الجزائر العاصمة... مدينة فوق كوكب القلق

أحد شوارع الجزائر العاصمة كما بدا بعد فرض حظر التجول الجزئي (رويترز)
أحد شوارع الجزائر العاصمة كما بدا بعد فرض حظر التجول الجزئي (رويترز)
TT

الجزائر العاصمة... مدينة فوق كوكب القلق

أحد شوارع الجزائر العاصمة كما بدا بعد فرض حظر التجول الجزئي (رويترز)
أحد شوارع الجزائر العاصمة كما بدا بعد فرض حظر التجول الجزئي (رويترز)

الآن، وبعد أن اطمأنّتْ على أن جميع سكانها قد دخلوا بيوتهم، وردّوا نوافذها وشبابيكها الزرقاء، كعادتها تجلس مدينة الجزائر البيضاء قبالة البحر، ترقبه وترصد تغيراته. تنظر إليه بعين الرضا تارة لأنه منذ بدء الخليقة يجلس ممدداً عند قدميها، بمسافة طولها ألف وأربعمائة كلم، لا يبرح مكانه. يرنو إليها بعين العشق، والعشق شجرة لا تفقد أوراقها، على حد توصيف ابن قيم الجوزية في كتابه «روضة المحبين ونزهة المشتاقين»، لا يؤذيه منها دلالها وتعاليها. إلا أنها تارة أخرى تنظر إليه بعين الريبة أيضاً؛ أليس هو حائطها الرابع الهش السائل؟ ثم أليس على ظهر أمواجه، وعبر التاريخ، ركب الغزاة من مختلف الأقوام والمعتقدات واللغات والجهات ووصلوا إليها، جاءوها غزاة محتلين مفسدين ظالمين، قتلوا رجالها، وسرقوا خيراتها، واغتصبوا وسبَوا أجمل نسائها؟

- بلى... إنه يدري أن الجزائر البيضاء محبوبته على حق، ولها براهينها!
كلما اشتد بينهما النقاش، تفحمه حين تلوّح في وجهه المائي بنسخة من مؤلف ابن خلدون: «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، إنها نسختها الأثيرة التي تخبئها قريباً منها داخل المغارة المطلة على البحر، المغارة التي آوى إليها ميغويل دي سرفانتيس بعد أن أسرَتْه البحرية العثمانية. كان يطل من كُوَتها على البحر يرسم مخططات للهرب كلها فاشلة، ويخطط لكتابة «دون كيخوتي دي لامانتشا»، أنجح رواية وأشهرها في التاريخ الأدبي السردي.
في هذه الأثناء، تُطرِق العاصمة البيضاء مُفكرة:

- ياه... كم تغير العالم وكم تغيرت أسلحته واستراتيجيات حروبه!
بحكم التجربة الطويلة في تاريخ الحروب والمواجهات العنيفة، تعرف الجزائر البيضاء أن العدو الحالي جديد تماماً، لا موروثات لديه من جيش استعماري قديم، وأنه لا يخضع لمعطيات علم الأنساب الجيني الجديد، وليس له قاعدة بيانات أو شيفرة حمض نووي، فلا هو ينحدر من جيش الرومان، ولا الوندال، ولا البيزنطيين، ولا...، ولا...، ولا... إنه عدو بطاقيّة إخفاء، لا يُرى بالعين المجردة، إنه يدعى «كورونا»، وليس سراً إذ ينتهي اسمه بـ«نا» الدالة على الفاعل.
إنه عدو قوي؛ أقوى أعدائك هم هؤلاء الذين لا يمكنك رؤيتهم. إنه أعتى من جيوش العالم عبر تاريخ تَقاتل البشرية وحروبها الطاحنة. إنه عدو أصم أبكم أعمى، يدمر الشعوب بصمت، ويشل المدن والأوطان، ويُخضِع الأرض لقانون الإخلاء التام.
الجزائر البيضاء الآن، ورغم القلق الشديد الذي ينتابها، القلق الناتج عن خوفها من تفشي العدو «كورونا فيروس» الأصم الأبكم الأعمى بين سكانها، فإنها تظل متفائلة. إنه طبعها ومزاجها المتوسطيان... لا شك أن هناك سحابات حزن تعبر جبهتها البيضاء وهي تشاهد شوارعها وساحاتها ومقاهيها فارغة، وموانئها الشهيرة بجمالها مهجورة، نعم مهجورة تماماً، والسفن والبواخر مسمرة على صفحة زجاج الماء الأزرق، حتى إن طيور النوارس التي تملأ سماءها بدت حيرى، فتغلغلت في الأحياء القريبة تستفسر عن الحدث. ثم لا شك أن حظر التجول الذي يمتد من السابعة مساء حتى السابعة صباحاً يعمّق الشعور بالقلق والحزن، وينذر بأن خطراً جسيماً يحوم في الأجواء.
رغم كل هذا وأكثر، فإن العاصمة البيضاء يحدث أن تبتسم أحياناً بمرح، تنفرج أساريرها الجميلة حين ترسل عيونها عبر النوافذ والشرفات الزرقاء، في الأحياء الشعبية وغير الشعبية، جهة «باب الوادي» و«بلكور» و«حيدرة» و«الأبيار»، وحتى جهة البحر. تدخل البيوت الفقيرة والفيلات الفخمة، تجول بها لترى ما يحدث بين ساكنيها وقد أُجبروا على المكوث بها حتى لا ينتشر الفيروس القاتل. تسليها قصصهم وحكاياتهم وطرفهم، وخصوماتهم الصغيرة، وانكشاف طبائعهم الحقيقية التي لم يعد بُدّ من إخفائها. وتلاحظ بعض التغير في عاداتهم، وكسرهم للروتين ولعادات كادت أن تصبح طبيعة ثانية مع مرور الأزمنة. عائلات تجتمع على مرح وأخرى على خصام، لا منفذ ولا مهرب؛ الجميع معاً. إنهم يكتشفون بعضهم بعضاً من جديد، تقرب بينهم أخبار الموت الكوروني المتواترة عبر شاشات قنوات العالم، وبكل اللغات.
إنه درس الموت الكوروني الوجيع الذي لا يفرّق بين لون، أو جنس، أو دين، أو لغة، أو جغرافية، أو مناخ، أو تاريخ. الدرس الكوروني البليغ الذي يذكّر البشرية بأنها واحدة، وأن الجهاز التنفسي الهش هو نفسه في صدور البشر في جميع القارات، هو نفسه في صدر آدمي من أميركا مثلاً التي عمرها ما يقارب قرنين ونصف القرن، وآخر من باريس بنحو ألف وخمسمائة عام. لا يفرق بين صدر شخص بسيط يقتات من بيع حزم النعناع، وحاكم بأمره يعبر الشارع الفارغ فيكتظ به. هو نفسه في صدر مسلم أو مسيحي أو يهودي أو بوذي أو لا ديني أو أي مؤمن بمن وما يشاء.
تبتسم العاصمة البيضاء وتهز رأسها الذي تعبره فكرة مفادها أن البشر استشرسوا كثيراً، وتجبروا، وتمادوا في غيهم إلى أن أفسدوا عناصر الطبيعة الأربعة، كما سماها أمبيدوكليس الفيلسوف اليوناني الإغريقي، وهي: الهواء والماء والنار والتراب. أعماهم الجشع فلم يرحم بعضهم بعضاً، ولم يرأفوا لا بحيوان ولا بحجر ولا بشجر. وساوموا في بيع كل شيء.
تبتسم العاصمة البيضاء بمرارة هذه المرة وهي تفكر بأن درس كورونا المجهري يذكّر البشر بأنهم هم أيضاً مجرد مخلوقات مجهرية على أرضهم ضمن مجرة، وأنهم رغم تسلحهم الخطير وغطرستهم، فإنهم ليسوا الكون كله، بل هناك ألف مليار مجرة مرئية في الكون، وأن «الأفضل لهم أن يغيروا أهواءهم بدل تغيير نظام الكون»، على رأي ديكارت.
إنها السابعة مساء، ساعة حظر التجول؛ سيدخل العاصميون مساكنهم، بينما تبيت مدينة الجزائر البيضاء تتأمل من عليائها الكون، وتحدّث الأربعمائة مليار نجمة التي تسبح فيه، وتدعو لسكانها وللإنسانية بالسلامة.

- شاعرة روائية جزائرية


مقالات ذات صلة

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
صحتك امرأة تعاني من «كورونا طويل الأمد» في فلوريدا (رويترز)

دراسة: العلاج النفسي هو الوسيلة الوحيدة للتصدي لـ«كورونا طويل الأمد»

أكدت دراسة كندية أن «كورونا طويل الأمد» لا يمكن علاجه بنجاح إلا بتلقي علاج نفسي.

«الشرق الأوسط» (أوتاوا)
صحتك «كوفيد طويل الأمد»: حوار طبي حول أحدث التطورات

«كوفيد طويل الأمد»: حوار طبي حول أحدث التطورات

يؤثر على 6 : 11 % من المرضى

ماثيو سولان (كمبردج (ولاية ماساشوستس الأميركية))

إرغام تربويين في صنعاء على تلقي برامج تعبئة طائفية

مسؤولون تربويون في صنعاء يخضعون لتعبئة حوثية (إعلام حوثي)
مسؤولون تربويون في صنعاء يخضعون لتعبئة حوثية (إعلام حوثي)
TT

إرغام تربويين في صنعاء على تلقي برامج تعبئة طائفية

مسؤولون تربويون في صنعاء يخضعون لتعبئة حوثية (إعلام حوثي)
مسؤولون تربويون في صنعاء يخضعون لتعبئة حوثية (إعلام حوثي)

أوقفت الجماعة الحوثية عشرات القادة والمسؤولين التربويين في العاصمة المختطفة صنعاء عن العمل، وأحالتهم إلى المحاسبة تمهيداً لفصلهم من وظائفهم، بعد أن وجّهت إليهم تهماً برفض حضور ما تُسمى «برامج تدريبية» تُقيمها حالياً في صنعاء وتركّز على الاستماع إلى سلسلة محاضرات لزعيمها عبد الملك الحوثي.

وفي سياق سعي الجماعة لتعطيل ما تبقى من مؤسسات الدولة تحت سيطرتها، تحدّثت مصادر تربوية في صنعاء لـ«الشرق الأوسط»، عن إرغام الجماعة أكثر من 50 مسؤولاً وقيادياً تربوياً يشملون وكلاء قطاعات ومديري عموم في وزارة التعليم الحوثية على الخضوع لبرامج تعبوية تستمر 12 يوماً.

ملايين الأطفال في مناطق سيطرة الحوثيين عُرضة لغسل الأدمغة (رويترز)

وبموجب التعليمات، ألزمت الجماعة القادة التربويين بحضور البرنامج، في حين اتخذت إجراءات عقابية ضد المتغيبين، وكذا المنسحبون من البرنامج بعد انتهاء يومه الأول، لعدم قناعتهم بما يتمّ بثّه من برامج وأفكار طائفية.

وكشفت المصادر عن إحالة الجماعة 12 مديراً عاماً ووكيل قطاع تربوي في صنعاء ومدن أخرى إلى التحقيق، قبل أن تتخذ قراراً بإيقافهم عن العمل، بحجة تخلفهم عن المشاركة في برنامجها التعبوي.

وجاء هذا الاستهداف تنفيذاً لتعليمات صادرة من زعيم الجماعة وبناء على مخرجات اجتماع ترأسه حسن الصعدي المعيّن وزيراً للتربية والتعليم والبحث العلمي بحكومة الانقلاب، وخرج بتوصيات تحض على إخضاع التربويين لبرامج تحت اسم «تدريبية» على ثلاث مراحل، تبدأ بالتعبئة الفكرية وتنتهي بالالتحاق بدورات عسكرية.

توسيع التطييف

تبرّر الجماعة الحوثية إجراءاتها بأنها رد على عدم استجابة التربويين للتعليمات، ومخالفتهم الصريحة لما تُسمّى مدونة «السلوك الوظيفي» التي فرضتها سابقاً على جميع المؤسسات تحت سيطرتها، وأرغمت الموظفين تحت الضغط والتهديد على التوقيع عليها.

وأثار السلوك الحوثي موجة غضب في أوساط القادة والعاملين التربويين في صنعاء، ووصف عدد منهم في حديثهم لـ«الشرق الأوسط»، ذلك التوجه بأنه «يندرج في إطار توسيع الجماعة من نشاطاتها الطائفية بصورة غير مسبوقة، ضمن مساعيها الرامية إلى تطييف ما تبقى من فئات المجتمع بمن فيهم العاملون في قطاع التعليم».

عناصر حوثيون يرددون هتافات الجماعة خلال تجمع في صنعاء (إ.ب.أ)

واشتكى تربويون في صنعاء، شاركوا مكرهين في البرامج الحوثية، من إلزامهم يومياً منذ انطلاق البرنامج بمرحلته الأولى، بالحضور للاستماع إلى محاضرات مسجلة لزعيم الجماعة، وتلقي دروس طائفية تحت إشراف معممين جرى استقدام بعضهم من صعدة حيث المعقل الرئيس للجماعة.

ويأتي تحرك الجماعة الحوثية لتعبئة ما تبقى من منتسبي قطاع التعليم فكرياً وعسكرياً، في وقت يتواصل فيه منذ سنوات حرمان عشرات الآلاف من المعلمين من الحصول على مرتباتهم، بحجة عدم توفر الإيرادات.

ويتحدث ماجد -وهو اسم مستعار لمسؤول تعليمي في صنعاء- لـ«الشرق الأوسط»، عن تعرضه وزملائه لضغوط كبيرة من قبل مشرفين حوثيين لإجبارهم بالقوة على المشاركة ضمن ما يسمونه «برنامجاً تدريبياً لمحاضرات زعيم الجماعة من دروس عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر».

وأوضح المسؤول أن مصير الرافضين الانخراط في ذلك البرنامج هو التوقيف عن العمل والإحالة إلى التحقيق وربما الفصل الوظيفي والإيداع في السجون.

يُشار إلى أن الجماعة الانقلابية تركز جُل اهتمامها على الجانب التعبوي، عوضاً الجانب التعليمي وسط ما يعانيه قطاع التعليم العمومي من حالة انهيار وتدهور غير مسبوقة.