كمامات «عام كورونا»... قطعة للذاكرة والتاريخ

عندما ظهرت رئيسة الوزراء السلوفاكية، سوزانا تشابوتوفا بكمامة تُغطي نصف وجهها بنفس لون فستانها، أثارت الكثير من الجدل، بين مُعجب بمواكبتها للموضة، ومستنكر لاستخفافها بجدية الأوضاع الحالية. بالنسبة للشريحة الأخيرة، فإن الكمامة ليست إكسسواراً بقدر ما هي من الأساسيات الصحية والوقائية التي يجب أن تتوفر للكل وتتوفر فيها شروط السلامة. كما أن انتشارها في كل بقاع العالم، يؤكد أنها ستُشكل ثقافة جديدة وستُسجل لتغييرات تشمل حياة كانت إلى الأمس القريب مطبوعة بالحرية والأمان.
ولا شك أن صور الناس، من كل الأجناس والأعمار، وهم يغطون نصف وجوههم بهذه الكمامات، ستبقى رمزاً يحضر كلما تمت الإشارة إلى عام 2020، الذي سيعرف بـ{عام كورونا». ومعها ستستحضر كل مشاعر الخوف والقلق من فيروس غير مرئي للعين المجردة، يفتك بالأرواح ويجعل الأحياء يعيشون حالة رُعب دائم. فهم لا يعرفون كيف يصدون خطره الداهم سوى بالمطهرات والعُزلة والتباعد الاجتماعي وهذه الكمامات، التي تجدر الإشارة إلى أنها ليست جديدة ولدتها جائحة كورونا عام 2020. فقد ظهرت في آسيا في بداية القرن الماضي، كوسيلة وقاية من الأوبئة والتلوث. تبنتها السلطات الصينية رسمياً في عام 1910 للوقاية من وباء انتشر في الصين حينها ثم زادت أهميتها مع ظهور أوبئة أخرى نذكر منها الإنفلونزا الإسبانية في 1918 ثم سارس في عام 2003. وهكذا ظلت الكمامات ثقافة آسيوية سائدة تعبر عن روح الجماعة، وذلك بالخوف على الآخر من العدوى واحترام مساحته. أمر بات الناس يُقدرونه ويحترمونه الآن، لكن شتان بين اليوم والأمس. فمنظر الآسيويين، بعد الانفتاح الصيني، وهم يتسوقون في شوارع باريس أو لندن أو نيويورك، بكماماتهم كانت مثار تفكه واستهجان.
لكن ما إن بدأ وباء كورونا في الانتشار عالمياً، حتى تصدر هذه الكمامات الواجهة. بين ليلة وضحاها لم يعد مظهر الناس في الشوارع وأنصاف وجوههم مغطاة بها، يثير الضحك أو الاستهجان. بالعكس أصبحت بلونها الأزرق وحواشيها البيضاء، تدل على المسؤولية تجاه الآخر. كما لم تعد مجرد قطعة تبث الأمان والطمأنينة في نفس من يلبسها، بل قطعة تحكي قصة وباء سيحدد هذه الألفية ويغير الكثير من الأشياء، بما في ذلك الشعور بالأمان والاطمئنان.
لكن لحد الآن، لا يبدو أنها أثرت على شغف البعض بالموضة. بالنسبة لهؤلاء فإن الوقاية لا تعني التنازل عن التميز والأناقة، ويبدو أن رئيسة وزراء سلوفاكيا واحدة منهم. بعض المصممين انتبهوا إلى أهميتها، لكنهم كبحوا جماح خيالهم واقتصر استعمالهم لها في عروضهم الأخيرة في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، كقطعة وظيفية تستلزمها الأوضاع الحالية. لم يطرحها أي منهم كإكسسوار موضة لحد الآن، باستثناء فيرجيل أبلو، مصمم علامة «أوف وايت». كلهم خافوا أن يُتهموا باستغلال الوضع وقراءته قراءة مكيافيلية. بيد أن البعض قد يتساءل من أين هذه الكمامات التي يظهر بها البعض في الشوارع، مطرز بعضها بأحجار سواروفكسي وبعضها بنقشات ترمز لبيوت أزياء كبيرة؟
والجواب أنها ظهرت في عروض سابقة تعود إلى 2014 و2015، نذكر منها عروض «فندي» و«أوف وايت». أما تلك التي ظهرت بها المغنية بيلي إيليتش في حفل توزيع جوائز الغراميز وتداولت صورها المجلات والصحف مؤخراً، فقد صممتها لها دار «غوتشي» قبل الجائحة. وهذا يعني أنها كانت آنذاك لزيادة الإبهار ولفت الأنظار فقط.
في عروض الأزياء الأخيرة، ظهرت أيضاً اجتهادات فردية من بعض عشاق الموضة، مثل ضيفة حضرت عرض «شانيل» بكمامة زينتها بورود من الكاميليا، وأخرى في عرض «فندي» بإيشارب منقوشة برموز الدار، طوته على شكل كمامة وهكذا.
مارين سيري، وهي مصممة فرنسية شابة وناشطة في شؤون البيئة بدأت تهتم بإنتاج هذه الكمامات في عام 2019 للحماية من التلوث، وتقول إنها ترفض تصنيفها كإكسسوار موضة. تشير إلى أنها وقائية في المقام الأول، وحتى عهد قريب، لم تكن محبذة اجتماعياً، لأن واحداً من إيحاءاتها في المجتمعات الغربية إنها تقول للآخر: «ممنوع الاقتراب واختراق خصوصيتي... أمر كان نشازاً في الماضي لكن مستحباً يفرضه فيروس كورونا الآن»، حسب رأيها. ولا تخفي المصممة والناشطة قلقها من استغلال البعض لحاجة السوق إليها وطرحها بأسعار باهظة تعبر عن الترف، فتنتفي الغاية منها كقطعة وقائية أولاً وأخيراً.
بيد أنه رغم التزام معظم المصممين باحترام الوضع الحالي وعدم استغلاله، بل العكس فقد تبرع العديد منهم بإنتاجها لسد العجز فيها، فإن شريحة كبيرة من الناس تريد أن تعطي الكمامة صبغة أناقة بأي شكل من الأشكال. في جنوب كوريا مثلاً وبعد ظهور العديد من النجوم الشباب بها، بدأت تظهر فيديوهات على الإنترنت عن كيفية استعمالها بأناقة، وأي الأشكال تناسب وجه مستعملها، وما إلى ذلك. وحتى في نيجيريا، وخلال حفل فني جرت أحداثه مؤخراً، حضرت مجموعة من النجوم بكمامات مرصعة بالأحجار وبألوان زاهية، اعترفوا أنهم يُدركون أنها لا تنفع من الناحية الوقائية، إلا أنها تُدخل البهجة على نفوسهم في وقت تسوده السوداوية والقلق.