البلجيكي ديميتري فيرهولست يروي سيرة عائلته «الاشتراكية»

ترجمة عربية لرواية «التعساء»

البلجيكي ديميتري فيرهولست يروي سيرة عائلته «الاشتراكية»
TT

البلجيكي ديميتري فيرهولست يروي سيرة عائلته «الاشتراكية»

البلجيكي ديميتري فيرهولست يروي سيرة عائلته «الاشتراكية»

تكشف رواية التعساء للكاتب البلجيكي ديميتري فيرهولست التي صدرت حديثًا بالقاهرة عن دار العربي للنشر والتوزيع تفاصيل قاع المجتمع البلجيكي من خلال أسرة بلجيكية تعيش تحت ظروف قاسية في منطقة فقيرة جدا، لا يوجد بها أي خدمات ولا أي نوع من الرفاهية يمكن الإشارة إليه، هذه الأسرة هي عائلة فيرهولست التي ينتسب إليها كاتب الرواية نفسه.
يستهل فيرهولست فصول روايته التي قدمت نسختها العربية المترجمة العمانية ريم داود بمقطع بالغ الدلالة على ما سوف يتابعه القارئ فيما يتوالى من فصول يتحدث فيها عن فكرة الامتلاك، وهشاشتها، وسعي بعض البشر لتكريس حياتهم لكل ما هو مزيف. لتنتهي غالبا إلى الفشل، وحتى عندما ينجح أحدهم فإن نجاحه لا يتعدى الشعرة. «شعرة واحدة تمثل ما لا يملكه شخص، وما لا يستطيع آخر الحصول عليه».
تقترب أحداث الرواية كثيرا من السيرة الذاتية للمؤلف. فهي تدور حول عائلة فقيرة تعيش في منزل، يتشاركون ساحته مع سكان آخرين، وهناك أمضى ديميتري، وهو اسم الطفل الذي يروي الأحداث، سنوات عمره الأولى مع والديه «كانت طلمبة المياه مشتركة، والمرحاض أيضا، والذي لا يخرج عن كونه فتحة في لوح خشبي فوق حوض عفن مباشرة، أما جدران غرفة المعيشة فقد امتلأت بماء يتسرب تحت سطحها. كانوا يكورون ورق الصحف ويسدُون به الفتحات التي خلفها نخر السوس في خشب إطارات النوافذ».
كانت أسرة ديميتري تتعامل مع هذه الأوضاع بفخر، فلطالما تحدّث أبوه عن مصاعب الحياة في ذلك المسكن بنوع من الزهو، لأن التطلع إلى حياة سهلة من وجهة نظره دليل على افتقاد الرجولة.
لا تسعى الأسرة أبداً لتغيير أوضاعها والبحث عن سبيل للتخلص من معاناتها، بل إنها تنتقل للعيش في وضع أكثر سوءاً وبؤساً ، ليتكرر المشهد نفسه «كان الحمّام في المنزل الجديد عبارة عن فتحة خشبية، وكان الماء يتسرب من السقف. وقد امتلأت أرضية المطبخ بالدّلاء لالتقاط المياه».
بالرغم من هذه الأجواء، تشيع روح السخرية في الرواية من كل شيء، بدءاً من الأهل مروراً بالحياة التي يعيشونها، والأماكن التي يتحركون فيها بوصفها فضاءات للأحداث، وحتى من أمراضهم. يقول ديميتري عن والده: «كان أبي اشتراكيا، وبذل مجهودات خارقة كي يثبت ذلك... لو أننا بالغنا في اقتصاد نفقاتنا مرّة، وعرّضنا أنفسنا لخطر وجود فائض من المال بحلول نهاية الشهر، كان يسارع بصرف المتبقي في حسابه المصرفي، ويحوله إلى خمر يشربه، حماية لنا من إغراءات الرأسمالية، لم تتحمل الأم هذه الأوضاع، وأثبتت مرّة تلو أخرى أنها، حسب تعبير الكاتب (بقرة برجوازية) منعها غرورها الزائد من انتعال الأحذية القديمة، المتهالكة، فتقدّمت بطلب للطلاق، بعد عشر سنوات من الزواج».
وحين غادرت، أخذت معها كل ما هو غير مثبت بمسامير، ما منح طليقها شعورا بالسعادة القصوى «أخيرا، لم تعد لديه أية ممتلكات، لا زوجة ولا أية قطعة أثاث أخرى، وانتقل بعدها إلى بيت أمّه العجوز، ثانية». لم يتوقف التهكم والسخرية من واقع أفراد الأسرة عند هذا الحد، بل إنهم راحوا ينظرون باستعلاء إلى أقربائهم الأغنياء الذين يوقفون سياراتهم الفاخرة أمام المنزل، حين يزورونهم في الإجازات، وهم يرتدون الملابس الغالية لدرجة تثير الاشمئزاز.
ويستعرض ديميتري في الرواية التي تمتد أحداثها على مدى 12 فصلا حياة الحانات التي يتحرك فيها أعمامه الثلاثة الذين انضم إليهم مع والده للعيش في بيت الجدة، ثم انضمام العمة الجميلة «روزي» إليهم في قرية بائسة تدعى «آرسينديجيم» بعد وفاة أبيها متأثرا بإصابته بالسرطان.
وتتوزع الأحداث في فصول الرواية التي يأخذ كل واحد منها عنوانا يجعله يصلح لأن يكون قصة قصيرة متكاملة بين حالات الفقد المادي والمعنوي، حيث يرحل الجد قبل تحقيق طموحه باختيار زوج لابنته الجميلة، ثم يلحق به والد ديميتري، أما باقي أشخاص الرواية فقد فقدوا حياتهم العاطفية وعاشوا وجودا مأساويا في بيت والدتهم بعد أن أضاعوا أي إمكانية لتحقيق شيء فيما عدا شرب الخمر ومواصلة الليل بالنهار في أجواء بائسة مزرية.
لم ينج أحد من هذا المصير الصعب حتى العمة «روزي» التي عادت للقرية، بعينين متورمتين يحيط بهما السواد، وبرأس منكس، هربا من زوج اختارته بنفسها، وراحت تقاسي معه مرارة الخيانة والإهانة.
يصف الروائي تفاصيل حياة دقيقة يعرفها تماما، فيتابع حركة الشخصيات التي عرفها وأفعالها وتصرفاتها التي تتسم بالعشوائية وقد تخرج عن حدود اللياقة في كثير من الأحيان. لكن المدهش في الأمر أنهم شعروا بالورطة عندما هبطت عليهم شقيقتهم روزي، التي كانت تعيش في العاصمة، فبدوا وكأنهم يحتاجون فجأة للاعتذار عمّا اعتادوا على فعله. وقد سيطر عليهم الحرج من طريقتهم في الاستلقاء أمام شاشة التليفزيون، وهم يدخنون، فضلا عن أرطال اللحم المفروم، التي يستهلكونها لرخص ثمنها، ويأكلونها نية لأن ذلك أسهل.
ولد فيرهولست، عام 1972 في بلجيكا، وله الكثير من الأعمال الأدبية الشهيرة، وقد حصلت «التعساء» على خمس جوائز أدبية منها «البومة الذهبية» عام 2007، و«هوموز جولدن بوكمارك» عام 2007، و«دي إن كتاب» عام 2008، و«فونديل لديفيد كولمر» عام 2013.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.