لماذا لم أغادر الصين خلال فترة انتشار «كوفيد ـ19»؟

لماذا لم أغادر الصين خلال فترة انتشار «كوفيد ـ19»؟
TT

لماذا لم أغادر الصين خلال فترة انتشار «كوفيد ـ19»؟

لماذا لم أغادر الصين خلال فترة انتشار «كوفيد ـ19»؟

أُقيم في الصين منذ ما يزيد على 25 عاماً. وقد مرت على الصين خلال هذه الفترة كوارث طبيعية وأزمات مختلفة، لكن أياً منها لم يسبق له أن تسبب في نشر الخوف والذعر مثلما فعل فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)؛ إنه بمثابة كابوس مرعب هجم على البشرية على حين غرّة. وقد دخلت الصين بكاملها في عملية أكبر حجر صحي في تاريخ البشرية، وتحولت بين عشية وضحاها إلى مدن أشباح تواجه كابوساً مريباً يجيد فن التحول والتغيير والانتشار، ولا يزال بلا دواء ولا علاج.
كانت بداية عطلة عيد الربيع الصيني 2020 (السنة القمرية الصينية)، والجميع مهيئ لقضاء أسبوع ذهبي مع عائلته، عندما نزل علينا الخبر كالصاعقة: ظهور فيروس غير معروف في منطقة ووهان الصينية. ووهان مدينة بعيدة عن بكين، لكن المقيم في الصين لسنوات يعرف أن الصين تشهد أكبر موجة انتقال بين المدن، لما يحمله العيد من عادات وتقاليد، ووجوب لمّ الشمل.

- ارتباك أولي
كانت أول إصابة تم اكتشافها بهذا الفيروس بمدينة ووهان في بداية شهر ديسمبر (كانون الأول) 2019. وبسبب الإهمال، وقلة المسؤولية عند بعضهم، تأخر نشر المعلومات الخاصة بانتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) لأكثر من شهر. لكن تصريح منظمة الصحة العالمية، يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2020، عن عدم التأكد من أن الفيروس ينتقل بين الناس، أعاد الأمل، واستمرت التحضيرات وبهجة عيد الربيع، والانتقال الكبير للناس، محلياً ودولياً، لتعود النكسة مع تصريح واضح شفاف للرئيس الصيني شي جينبينغ يوم 25 يناير (كانون الثاني)، قال فيه إن الصين تواجه حرباً ضد فيروس غير معروف، وتم إغلاق مدينة ووهان، وطلب من الجميع البقاء في البيت، من العمال والموظفين، وتعليق الدروس إلى يومنا هذا.
الصين هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتمتلك جيوشاً من الأطباء والممرضين وإمكانات هائلة، وما إذا كان لديها القدرة على مواجهة الوباء وكبح انتشاره لم يكن واضحاً في البداية. لكن، ما كان واضحاً بالنسبة لي في ذلك الوقت هو ذكريات انتشار فيروس «سارس» في الصين عام 2003، رغم أن مقدار الخوف والذعر الذي أثاره فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) أكبر بكثير من مقدار الذعر الذي أثاره فيروس سارس.
قد يكون السبب الرئيسي هو الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة التي لم تكن موجودة بالكثافة والتطور ذاتهما خلال فترة انتشار سارس، حيث تساهم هذه الوسائل إلى حد كبير في النشر السريع للأخبار، الصحيح منها والكاذب، المشكك منها والمُهول، وقد يكون هذا أحد الأسباب أيضاً التي جعلت تحذيرات الطبيب الصيني لي مينغ ليانغ من سهولة العدوى بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سبباً لاتهامه بنشر الإشاعات، ليتحول بعد ذلك إلى قضية رأي عام، وترسل الحكومة المركزية فريق تحقيق إلى ووهان للتحقيق في القضية، وبعدها الاعتذار لعائلته التي فقدته بسبب عدوى فيروس كورونا.
بعد تأزم الوضع، والانتشار السريع للفيروس، قامت الحكومة الصينية بإجراءات صارمة جداً لتنفيذ أكبر وأصعب عملية حجر صحي في عموم الصين. ومثلما تعودنا من الشعب الصيني، من الانضباط والالتزام بتعليمات حكومة دولته، تفاعل الأخير بشكل أبهر العالم. وبكل هدوء وصمت، تكاثفت الجهود بين الحكومة والشعب بطرق منهجية ومخططة، ووقف كل واحد في موقع يناسبه في ساحة معركة عنيفة ضد عدو غريب لا يرى بالعين المجردة، واثقين بأن المعركة لن تطول، وأن الفوز قريب. واصطفّ العلماء والباحثون صفاً واحداً أمام هذا الفيروس لاكتشاف اللقاح والدواء، وإطلاق المرحلة الأولى من التجارب السريرية للقاح، حيث تم تطعيم الدفعة الأولى من المتطوعين، كما تم دمج الطب الصيني التقليدي والغربي للقدرة على كسب المعركة ضد الفيروس.

- 5 ضوابط للحرب على الوباء
في الواقع، للصين ثقافتها في الحرب، والحرب بالنسبة للصين فن يحكمه ضوابط خمسة: القانون الأخلاقي، والسماء، والأرض، والقائد، والطرق والنظم المستحدثة. وفي كتابه «فن الحرب»، يعد الكاتب سون تزو الأخلاق هي ما يدفع الجنود لاتباع أوامر القائد، ومواجهة المخاطر دون خوف، وهذا ما حدث خلال حرب الصين على فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19). فقد اصطف الشعب الصيني وراء القائد، وحاربوا دون خوف، مع الوضع في الحسبان أوقات تنفيذ الخطط والإجراءات، لأن تحديد الوقت المناسب يساعد بلا شك في ميدان المعركة التي يجب دراستها قبل دخول أي حرب. كما يركز فن الحرب في الصين على الطرق والنظم المستحدثة، ومنها التدريب وتنظيم المحاربين وتقسيمهم في الأماكن المناسبة. كل هذه الخطط ساهمت في الحد من التفشي السريع لفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في الصين.
صحيح أن الصين ثاني اقتصاد في العالم، لكن هذا لا يعني الاستغناء عن دور الشعب في الداخل والخارج في أداء دورهم في هذه الحرب، حيث تجند كثير من الصينيين في الداخل للتطوع الذاتي، وتنقل الأطباء من كل أنحاء الصين إلى ووهان لمكافحة الفيروس، وفي الخارج لجمع وشراء المستلزمات الطبية، خاصة الكمامات، وإرسالها إلى الصين يومياً، حيث لم نشهد نقصاً ملحوظاً في الكمامات ولا في المعقمات طيلة فترة تفشي الفيروس. كما لم نشهد زيادة فاضحة في سعرها بعد تدخل الحكومة، وفرض عقوبات صارمة على كل من يتلاعب بأسعار المستلزمات الطبية.

- تكنولوجيا في خدمة البشرية
لم يكن متوقعاً في البداية أن فترة الحجر الصحي ستطول مدتها، لكن مع استمرار الحجر الصحي، وزيادة تفشي الفيروس، بدأ الصراع مع التطوير الرقمي، وبروز تقنيات وبرمجيات مبتكرة للمساعدة على العمل والدراسة عن بعد. كما ظهرت بقوة طائرات المراقبة ذاتية القيادة، والرجل الآلي في المستشفيات، لتفادي نقل العدوى، وبرنامج تشخيص المصابين، حيث قام خبراء طبيون مشهورون من جميع أنحاء الصين باستشارة ومراقبة المرضى من خلال تقنية الجيل الخامس (5G)، ومنصات المحلات الإلكترونية التي بقيت على رأس العمل لإيصال المستلزمات اليومية للناس، وتكنولوجيا الدفع بالهاتف بتطبيق «ويتشات» لتفادي استعمال المال باليد مباشرة، لأنها كانت أحد الأسباب الرئيسية في الانتشار السريع لفيروس «سارس» سابقاً، وغيرها من البرامج الأخرى التي تساعد الناس على التخفيف من متاعب الحجر الصحي. كما قام العاملون في صناعة الطيران المدني بالصين بتوظيف التكنولوجيا الرقمية لتصنيع مقاتلات في تطوير آلات إنتاج كمامات أوتوماتيكية كاملة.
ورغم الخسائر الكبيرة التي ستنتج عن انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وتداعياته على الاقتصاد، داخلياً وخارجياً، فإن السوق الصينية الداخلية واسعة للغاية. وقد قال البنك الدولي إن السلطات الصينية لديها مساحة للسياسة العامة للاستجابة، وقد أعلنت عن ضخ كميات كبيرة من السيولة، الأمر الذي من شأنه أن يساعد في تخفيف التكاليف التي سيتكبدها النمو الاقتصادي. كما ساهم الحجر الصحي في تعزيز «الاقتصاد الرقمي»، حيث أشارت دراسة نشرها مركز الأبحاث لتحليل المعلومات بجامعة الشعب الصينية، في أوائل مارس (آذار) الماضي، إلى أن العمل عبر الإنترنت قد يشكل بيئة عمل جديدة في العالم. وقد انضم أكثر من 100 مليار من الشركات والمؤسسات إلى منصة «دينغ دونغ» و«علي بابا»، ونحو 200 مليون شخص يعملون عبر منصتها، فيما يستخدمها 3.5 مليون معلم، و120 مليون طالب، منذ بداية فبراير (شباط) الماضي.
إذن، فإن اختياري عدم مغادرة الصين نابع من ثقتي بأن أكون أكثر أماناً وأكثر هدوءاً واستقراراً، حيث يقيم كل فرد في المنزل تقريباً، وكل واحد يعزل نفسه عن وعي. وقد اختارت الحكومة الصينية أن تضحي باقتصادها فترة زمنية من أجل الإنسانية، ودفعت مئات المليارات من التكاليف الاقتصادية، وعملت على خلق اقتصادات جديدة تُوائم الوضع لتساعد الناس على الاستمرار في الحياة الطبيعية، وتخلق مواطن رزق لبعضهم.
الليونة في النظام السياسي الصيني في التعاطي مع الأزمات يخلق نوعاً من الثقة بينه وبين الشعب الذي لم نسمعه يتذمر، وإنما احترم إجراءات الحكومة، مما ساهم في السيطرة على فيروس كورونا المستجد في وقت يُعد قياسياً، وبخسائر أقل.
- إعلامية باحثة في الشؤون الصينية


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

اتهام لرجل عرض علم «حزب الله» خلال مظاهرة مؤيدة لفلسطين

عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)
عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)
TT

اتهام لرجل عرض علم «حزب الله» خلال مظاهرة مؤيدة لفلسطين

عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)
عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)

وجهت الشرطة الفيدرالية الأسترالية اتهاماً لرجل يبلغ من العمر 36 عاماً بعرض رمز منظمة مصنفة «إرهابية» علناً، وذلك خلال مظاهرة في منطقة الأعمال المركزية بمدينة ملبورن في سبتمبر (أيلول) الماضي.

الرجل، المقيم في منطقة فيرنتري غولي، سيمثل أمام محكمة ملبورن الابتدائية في 6 مارس (آذار) المقبل؛ حيث يواجه عقوبة قد تصل إلى 12 شهراً من السجن إذا ثبتت إدانته، وفقاً لصحيفة «الغارديان».

جاءت المظاهرة ضمن فعاليات يوم وطني للعمل من أجل قطاع غزة، الذي نظمته شبكة الدعوة الفلسطينية الأسترالية في 29 سبتمبر الماضي، وشهد تنظيم مسيرات مماثلة في مختلف أنحاء البلاد احتجاجاً على التصعيد المتزايد للعنف في الشرق الأوسط.

وأطلقت الشرطة الفيدرالية الأسترالية بولاية فيكتوريا عملية تحقيق تحت اسم «أردفارنا»، عقب احتجاج ملبورن؛ حيث تلقت 9 شكاوى تتعلق بعرض رموز محظورة خلال المظاهرة.

ووفقاً للشرطة، تم التحقيق مع 13 شخصاً آخرين، مع توقع توجيه اتهامات إضافية قريباً. وصرح نيك ريد، قائد مكافحة الإرهاب، بأن أكثر من 1100 ساعة قُضيت في التحقيق، شملت مراجعة أدلة من كاميرات المراقبة وكاميرات الشرطة المحمولة، إضافة إلى مصادرة هواتف محمولة وقطعة ملابس تحتوي على رمز المنظمة المحظورة.

تأتي هذه الإجراءات بعد قرار الحكومة الفيدرالية الأسترالية في ديسمبر (كانون الأول) 2021 بتصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية، ومع التشريعات الفيدرالية الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ في يناير (كانون الثاني) 2024، التي تحظر عرض رموز النازيين وبعض المنظمات.

وقالت نائبة مفوض الأمن القومي، كريسي باريت، إن الادعاء يحتاج إلى إثبات أن الرمز المعروض مرتبط بمنظمة إرهابية وأنه قد يحرض على العنف أو الترهيب.

المظاهرة، التي استمرت في معظمها سلمية، جاءت بعد إعلان مقتل قائد «حزب الله» حسن نصر الله في غارة جوية إسرائيلية، وهو ما اعتبره العديد تصعيداً كبيراً في الصراع المستمر في الشرق الأوسط.

وفي وقت لاحق، نُظمت مظاهرات أخرى في سيدني وملبورن وبريزبين، وسط تحذيرات للمتظاهرين بعدم عرض رموز محظورة.