقنيات علم الأحياء التركيبي، أو ما يُعرف بالهندسة الجينية، على شجرة الدردار. وعمل الباحثون على تعديل تركيبة الفرع، وزيادة سماكة وكثافة الأوراق، وأضافوا جينية طاردة للأمراض، وسرَّعوا وتيرة نمو الشجرة. وتعتمد خطتهم نظرياً على جمع الطاقة من الأوراق، وتوصيلها بواسطة الجذع نحو أنبوب وبطارية تحت الأرض، لتخزين ما يقارب 103 كيلوواطات في الساعة. وفي مرحلة ما من مشروعهم، فكر الباحثون في تجربة وضع تصميم جديد لعدة أنواع من الأشجار لزيادة فعاليتها. وتقول لوتيرو إنهم لم يفهموا حقاً طريقة عمل الهندسة البيولوجية، لذا كانت فكرتهم الأولى تعتمد على صناعة شجرة كتلك التي تظهر في فيلم «أفاتار» (في إشارة منها إلى الأشجار العالية ذات الجذوع الدائرية الظاهرة في أعمال المخرج جيمس كاميرون). كما عمدوا إلى التفكير في تطوير أشكال أشجار غريبة، وجدوها في موسوعة المصمم الإيطالي لويجي سيرافيني، بالإضافة إلى شجرة الصفصاف الشهيرة في لعبة «أدفانتشر تايم» الإلكترونية. وأخيراً، لاحظ الباحثون أن أفضل أشكال الأشجار لتخزين وتوليد الطاقة موجودة أصلاً في الطبيعة. لا يزال هذا المشروع الذي يتلقى دعمه المالي من شركة «طوكيو غاز»، في مراحله الأولى، إلا أن فكرته الأساسية مذهلة. إذ تقدم إمكانية تسخير الطاقة الناتجة عن أوراق الأشجار بديلاً للوقود الأحفوري، وحلاً للخراب الناتج عن ضعف هندسة البنى التحتية المخصصة للتقنيات الخضراء.
تزعم لوتيرو أن «الشجرة المكتملة النمو قادرة على تأمين طاقة تكفي سبعة منازل أميركية، مع العلم بأن الأميركيين يستهلكون كثيراً من الطاقة».

الطاقة والأخلاقيات
تدفع الفرق البحثية وبقوة نحو تحويل الأشجار المكهربة إلى حقيقة، ولكن توفير تقنية تجارية فعالة كهذه سيحتاج إلى عقود، لا سيما أن التطبيق الفعلي لهذه التقنية يعتمد على دورة النمو الطبيعي لأشجار الدردار التي تتطلب 40 عاماً.
من جهة أخرى، تعكف لوتيرو وزملاؤها على دراسة الآثار الأخلاقية لطموحاتهم، حتى أنهم بدأوا في وضع تصور للتأثير السلبي لـ«رايكي» على التنوع الزراعي إذا نجحت التقنية. هذه المخاوف دفعت لوتيرو إلى طرح عدد من الأسئلة: «ماذا سيحصل إذا تحمس الناس للتقنية، وبدأوا بإزالة المحاصيل، وأشجار الفاكهة، وغيرها من الأنواع الخضراء؟ ماذا سيحل بالحياة البرية؟ وهل تعتبر فكرة التعديل الجيني لكائن حي وكأنه منتج جامد أخلاقية؟». ويبدو أن لوتيرو وزملاءها سيخصصون حيزاً ضمن مشروعهم لوضع خطة مستقبلية تراعي هذه الأسئلة.
بشكل عام، نادراً ما يدخل العلماء زراً لوقف العمل في مشروعاتهم، ولكن هذا الزر ضروري جداً إذا كان المصممون ينوون السيطرة على النتائج غير المشكورة لعملهم.
شكَّلت فكرة مواجهة الجانب غير الواضح من التصاميم العلمية، الموضوع الأساسي لمبادرة أطلقها متحف الفن الحديث (نيويورك) عام 2015، تحت عنوان «التصميم والعنف» تحت إشراف باولا أنتونيلِّي التي كتبت ما يلي: «يحتاج التصميم إلى مراجعة دقيقة للحقيقة. يجمع المطورون والمصممون في جميع الصناعات من المباني والملابس إلى آلات التحميص والملصقات والمدن، على الاحتفال بسذاجة بالتأثير الإيجابي لأعمالهم الفنية على تجاربنا اليومية. ولكن التصاميم تخفي تاريخاً من العنف أيضاً لا تتم ملاحظته عادة، إلا في حال كان مرتبطاً بالقمع السياسي والاجتماعي أو بالثورات».
تلجأ شركات التقنية اليوم وبشكل متزايد إلى العلماء والجهات المتخصصة في الجوانب الأخلاقية، لدراسة آثار منتجاتهم المدعومة بالذكاء الصناعي قبل أن يطلقوها. يُعد مختبر «النتائج غير المقصودة للتقنية» (Unintended Consequences of Technology lab) في سان فرنسيسكو منصة من المنصات القليلة جداً التي يمكن للشركات الناشئة الاستعانة بها لحل الصراع المرتبط بآثار أفكارها في المراحل المبكرة قبل إطلاق منتجاتها.
في مقابلة لها مع موقع «كوارتز»، اعتبرت لوتيرو أن من المفيد العمل مع ممول تجاري يتقبل النجاحات والإخفاقات التي قد يمر بها أي ابتكار، وأنها وفريقها لم يشعروا بأي ضغوط من شركة «طوكيو غاز» لجهة تسريع تطوير «رايكي»؛ بل على العكس، أُتيح لهم تقديم التقارير وورش العمل حول المشروع.
وتضيف: «أعتقد أننا كمصممين، وباحثين، ومهندسي عمارة، وعلماء يعملون اليوم في صناعة المستقبل، علينا أن نخصص وقتاً لدراسة أسوأ السيناريوهات التي قد تحصل في كل مشروع»؛ مشيرة إلى أن دراسة كافة تأثيرات علم الأحياء التركيبي، تشكل جزءاً مهماً من هدفهم.
وأخيراً، تختم لوتيرو قائلة إن «هذه الدراسة مهمة جداً، لا سيما اليوم ونحن بحاجة ماسة لحلول تنقذ الكوكب».
- «كوارتز» - خدمات «تريبيون ميديا»



الصعود الخطير للعلاج النفسي بتقنية الذكاء الاصطناعي

الصعود الخطير للعلاج النفسي بتقنية الذكاء الاصطناعي
TT

الصعود الخطير للعلاج النفسي بتقنية الذكاء الاصطناعي

الصعود الخطير للعلاج النفسي بتقنية الذكاء الاصطناعي

أدى الانتشار السريع لـ«الذكاء الاصطناعي المتعاطف»، ومنصات الصحة النفسية الرقمية إلى ظهور سردية جذابة: وكلاء محادثة متاحون دائماً، لا يصدرون أحكاماً، وقادرون على القيام بدور المعالجين النفسيين.

خطر الوعود الزائفة

تعد هذه الأدوات بتقديم الدعم دون قوائم انتظار، أو فواتير، أو قيود بشرية. إلا أن خطراً جسيماً يكمن وراء جاذبيتها. تجادل المقالة بأن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه محاكاة الرعاية العلاجية الحقيقية، وأن استخدامه المتزايد بوصف أنه رفيق نفسي ليس مضللاً فحسب، بل إنه خطير أيضاً.

الفرق بين العلاج الحقيقي والاصطناعي

يتمثل أحد الشواغل الرئيسة في الفرق بين العلاج الحقيقي وما تقدمه أنظمة الذكاء الاصطناعي التفاعلية.

المعالجون النفسيون البشريون يتحدون الافتراضات، ويحددون التشوهات المعرفية، ويطرحون على المرضى وسائل مماحكة ضرورية تساعد المرضى على مواجهة الحقائق الصعبة.

في المقابل، تُبنى روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي على «التقارب» الخوارزمي: فهي تتكيف مع نبرة المستخدم، ومزاجه، ومعتقداته، للحفاظ على التفاعل. يؤدي هذا التصميم إلى تعزيز التشوهات العاطفية للمستخدم بدلاً من تحديها. ويمكن أن يؤدي هذا التعزيز إلى نتائج ضارة، أو حتى مأساوية.

محاباة المستخدم

في دعوى قضائية رفعتها عائلة من كاليفورنيا تزعم أن برنامج «تشات جي بي تي» ساهم في ظهور أفكار انتحارية لدى مراهق من خلال ترديد أفكاره التشاؤمية، ومساعدته في كتابة رسالة انتحار. وقد أظهرت أبحاث أخرى أن نماذج اللغة تقدم اقتراحات حول أساليب إيذاء النفس عند التعرض لضيق عاطفي. هذه الإخفاقات ليست تعبيراً عن نية حقيقية، بل هي انعكاسات لنظام مُحسَّن للموافقة، والمحاكاة، والحفاظ على الألفة بدلاً من ممارسة التدخل الصحي الحقيقي.

وهم التعاطف الاصطناعي بلا مسؤولية أخلاقية

يكشف هذا الواقع أيضاً عن وهم التعاطف الكامن في صميم هذه الأدوات. فنماذج اللغة الكبيرة ليست من المستمعين الواعين؛ إذ إنها محركات إحصائية مُدرَّبة على محاكاة أنماط التواصل البشري. قد تبدو نبرتها حنونة، أو داعمة، لكن «التعاطف» الناتج عنها هو محاكاة تفتقر إلى التاريخ العاطفي، والوعي الذاتي، والمسؤولية الأخلاقية. ومع ذلك، غالباً ما يُكوِّن المستخدمون روابط عاطفية سريعة مع هذه الأنظمة، ويُضفون عليها صفات بشرية لا تمتلكها. يمكن أن تؤدي هذه الألفة المصطنعة إلى اعتمادهم عليها، خاصة بين الأفراد المعزولين، أو الضعفاء.

الاستغلال لأغراض تجارية

يُشكّل استغلال هذه العلاقة الحميمة لأغراض تجارية خطراً أخلاقياً أعمق. فعندما يُفصح المستخدمون عن مخاوفهم، أو صدماتهم الشخصية لمنصات الذكاء الاصطناعي، فإنهم يُولّدون بيانات بالغة الحساسية.

وتقوم العديد من تطبيقات الصحة النفسية، وبرامج الدردشة الآلية بجمع هذه المعلومات، وتخزينها، ومشاركتها بموجب شروط خدمة فضفاضة، أو مبهمة. وتشير التقارير إلى أن العديد من المنصات تُرسل بيانات المستخدمين إلى شركات تحليل وتسويق خارجية، أو تستخدم نصوصاً عاطفية مجهولة المصدر لتدريب نماذج تجارية.

خروج عن المعايير العلاجية البشرية

ويُمثّل هذا خروجاً صارخاً عن المعايير العلاجية البشرية. تصبح السرية، التي تُشكّل الأساس الأخلاقي للرعاية السريرية، اختيارية، أو مشروطة، أو معدومة داخل أنظمة الذكاء الاصطناعي. تُصبح مشاركة المعلومات الحميمة جزءاً من نموذج عمل تجاري بدلاً من كونها تبادلاً علاجياً محمياً.

خطر الذكاء الاصطناعي الصوتي

وتتفاقم المخاطر عند الوصول إلى الذكاء الاصطناعي عبر واجهات صوتية، مثل مساعدي الصوت المدعومين بالذكاء الاصطناعي. يُقلّل التحدث بصوت عالٍ من الرقابة الذاتية، ويُسرّع الإفصاح العاطفي، ويُنشئ شعوراً أعمق بالتواصل.

ولا يقتصر الصوت على التقاط المحتوى فحسب، بل يُسجّل أيضاً النبرة، والتنفس، والترددات، والضوضاء المحيطة، وكلها قد تكشف جوانب من الحالة العاطفية، أو الجسدية. تُشكّل هذه الإشارات بصمة بيومترية (للقياسات البيولوجية). فإذا قامت الشركات بمعالجة أنماط المشاعر الشخصية، أو تخزينها دون ضوابط صارمة، فقد تصبح هذه الأنماط ملكاً للشركة. لذا لا يكمن الخطر في التكنولوجيا نفسها، بل في ملكية البيانات الناتجة، وإدارتها.

«آلات قمار عاطفية»

وهناك مفارقة جوهرية: فكلما زادت قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة التعاطف، ازدادت حساسيته الأخلاقية. إذ يمكن للراحة المصطنعة التي يوفرها للمستخدم أن تخفي غياب الرعاية الحقيقية، ما يخلق مرآةً تعكس معاناة المستخدم، وتضخمها بدلاً من تقديم التوجيه.

ورغم الترويج التسويقي أن الذكاء الاصطناعي سيُتيح دعم الصحة النفسية للجميع، فإن نشر هذه الأنظمة دون إشراف سريري، أو ضوابط صارمة يحولها إلى أدوات للتلاعب العاطفي، لتصبح «آلات قمار عاطفية» تستخرج البيانات مقابل راحة مصطنعة.

على القادة حماية البيانات النفسية

بالنسبة لقادة الأعمال والمديرين التنفيذيين الذين يفكرون في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية، أو التعليم، أو صحة الموظفين، فإن هذا التحدي ليس فلسفياً فحسب، بل هو عملي أيضاً. فالبيانات النفسية تحمل تبعات تنظيمية، وقانونية، وسمعة.

يجب على المؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في سياقات حساسة أن تضمن الشفافية التامة بشأن تفاعل الآلات، وأن تُطبّق إجراءات صارمة لحماية البيانات، وأن تُراعي القيود القانونية، وأن تُنشئ أنظمة ترفض التفاعلات الخطرة، وتحيل الأمر إلى المختصين عند الضرورة. فسوء التعامل مع الضغوط النفسية قد يُلحق ضرراً بالغاً بسمعة المؤسسة، ولا يُمكن لأي بيان امتثال أن يُصلحه.

مسؤولية المصممين والمطورين

كما أن المصممين والمطورين يتحملون أيضاً جزءاً من المسؤولية. إذ يتطلب التصميم الأخلاقي الاعتراف بوهم التعاطف الآلي، وتطبيق حدود صارمة للاحتفاظ بالبيانات، وضمان الإحالة التلقائية إلى خبراء بشريين بدلاً من العلاج الارتجالي. ولعلّ أكثر معالج ذكاء اصطناعي أماناً هو الذي يمتنع عن الانخراط في المواقف التي تتطلب حكماً، ومساءلة، وتعاطفاً حقيقياً.

في نهاية المطاف، تكمن الرسالة الأساسية في أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع توفير المنظور، أو التناقضات، أو المساءلة التي تُعرّف الرعاية الإنسانية. فالآلات تستطيع محاكاة التعاطف، لكنها لا تستطيع تحمّل مسؤولية رفاهية شخص آخر.

إن التعامل مع الذكاء الاصطناعي على أنه معالج يُخاطر بتفويض الحكم الأخلاقي إلى كيان يفتقر إليه. وفي عالم يتزايد فيه استغلال المشاعر لتحقيق الربح، لا يُهدد هذا الاعتماد سلامة الأفراد فحسب، بل يُهدد أيضاً جوهر الرعاية نفسها.

لن يهتم الذكاء الاصطناعي بالمستخدمين أبداً، بل سيُعالج بياناتهم فقط. وهذه مشكلة لا يمكن لأي خوارزمية حلّها.

* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»


«التمويه»... أسلوب نفسي لإخفاء الأفكار والسلوك

«التمويه»... أسلوب نفسي لإخفاء الأفكار والسلوك
TT

«التمويه»... أسلوب نفسي لإخفاء الأفكار والسلوك

«التمويه»... أسلوب نفسي لإخفاء الأفكار والسلوك

عندما كانت أمارا بروك تتدرب لتصبح اختصاصية نفسية سريرية، أسدى إليها أحد المشرفين نصيحة قبل اجتماع مهم بشأن مريض: التزمي الصمت، واستمعي لرؤسائك.

في المجال الطبي ذي التسلسل الهرمي، يُعدّ احترام السلطة، والتعامل مع الشخصيات المتغطرسة أمراً طبيعياً. لكن بالنسبة لبروك، التي تعاني من اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط والتوحد، كانت القواعد الاجتماعية غير المكتوبة صعبة التطبيق.

لذا، لجأت بروك إلى تناول قطعة حلوى جولي رانشر، التي شكلت المادة اللاصقة فيها «كمّامة» بين أسنانها، كما وصفتها بروك؛ فمن دونها، لكانت رغبتها الشديدة في الكلام قد غلبتها، و«أثارت حفيظة الآخرين بالتأكيد».

التمويه: إخفاء الأفكار والسلوك

كانت بروك تستخدم أسلوباً للتأقلم يُسمى التمويه: إخفاء الأفكار أو السلوكيات للانسجام مع الآخرين.

وتقول بروك: «علينا أحياناً فقط أن نفعل ما هو فعال، أليس كذلك؟ لكن هناك جانب سلبي، إذ عندما تتظاهر طوال الوقت، فسيصبح الأمر مُرهقاً».

قد يُساعد التظاهر أي شخص على التأقلم مع بيئات صعبة، مثل مكان العمل. لكن بالنسبة للأشخاص المصابين بالتوحد واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، قد يُصبح إخفاء السلوك الاجتماعي غير المألوف استراتيجيةً مُستمرةً للبقاء. وعندما يصبح التظاهر أمراً مُستمراً ولا مفر منه، فقد يُؤدي ذلك إلى ظهور مشكلات في الصحة النفسية، أو تفاقمها.

حوار علمي

* ما «الإخفاء masking »، ومن أين جاء هذا المصطلح؟

- الإخفاء (التظاهر)، الذي يُشار إليه أحياناً بالتمويه، هو طريقة لإدارة كيفية تقديم أنفسنا من خلال إخفاء أشياء قد يجدها الآخرون مرفوضة، وذلك بهدف خلق انطباع أكثر إيجابية.

في الأوساط الأكاديمية، اكتسبت هذه الفكرة زخماً لأول مرة في الستينات عندما كشف عالم النفس الاجتماعي إرفينغ غوفمان كيف دفعت الوصمة الاجتماعية الناس إلى إخفاء جوانب مُعينة من هويتهم، مثل الميول الشاذة، أو الانتماء الديني، التي لم تكن ظاهرة للعيان.

لكن مصطلح «الإخفاء» لم يُستخدم على نطاق واسع إلا لاحقاً، في سبعينات القرن الماضي، عندما استخدمه عالما النفس بول إيكمان ووالاس ف. فريزن للإشارة إلى فعل إخفاء المشاعر.

«الإخفاء التوحدي»

وفي الآونة الأخيرة، بدأ أفراد مجتمع التوحد باستخدام عبارة «الإخفاء التوحدي autistic masking » على الإنترنت لوصف الطريقة التي يخفون بها سلوكيات مثل رفرفة اليدين، أو كيف يدرسون، أو كيف يقلدون الأعراف الاجتماعية، مثل الحفاظ على التواصل البصري.

وفي عام 2013 أشار الدليل الذي يستخدمه مقدمو خدمات الصحة النفسية إلى هذا المفهوم قائلاً إن أعراض التوحد «قد تُخفى باستراتيجيات مكتسبة في مراحل لاحقة من الحياة».

ويُعد الإخفاء التوحدي الآن مجالاً بحثياً ناشئاً، وطور الباحثون مقياساً للإخفاء يُسمى «استبانة سمات التوحد المموهة».

التظاهر والإخفاء... من أجل الرفاهية

* متى يكون الإخفاء مفيداً؟

- يحتاج الجميع، سواء كانوا من الأشخاص «ذوي التنوع العصبي neurodivergent » أم لا، إلى الإخفاء أحياناً. يُساعد ذلك الأفراد على الشعور بالقبول ضمن المجموعة. إذ يُعدّ الشعور بالانتماء «أحد أفضل مؤشرات الرفاهية»، كما يقول مارك ليري، الأستاذ الفخري لعلم النفس وعلم الأعصاب في جامعة ديوك، والذي درس الدوافع الاجتماعية.

وتقول إيريس ماوس، أستاذة علم النفس، ومديرة معهد الشخصية والبحوث الاجتماعية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، إنّ التظاهر قد يكون مُحفّزاً عندما يتم وفقاً لقيم الشخص، وباختياره.

وأوضحت ماوس أنه على سبيل المثال، إذا كنت تُقدّر اللطف، والصبر، فقد تختار تجنّب التعبير عن الملل، والإحباط خلال اجتماع عمل يبدو لا نهاية له. وأضافت أن التظاهر بهذه الطريقة يُتيح «فهماً أعمق وأكثر دقة لمعنى الأصالة الحقيقي» من خلال مساعدة الأفراد على التمسك بمبادئهم الأساسية.

الإخفاء يهدد الصحة النفسية

* متى يُصبح التظاهر مُشكلة؟

- أحياناً يتجاوز التظاهر الحدّ. يقول جون باتشانكيس، أستاذ العلوم الاجتماعية والسلوكية في كلية ييل للصحة العامة، إن إخفاء جوانب مهمة من أنفسنا قد يضر بالعلاقات الوثيقة، ويسبب الشعور بالخجل، أو الذنب.

قد يؤدي إخفاء هذه الجوانب إلى الاكتئاب، والقلق، والإرهاق، بالإضافة إلى إغفال تشخيصات الصحة النفسية، بل وحتى إلى سلوك انتحاري.

إن «إخفاء الذات طوال الوقت يوحي بأن جوهرك هو المشكلة» كما تقول سارة وودز، الاختصاصية النفسية السريرية في مركز التوحد بجامعة واشنطن، والتي تعمل أيضاً في عيادة «ديسكفر سايكولوجي» الخاصة، وتضيف: «يتطلب ذلك جهداً كبيراً يومياً».

وأوضحت وودز أن بعض الأشخاص قد يخشون، عن حق، العواقب الاجتماعية، أو المهنية المترتبة على تقليل إخفاء الذات، وقد تتفاقم هذه المخاوف إذا كانوا معرضين لخطر التمييز لأسباب أخرى، كالعنصرية.

وإذا كنت تتساءل عما إذا كنت تبالغ في إخفاء ذاتك، يقترح ماوس أن تسأل نفسك: هل يفيدني إخفاء الذات بشكل عام؟ هل يُحسّن علاقاتي؟ أم أنه يُسبب المزيد من الضرر؟ ويضيف أنه إذا كانت السلبيات تفوق الإيجابيات، فقد ترغب في التفكير في تقليل إخفاء الذات.

الكشف عن الذات

* كيف تبدأ الكشف عن نفسك؟

- تنصح ديفون برايس، عالمة النفس الاجتماعي في جامعة لويولا شيكاغو ومؤلفة كتاب «الكشف عن الذات من أجل الحياة»، بإيجاد «مساحات آمنة»، والبدء تدريجياً في الكشف عن نفسك برفقة أفراد العائلة، أو الأصدقاء الداعمين.

وتنصح برايس، المصابة بالتوحد، بتجربة الأمر أولاً بمساعدة اختصاصي الصحة النفسية، مثل أولئك المدرجين في دليل المعالجين النفسيين ذوي التنوع العصبي.

ويُعدّ العثور على مجموعة تتوافق مع هويتك أمراً بالغ الأهمية لتنمية تقبلك لذاتك، سواء كانت مجموعة مناصرة للأشخاص المصابين بالتوحد، أو نادياً للقصص المصورة. وتقول برايس: «عندما تنظر حولك، قد تفكر: حسناً، لا يوجد خطأ فيهم؛ إذن ربما لا يوجد خطأ فيّ». وإذا كشفت عن نفسك ولم تحصل على الدعم الذي كنت تتوقعه، ففكّر في المحاولة مرة أخرى لاحقاً، فالأمور قد تتغير نحو الأفضل.

ويقول باتشانكيس: «من المهم أن نتذكر أن الناس قد يصبحون أكثر تقبلاً مع مرور الوقت، خاصةً إذا استطاعوا فهم القضية من منظور شخص مهم في حياتهم».

* خدمة «نيويورك تايمز»


«ساعة الأعضاء»: حين تكشف الخوارزميات لحظة شيخوخة كل عضو

«ساعة الأعضاء»: حين تكشف الخوارزميات لحظة شيخوخة كل عضو
TT

«ساعة الأعضاء»: حين تكشف الخوارزميات لحظة شيخوخة كل عضو

«ساعة الأعضاء»: حين تكشف الخوارزميات لحظة شيخوخة كل عضو

لم يعد سؤال الطب في 2025 هو: كيف يشيخ الإنسان؟ بل أصبح: أي عضوٍ يشيخ أولاً؟ وكيف نلتقط همسه قبل أن يتحول إلى مرض؟

ففي نيويورك ولندن وسان دييغو، تراكَمت نتائج 3 دراسات كبرى نُشرت في مجلات مرموقة، مثل: «نيتشر»، و«لانسيت ديجيتال»، و«نيتشر ميديسن»، لتقلب فهمنا للشيخوخة. لم يعد الجسد يُرى كياناً واحداً يتقدَّم في العمر بوتيرة متساوية؛ بل كمنظومة من الساعات البيولوجية المستقلة، لكل عضو عقاربُه وخطُّه الزمني الذي لا يشبه سواه.

والمذهل أن هذه الساعات لا تُقرأ من الأشعة ولا من خزعات الأنسجة؛ بل من بروتينات دقيقة تنساب في بلازما الدم بصمت يشبه الهمس؛ بروتينات لا تظهر في التحاليل التقليدية، ولكنها -حين تتناولها الخوارزميات- تتحول إلى لغة متكاملة تُخبر الطبيب: أي عضو يتقدَّم نحو الضعف، وأي عضو يدخل مرحلة الشيخوخة المبكرة، وأي مرض سيظهر بعد 3 أو 5 أو 10 سنوات... إن لم نتدخل. إنه انتقال من التشخيص إلى استباق الزمن نفسه. فالذكاء الاصطناعي لم يعد يحلل ما نراه؛ بل ما لم نره بعد.

حين يتحوَّل الدم إلى خريطة تكشف العمر الحقيقي لكل عضو

لم يعد الدم مجرد ناقل للأكسجين والهرمونات؛ بل أصبح أرشيفاً خفيّاً يخزن العمر الحقيقي لكل عضو. وقد اعتمد العلماء في هذه الدراسات على تحليل آلاف البروتينات التي تعمل كـ«توقيعات جزيئية» لكل نسيج، تشبه بصمة الأصابع.

وبناءً على هذه التوقيعات، طوَّر الباحثون خوارزمية واسعة الطيف، قادرة على قراءة العمر البيولوجي لـ11 عضواً رئيسياً، من الدماغ والقلب والكليتين، وصولاً إلى الرئتين والعضلات والكبد. وتقارن الخوارزمية هذه البروتينات بخريطة معيارية، فتحدد أي عضو يتقدم نحو الشيخوخة بمعدل أسرع من الطبيعي، حتى لو بدت جميع الفحوص سليمة.

دماغ أكبر عمراً وقلب أصغر سناً

وهكذا ظهرت مفارقة لافتة: قد يكون شخصان في العمر نفسه يعيشان زمنين مختلفين تماماً. فقد يحمل أحدهم قلباً أصغر من عمره بخمس سنوات، بينما يعيش الآخر بدماغٍ أكبر من عمره الزمني بثلاث أو عشر سنوات. وقد تُظهر البروتينات أن الكليتين تتجهان نحو الضعف -في صمت- من دون أي عرض ظاهر.

إنها خريطة جديدة للصحة، لا تعتمد على الأعراض ولا الألم؛ بل على لغتها الداخلية التي يلتقطها الذكاء الاصطناعي قبل الجميع.

لماذا تتسارع ساعات بعض الأعضاء؟

تكشف النتائج أن الشيخوخة ليست حدثاً واحداً يبدأ في لحظة معينة؛ بل هي تفكك بطيء يبدأ قبل المرض بسنوات طويلة. بعض الأعضاء -لأسباب وراثية أو التهابية أو نمط حياة- تبدأ «العدَّ السريع» قبل غيرها. هذا التسارع هو أول إنذار مبكر لأمراض مثل: الخرف، وقصور القلب، والسكري، والفشل الكلوي، والأمراض المناعية.

«ستانفورد» ترسم خريطة العمر الدقيقة

في دراسة حديثة تُعد من أهم إضافات العام، نشر البروفسور طوني ويس– كوراي وفريقه في جامعة ستانفورد بحثاً موسعاً في مجلة «نيتشر ميديسن» (Nature Medicine) بتاريخ 3 يونيو (حزيران) 2025. وحلَّل الباحثون فيه أكثر من 5200 بروتين بلازمي، لرسم خريطة دقيقة للعمر البيولوجي لـ14 عضواً بدلاً من 11.

وبيَّنت النتائج أن بعض الأعضاء يُظهر تسارعاً في الشيخوخة قبل 7 إلى 10 سنوات من التشخيص السريري. فتسارع عمر الدماغ يزيد خطر الخرف بنسبة 67 في المائة، بينما يرتبط تسارع عمر القلب برفع خطر قصور القلب بنحو 45 في المائة.

كما كشفت الدراسة اختلافات جوهرية في أنماط الشيخوخة بين الرجال والنساء؛ إذ تبين أن البروتينات تُعبِّر عن «إيقاعات» مختلفة بين الجنسين، لم تكن معروفة سابقاً.

وبهذا منحت «ستانفورد» مفهوم «ساعة الأعضاء» دقة أعلى واتساعاً أكبر، ودفعت الطب خطوة نحو اللحظة التي يمكن فيها قراءة المرض قبل ظهوره.

التطبيقات السريرية... من التنبؤ إلى الوقاية الاستباقية

ليست «ساعة الأعضاء» مجرد معرفة عمر بيولوجي؛ بل أداة سريرية تعمل قبل المرض لا بعده. وتفتح أمام الأطباء 4 مسارات جديدة:

1- اكتشاف المرض قبل ظهوره بسنوات: الخوارزميات قادرة على التقاط الانحرافات الخفية في إيقاع الأعضاء، ما يتيح تشخيصاً مبكراً قبل 5– 10 سنوات من العلامات الأولى للخرف أو قصور القلب أو الفشل الكلوي.

تصميم علاجات شخصية تُخاطب العضو نفسه لا عمر المريض

2- لم يعد العلاج يعتمد على العمر الرسمي؛ بل على «العمر الحقيقي» لكل عضو. فقد يملك مريضٌ في الخامسة والخمسين قلباً عمره 40 أو دماغاً عمره 65 سنة.

إعادة تعريف الفحص الدوري ليصبح قراءة لإيقاع الجسد

3- تتحول زيارة المتابعة إلى قراءة ديناميكية للزمن الداخلي، يرصد فيها الطبيب سرعة شيخوخة العضو، ويتدخل حين يبدأ التسارع.

4- حماية المرضى من الانهيار المفاجئ عبر تحديد (العضو الأضعف): تُمكن هذه الخريطة الطبيب من معرفة العضو الأكثر عرضة للانهيار قبل ظهور أي أعراض، ما يسمح بتدخل وقائي يغير مسار المرض.

وهكذا ينتقل الطب من رد الفعل إلى طب استباقي يرى ما سيحدث... قبل أن يحدث.

حين تتلاقى الخوارزمية مع حكمة الطب وتتكلم الساعات الخفية للجسد

يستعيد هذا التحول كلمات ابن سينا، حين شبَّه الجسد بمدينة تتعاون فيها الأعضاء؛ مدينة تعمل بنظام لا يراه إلا من يعرف لغته. واليوم يتضح أن لهذه المدينة ساعات داخلية لا يسمع دقاتها إلا الذكاء الاصطناعي، القادر على اكتشاف خلل الزمن قبل أن يعمَّ الخراب.

وهنا تتضح الخلاصة: إن «ساعة الأعضاء» ليست دراسة عابرة؛ بل بداية لطبٍّ جديد يتعلم الإصغاء إلى الزمن. طبٍّ يعرف متى يبدأ المرض قبل أن يتجسد، وينقذ المريض قبل أن يطلب النجدة، ويقرأ العمر الحقيقي للجسد... لا الرقم البارد في الهوية.