آندرو كومو... حاكم نيويورك يخطف الأضواء وترمب يسعى لاستخدامه في معركته الانتخابية

جراء أزمة {كورونا}

آندرو كومو... حاكم نيويورك يخطف الأضواء وترمب يسعى لاستخدامه في معركته الانتخابية
TT

آندرو كومو... حاكم نيويورك يخطف الأضواء وترمب يسعى لاستخدامه في معركته الانتخابية

آندرو كومو... حاكم نيويورك يخطف الأضواء وترمب يسعى لاستخدامه في معركته الانتخابية

كما في كل شيء تقريباً، تأخذ الأمور في الولايات المتحدة منحى يتداخل فيه السياسي، بالشخصي، بالحزبي، بالموقع الرسمي، لدى تناول شخصية عامة تلعب دورا مؤثرا، أو يعتقد على الأقل أنها تقوم بذلك بالفعل. إلا أن الصورة تغدو أوضح إذا كانت تلك الشخصية من وزن حاكم ولاية نيويورك آندرو كومو، الذي لمع اسمه فجأة في الآونة الأخيرة بعد تفجّر أزمة وباء فيروس كورونا المستجد «كوفيد - 19»، وتفشيه في مدينة نيويورك، حيث سجل أكثر من نصف عدد المصابين بهذا الوباء على مستوى الولايات المتحدة.
ولاية نيويورك عاصمتها مدينة ألباني الصغيرة، لكن مدينة نيويورك هي الأشهر فيها.
إنها أكبر المدن الأميركية، سواء لناحية عدد السكان أو مساحتها الجغرافية. ثم إنها العاصمة الاقتصادية للولايات المتحدة، وأحد المراكز الحساسة للاقتصاد العالمي. أضف إلى ذلك أن المدينة تحتضن أكبر بورصة في العالم حيث ما يعرف بـ«وول ستريت»، أكبر مركز مالي وتجاري ومصرفي في العالم. ويوجد فيها مقر الأمم المتحدة الرئيسي، وتعتبر من أهم منارات الثقافة في العالم، وفيها أهم دور العرض الفنية والتجارية والثقافية والأزياء والتكنولوجيا والتعليم والترفيه.
لم يخطر على بال الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه قد يستغل اسم كومو في حملته السياسية والانتخابية، لزعزعة حظوظ منافسه الرئيسي في الحزب الديمقراطي جو بايدن، «المحجور» في منزله أسوة بباقي المواطنين الأميركيين بسبب الوباء. وأعرب في مقابلة تلفزيونية قبل أيام عن اعتقاده أن الحاكم كومو يمكن أن يكون منافسا جيدا له، بدلا من جو «النعسان» – وهذا هو اللقب الذي درج ترمب على استعماله ازدراءً بمنافسه - وهو أسلوب بات معروفا عنه في مهاجمة خصومه وتحقيرهم بشكل شخصي، عبر إطلاق صفات لم تعهدها السياسة الأميركية من قبل.

المرشح المحتمل
في الواقع سبق أن تكهنت عدة وسائل إعلام أميركية باحتمال ترشح آندرو كومو للانتخابات الرئاسية، سواء في 2016 أو 2020. وأشارت عدة تقارير إلى أن كومو دعم «المؤتمر الديمقراطي المستقل»، وهو قائمة تضم العديد من الجمهوريين، بينهم أنصار لترمب، قبل أن يُحل ويهزم في انتخابات 2018 النيابية، في محاولة منه ليبدو أكثر اعتدالا، تمهيدا «لطموح رئاسي».
غير أن كومو أحجم عن ترشيح نفسه ولم يخض الانتخابات التمهيدية المتوقفة الآن. ونفى تماما نيته خوض انتخابات الرئاسة خلال مقابلة تلفزيونية مع شقيقه كريس كومو، مقدم البرامج الشهير على محطة «سي إن إن» التلفزيونية. وللعلم، أعلن كريس إصابته بالفيروس أخيراً، وهو يخضع لحجر صحي في قبو منزله بعدما حوله إلى استديو يمارس منه عمله كما العديد من مقدمي البرامج في المحطات الأميركية.
من ناحية ثانية، اتهمت قيادة الحزب الديمقراطي ترمب باستغلال أزمة الوباء لخلط الأوراق وزعزعة قاعدة الحزب المنقسمة أصلا، حيث لا يزال السيناتور اليساري بيرني ساندرز يصر على ترشحه، وسط دعوات حثيثة لإنهاء حملته. واللافت أن ساندرز ماض بالترشح، رغم خسارته غالبية الانتخابات التمهيدية التي أجريت، وثمة صعوبة بالغة في تمكنه من ردم الهوة مع بايدن لجهة الحصول على عدد كاف من أصوات المندوبين.
تعليقات أخرى اعتبرت مناورة ترمب، بأنها محاولة لتعميق الانقسام بين الفئات الشابة المؤيدة لساندرز والقاعدة الجماهيرية للحزب، ما قد يؤدي إلى امتناعها عن التصويت لبايدن في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، الأمر الذي سيصب حتما في مصلحة ترمب.

كومو ينافس ظهور ترمب
غير أن آخرين يعتبرون أن النجاح الذي يحققه حاكم نيويورك بسبب موقعه الرسمي، وصعود أسهمه وارتفاع عدد مؤيديه، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وظهوره الكثيف على شاشات التلفزيون، بات ينافس ظهور ترمب اليومي لمتابعة أنباء الوباء. ويعتقد معظم هؤلاء أن ظهوره أزعج الرئيس واعتبره تهديدا لاحتكاره موجات الأثير المرئي، بينما منافسه الرسمي بايدن قابع في منزله... يفتش عن وسيلة لخرق الحصار الذي فرضه انتشار الوباء.
في أي حال، يواصل ترمب التقليل من دور كومو في التصدي للوباء في نيويورك، قائلا إن نجاحه يعود إلى المساعدات التي قدمتها إدارته وتلبيتها كل طلباته، رغم الانتقادات العلنية والقاسية التي وجهها كومو لما اعتبره سلبية أداء الحكومة الفيدرالية في واشنطن. ورغم قوله إنه جاهز لمواجهة أي منافس سياسي، كرر كومو «إن الوضع خطير ومميت وإذا كنا منقسمين فسيهزمنا الفيروس».
كومو وفريق عمله ومسؤولو الولاية تعرضوا في البداية لانتقادات مكثفة، بعضها جاء من سكان الولاية «المنكوبة»، ومن جهات محسوبة أو مؤيدة لترمب والجمهوريين عموما، تحملهم مسؤولية البطء في اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة انتشار الفيروس.
أيضاً، تداول ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي تصريحات عدد من مسؤولي الولاية يقللون فيها من خطر الفيروس في يناير (كانون الثاني) الماضي، لتجنب إثارة الهلع بين السكان. لكن طبيعة المدينة الأكثر حضرية بين المدن الأميركية، لم تترك لكومو خيارا سوى تغيير أدائه على وجه السرعة. فغالبية السكان تستخدم النقل العام، من قطارات الأنفاق وحافلات النقل العام وسيارات الأجرة، بسبب ازدحام شوارعها القاتل، وكثافة السكان الذين يتنقلون سيرا على أقدامهم في شوارعها الشهيرة. ولا ننسى أنه في نيويورك «حي صيني» كبير، وكل هذه عوامل أدت كلها لتوفير الأجواء المناسبة لانتشار الفيروس بشكل لا مثيل له مع باقي المدن والولايات الأميركية.

العلماء... مع كومو
من جانب آخر، تلقى كومو المديح على نطاق واسع من علماء الأوبئة بعد إغلاقه الولاية والأعمال غير الضرورية لكسر منحنى صعود الفيروس. بل في 28 مارس (آذار) الماضي هدد كومو ولاية رود إيلاند برفع دعوى قضائية ضدها بشأن سياسة التمييز الصحي التي تريد تطبيقها، عبر منع سكان نيويورك من دخولها. وهذا ما كان من بين الأسباب التي منعت الرئيس ترمب أيضا من إصدار قرار فيدرالي بفرض الحجر الإلزامي على تنقل سكان عدد من الولايات، بينهم نيويورك، الأسبوع الماضي.
ونتيجة للسياسات التي اعتمدها كومو، والإجراءات القاسية التي فرضت إغلاقا كاملا لمدينة نيويورك، أظهر آخر استطلاع للرأي نشره معهد سيينا أن معدلات قبول الحاكم النشط ارتفعت هذا الشهر، بعدما استجاب للأزمة التي أطلقها انتشار الفيروس.
إذ أيد 87 في المائة ممن شملهم الاستطلاع طريقة تعامل كومو مع الوباء. كما أعرب 76 في المائة عن رضاهم عن كيفية استجابة قسم الصحة المحلي، وعبّر 74 في المائة عن رضاهم على الدكتور أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، في حين نال ترمب ونائبه مايك بنس على رضى 41 في المائة فقط.
الاستطلاع خلص أيضاً إلى أن نسبة عدد سكان نيويورك الذين ينظرون إلى الحاكم بشكل إيجابي ارتفعت إلى 71 في المائة من 44 في المائة فقط في فبراير (شباط) الماضي.
وقال المتحدث باسم الاستطلاع ستيفن غرينبرغ إن الحاكم كومو يحظى «بدعم شبه عمومي»، حيث يوافق 85 في المائة على الأقل من الناخبين من كل منطقة على تعامله مع الأزمة، وكذلك على دعم 95 في المائة من الديمقراطيين و87 في المائة من المستقلين وحتى 70 في المائة من الجمهوريين.
على هذا الأساس، وبمقاييس ترمب، قرع آندرو كومو جرس إنذار كبير لديه، خصوصاً، وأن شخصيته وتاريخه ودوره السياسي وتجربته الطويلة في الشأن العام، مزايا تمنحه القدرة على أن يكون خصما عنيدا، له ولإرثه من بعده في مدينة نيويورك التي يتحدر منها الرئيس أيضا.

بطاقة هوية
آندرو مارك كومو من مواليد 6 ديسمبر (كانون الأول) 1957 في حي كوينز في مدينة نيويورك، لأسرة تتحدر من أصل إيطالي لجهتي الأب والأم. وهو سياسي ينتمي للحزب الديمقراطي ومؤلف ومحامٍ بجانب كونه الحاكم الـ56 للولاية، وهو يتولى هذا المنصب منذ 2011.
والده ماريو كومو كان قبله محامياً لامعاً وحاكماً ناجحاً لولاية نيويورك لثلاث فترات متتالية، وجرى تداول اسمه غير مرة كمرشح عن الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية. أما والدته فاسمها ماتيلدا نيرافا. ولآندرو خمسة أشقاء بينهم كريس كومو وشقيقته الدكتورة مارغريت عالمة الأشعة الشهيرة.
تخرج آندرو كومو في مدرسة سانت جيرارد ماجيلا في عام 1971 ومدرسة المطران مولوي الثانوية في عام 1975، ثم تابع تعليمه الجامعي وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة فوردهام – إحدى أعرق الجامعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة – عام 1979. ثم حاز على الإجازة في الحقوق من معهد ألباني للحقوق التابع لجامعة يونيون (ريف ولاية نيويورك) عام 1982.

تاريخ سياسي حافل
بدأ آندرو كومو حياته المهنية مديراً لحملة والده، ثم محامياً مساعدا لمنطقة في مدينة نيويورك. ثم أسس مؤسسة الإسكان «هلب يو إس إيه» (HELP USA) وعُيّن رئيسا للجنة نيويورك للمشردّين في المدينة، وهو المنصب الذي شغله من عام 1990 إلى عام 1993.
في عام 1993 انضم كومو إلى إدارة الرئيس بيل كلينتون كمساعد وزير التخطيط المجتمعي والتنمية في وزارة الإسكان والتنمية الحضرية بالولايات المتحدة. ومن 1997 إلى 2001. شغل منصب وزير الإسكان والتنمية الحضرية خلفا للوزير هنري سيسنيروس.
في عام 2006 انتخب كومو مدعيا عاما لنيويورك، وفي العام 2010 انتخب حاكما للولاية، وأعيد انتخابه مرتين بعد فوزه في الانتخابات التمهيدية ضد المنافسين الليبراليين زيفير تيتش أوت (2014) وسينثيا نيكسون (2018). وخلال فترة ولايته، أشرف كومو على تمرير قانون يشرّع زواج المثليين في نيويورك، وإنشاء تحالف الولايات المتحدة للمناخ، وهي مجموعة من الدول ملتزمة بمكافحة تغير المناخ باتباع شروط «اتفاقيات باريس للمناخ».

إجراءات بالجملة
بالإضافة إلى ذلك، مرّر كومو أكثر قوانين مراقبة الأسلحة صرامة في الولايات المتحدة، ودعم توسيع المساعدة الطبية وقانون ضرائب جديد يرفعها على الأغنياء ويخفضها على الطبقة الوسطى. وكذلك أقر منح إجازة عائلية مدفوعة الأجر وزيادة الحد الأدنى للأجور والمساواة في الأجور بين الجنسين وتشريع استخدام الماريغوانا الطبية.
وفي عام 2000 قاد كومو جهود وزارة الإسكان والتنمية الحضرية للتفاوض على اتفاقية مع شركة سميث اند ويسون، أكبر مصنّع للمسدسات والبنادق اليدوية، لتغيير تصميمها وتوزيعها وتسويقها لجعلها أكثر أمانا والمساعدة في إبعادها عن أيدي الأطفال والمجرمين. وتضمنت ميزانيات وزارته زيادة المعروض من المساكن الميسرة التكلفة وتمكين المواطنين من تملّك المنازل، وقوانين لخلق فرص العمل والتنمية الاقتصادية. وشمل ذلك إعانات مساعدة الإيجارات الجديدة، وإصلاحات لدمج الإسكان العام، وقيودا أعلى على الرهون العقارية المؤمن عليها من قبل إدارة الإسكان الفيدرالية، وقمع التمييز في الإسكان وبرامج موسعة لمساعدة المشردين في الحصول على السكن والوظائف، وإنشاء مناطق تمكين جديدة.
في المقابل، يؤخذ على كومو أن طلبه بزيادة القروض لمنازل الفقراء في محاولة لإنهاء التمييز ضد الأقليات، عبر إجبار مؤسستي فاني ماي وفريدي ماك العقاريتين العملاقتين المدعومتين من الحكومة، على شراء القروض المشكوك بتحصيلها، ساعد في حدوث أزمة الرهن العقاري عام 2008.
وفي عام 1998 قالت المفتشة العامة التي عينها الرئيس بيل كلينتون في وزارة الإسكان سوزان غافني، أمام لجنة في مجلس الشيوخ إنها كانت ضحية «تصعيد» الهجمات على مكتبها من قبل كومو و«مساعديه الرئيسيين»، بما في ذلك الاتهامات بالعنصرية والتمرد والمخالفة. وفي عام 1999. خلص مكتب غافني إلى أن 15 من أصل 19 هدفا لمؤسسة «بناة المجتمع» التي كان خلفها كومو، كانت أنشطة وليست إنجازات فعلية وأن مبادراته «كان لها تأثير معوق على العديد من عمليات الوزارة القائمة». وفي مايو (أيار) 2001 تقاعدت غافني بعد فترة وجيزة من التوصل إلى تسوية بقيمة 490 ألف دولار مع موظف أسود اتهمها بالتمييز العنصري ومنعه من الترقي.

مع هيلاري... ضد أوباما
في عام 2008، قال كومو، الذي كان يدعم ترشح هيلاري كلينتون عن منافسها باراك أوباما: «لا يمكنك الرفض والركض في مؤتمر صحافي»، ما أدى لتعرضه لانتقادات عدة لاستخدامه عبارة كانت تطلق على الأميركيين الأفارقة خلال حقبة التمييز العنصري والعبودية.
ولاحقاً، في استطلاع رأي في فبراير 2019. أجري بعد توقيعه عددا من التشريعات التي وصفت بـ«التقدمية»، بينها التوسع في الإجهاض وقوانين الأسلحة أكثر صرامة، تراجعت شعبية كومو إلى 43 في المائة وهو الأدنى له، ورفضه 50 في المائة من «النيويوركيين»، ما يشير إلى أن تلك التشريعات أزعجت بعض الناخبين وساهمت في خفض شعبيته.
غير أن أسلوبه الحازم في التعامل مع الوباء الذي وضع نيويورك في عين العاصفة... أعاد له رضى الشارع، داخل ولايته وخارجها.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.