«كورونا» يقترب من دمشق وينشر الذعر بين سكانها

«الشرق الأوسط» تنقل تفاصيل التأهب... تموين بالغلاء رغم الفقر والبطالة

سوق الحميدية غاب عنه الباعة والمشترون (أ.ف.ب)
سوق الحميدية غاب عنه الباعة والمشترون (أ.ف.ب)
TT

«كورونا» يقترب من دمشق وينشر الذعر بين سكانها

سوق الحميدية غاب عنه الباعة والمشترون (أ.ف.ب)
سوق الحميدية غاب عنه الباعة والمشترون (أ.ف.ب)

ولد تفشي فيروس «كوفيد - 19» المتسارع رعباً كبيراً لدى الدمشقيين لتهديده إياهم بالموت بسبب تدهور القطاع الصحي في البلاد، أو جوعاً لاستغلال أبناء جلدتهم من التجار لهم، في وقت بدت مدينتهم مذعورة أيضاً. حيث أغلقت أسواقها وخلت من روادها في مشهد لم يمر مثله على السوريين قط.
الرعب الكبير لدى الغالبية العظمى من أهل العاصمة السورية من «كورونا» المستجد، يدفعهم رغم فقرهم إلى التدفق في ساعات النهار المسموح بها بالتجول نحو الأسواق للتزود أولاً بالمعقمات على أمل تفادي الإصابة، ومن ثم بمواد غذائية وخضراوات، بحسب ما تسمح لهم إمكانياتهم المادية.

من ذعر القصف إلى رعب الوباء
«مكتوب علينا الشقاء. مكتوب علينا ألا نرتاح»، عبارات رددتها ربة منزل وهي تسير على عجل وسط أعداد كبيرة من الناس متوجهة إلى السوق وتتحاشي الاقتراب من بعضها بعضاً، وذلك في إجابتها على سؤال حول الوضع في البلاد مع الإجراءات الوقائية المتخذة لمواجهة انتشار الفيروس الذي اجتاح دول العالم.
السيدة وبصوت خافت مع محاولات عديدة لحبس دموعها، تصف لـ«الشرق الأوسط» الوضع بـالنسبة للدمشقيين وكل السوريين بـ«الصعب جداً»، وتقول: «كل المصائب تراكمت عليهم من حرب وعقوبات وغلاء وحالياً فيروس كورونا»، مشيرة إلى أن فرحة الدمشقيين بانتهاء القتال في العاصمة ومحيطها لم تكتمل حتى وجدوا أنفسهم وسط حرب جديدة أشد وأعتى يشنها عليهم «كوفيد - 19».
وتقول: «كل يوم نسمع عن إصابات، وكل يوم يزداد الخوف. من نجا من الحرب يبدو أنه سيموت بـ(كورونا)».
وتوضح السيدة، أنه و«أثناء الحرب في العاصمة ومحطيها كانت الناس تحتمي بالمنازل أثناء القصف، وبعضهم كان يهرب إلى مناطق آمنة، وربما بذلك نجا كثيرون من الموت، ولكن الآن إصابة أي شخص قد تحصل في أي لحظة وقد تأتيه من ابنه، من قريبه، من جاره، والناس لا تعرف ماذا تفعل».
يذكر أن الحرب في سوريا التي دخلت عامها العاشر تسببت، بحسب إحصاءات منظمات دولية وحقوقية بمقتل نحو 400 ألف شخص، بينما تقدر دراسات ومراكز أبحاث أعداد القتلى بأكثر من نصف مليون. كما أدت إلى تشريد وتهجير أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها ودمّرت البنى التحتية واستنزفت الاقتصاد وأنهكت القطاعات المختلفة، منها القطاع الصحي.
ومع الانتشار المتسارع للفيروس في دول العالم، اتخذت الحكومة السورية إجراءات وصفتها بـ«الاحترازية» لمواجهة الفيروس كان آخرها منع التنقل بين مراكز المحافظات وأريافها اعتباراً من يوم أمس، بعد حظر التجول الليلي، ووقف وسائل النقل العام وإغلاق المدارس والجامعات والحدائق العامة والمقاهي والمسارح والصالات الرياضية والأسواق ودور العبادة، إضافة إلى إغلاق المؤسسات الرسمية وتقليل عدد الموظفين فيها، وبيع الخبز عبر المعتمدين والسيارات في الأحياء بعد إيقاف بيعه للناس مباشرة من الأفران لمنع حصول حالات ازدحام يمكن أن تكون السبب في انتقال الفيروس.

تموين رغم الفقر
وعلى غرار ما تشهده عموم الأسعار من ارتفاع متواصل منذ بداية الحرب في البلاد قبل تسع سنوات، ترافق جائحة «كورونا»، مع موجة تحليق جنونية جديدة وتتصاعد يومياً وفي كل ساعة وفاقت نسبتها حتى الآن ضعفي ما كانت عليه قبل انتشاره، وترافقت مع انخفاض جديد لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار ووصوله إلى 1350 ليرة بعد أن كان قبلها نحو ألف. وما بين 45 و50 ليرة قبل الحرب التقليدية.
ويلاحظ أن موجة الغلاء الجديدة أكثر ما طالت أسعار الخضراوات والفواكه، والمواد الغذائية، حيث يصل سعر كيلو الخيار إلى ألف ليرة بعد أن كان بـ300، والبرتقال إلى 800 ليرة بعد أن كان بـ200، والبصل إلى ألف بعد أن كان بـ350، بينما يبلغ سعر كيلو الرز الوسط (مصري) 900 ليرة بعد أن كان بنحو 350 ليرة.
لم ينكر مالك إحدى البقالات أن البعض من باعة المفرق يعمدون إلى استغلال إقبال الناس الكبير على التزود بالمواد الغذائية خوفاً من فقدانها في الأسواق بسبب الأوضاع الجارية، لكنه يؤكد لـ«الشرق الأوسط»، أن السبب الرئيسي في هذا الغلاء هم كبار التجار الذين يعتبرون المصدر الأساسي لهذه المواد، ويقول: «منذ إعلان الحكومة عن الإجراءات الاحترازية تتناقص الكميات بشكل يومي، ولدى الإلحاح عليهم لتزويدنا بها ندخل معهم في بازار ينتهي بسعر جديد، وهذا الأمر باتت مسلسلاً يومياً».
الكثير من المواطنين يروون لـ«الشرق الأوسط» معاناتهم من جراء ارتفاع الأسعار، ويؤكد أحدهم، أن «سعر السلعة لم يعد يتغير كل يومين أو كل يوم بل كل ساعة»، بينما تصف إحدى السيدات ما يقوم به التجار تجاه الناس في ظل هذه الأزمة بـ«الظلم الكبير»، وتقول: «انعدمت الرحمة لديهم، انعدمت الإنسانية. هذا إن كان لديهم إنسانية بالأصل»، وتضيف: «هذا تجويع متعمد للناس التي باتت معدمة للغاية».
ووفق دراسات ومراكز أبحاث بات أكثر من ثمانين في المائة من السوريين تحت خط الفقر، وانتشرت البطالة بشكل كبير في البلاد، وتزايدت ظاهرة التسول، وسط تراجع كبير في العمل الخيري.

تقصير طبي
لم يقتصر الاحتكار على المواد الغذائية بل شمل أيضاً الأدوية وحليب الأطفال والمواد المعقمة، وفق مصادر طبية تحدثت لـ«الشرق الأوسط» وتقول: «بتنا كلما نطلب نوعاً من الأدوية أو المعقمات ترد الشركة المصنعة بأنه غير موجود»، وتضيف: «بعض الأنواع فعلاً موادها الأولية مفقودة، ولكن الأخرى موجودة إلا أنهم يريدون رفع سعرها على ما يبدو».
رسمياً أعلنت الحكومة عن خمس إصابات بالفيروس من دون الإعلان عن أي حالة وفاة، وسط تشكيك من قبل كثيرين بأن الأرقام أكبر من ذلك، بينما تؤكد المصادر الطبية السابقة، أن النظام الصحي في مناطق سيطرة الحكومة متدهور وغير مؤهل بالمطلق لاستقبال أعداد كبيرة من الإصابات، وتلفت إلى أنه وفي حال حدوث ذلك فإن «المحسوبيات والواسطة ستلعب دورها في عملية العلاج!»، وهو أسلوب يتم العمل به في معظم المشافي منذ فترة ما قبل الحرب وتفاقم خلال سنواتها.
وبينما تشير تقارير إلى أنه يوجد في سوريا بأكملها فقط 12 ألف سرير في المستشفيات ووصل إلى البلاد منذ أيام قليلة ألف جهاز اختبار، يذكر تقرير داخلي للأمم المتحدة وبحث أعده «برنامج أبحاث النزاعات» التابع لكلية لندن للاقتصاد الممول من الخارجية البريطانية، أن العدد الأقصى لحالات الإصابة بالفيروس التي يمكن خضوعها للعلاج في سوريا يصل إلى 6500 حالة، ويضيف: «بمجرد تجاوز عدد الحالات المسجلة العدد المذكور البالغ 6500 حالة من المتوقع انهيار نظام الرعاية الصحية مع الحاجة اللازمة لاتخاذ القرارات الترشيدية مع توقعات بارتفاع المعدل الإجمالي للوفيات بما لا يقل عن نسبة 5 في المائة بين الحالات المصابة».

فقدان لمصادر الرزق
الإجراءات الاحترازية لمواجهة الوباء أدت إلى فقدان الكثيرين من العاملين لمصدر رزقهم، ويوضح سمير، وهو شباب في العقد الثالث ولديه طفلان لـ«الشرق الأوسط»، أنه ومع إغلاق ورشة الخياطة التي كان يعمل فيها بعد الإجراءات الحكومية الاحترازية، وتوقف راتبه الشهري يجد نفسه في حيرة في كيفية تدبر مصروف العائلة. ويقول: «البعض من أرباب الورش لديهم رحمة وسيواصلون دفع أجور العمال، لكن الغالبية ليس لديهم رحمة، وأنا ومثلي كثيرون عندما نعمل نأكل وعندما لا نعمل لا نأكل».

الشاب يبدي تخوفاً كبيراً من أن تطول فترة الإجراءات الاحترازية، ويؤكد أن ما يدخره من مال «بالكاد يكفي العائلة مدة أسبوعين أو ثلاثة»، ويقول: «لا أعرف ماذا أفعل، والمصيبة أن غالبية الناس حالياً تتحسب للأيام القادمة، وباتت ترفض إقراض بعضها البعض»، ويضيف: «قد تكون منيتنا أن نموت من الجوع، أو بـ(الكورونا) الذي لا نملك ثمن معقمات تحمينا منه».
ولم يفلح قرار إيقاف الأفران بيع مادة الخبز بشكل مباشر للناس في إنهاء حالات الازدحام، حيث باتت الحشود تتجمع أمام محال المعتمدين وسيارات التوزيع، بينما نشرت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر العشرات من الشباب والأطفال يركضون وراء السيارات للحصول على ربطة خبز (سبعة أرغفة)، والتي وصل ثمنها في السوق السوداء إلى 600 ليرة، على حين يبلغ سعرها الحكومي 50 ليرة.
ومع إعلان الحكومة منع التنقل بين مراكز المحافظات وأريافها، بات كثير من السوريين في مناطق سيطرة الحكومة يتندرون على مواقع التواصل الاجتماعي بالإعلان عن لائحة أسعار لتهريب الأشخاص من حارة إلى حارة ومن مدينة إلى أخرى ومن محافظة إلى أخرى، في إشارة إلى ظاهرة الرشوة المتفشية بشكل كبير في مناطق سيطرة الحكومة.

الرعب والذعر من «كوفيد - 19» لم يشمل الأشخاص فقط، بل انسحب على المشهد العام لمدينة دمشق، حيث أغلقت المحال التجارية في أسواقها القديمة والعريقة وأبرزها «الحميدية» و«الحريقة» و«الطويل» والحديثة مثل «الحمراء» و«الصالحية»، وبدت فارغة من روادها في مشهد لم يمر مثله على السوريين قط، بينما يقول لـ«الشرق الأوسط» أحد أصحاب المحال التجارية: «مو بس البشر مرعوبة من (كورونا)، حتى الحجر مرعوب».
وفي ساعات فرض حظر التجول الممتدة من الساعة السادسة مساء وحتى السادسة صباحاً تبدو الشوارع خالية إلا من دوريات الشرطة وعدد نادر من المخالفين والمصرح لهم بالتجول، حيث يقوم عناصر الشرطة بالتحقق من هوياتهم والتأكد إن كانوا من المصرح لهم بالخروج في هذه الفترة أم لا، حيث يتم تنظيم ضبوط بحق المخالفين.


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

آسيا أحد أفراد الطاقم الطبي يعتني بمريض مصاب بفيروس كورونا المستجد في قسم كوفيد-19 في مستشفى في بيرغامو في 3 أبريل 2020 (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

قالت منظمة الصحة العالمية إن زيادة حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي الشائعة في الصين وأماكن أخرى متوقعة

«الشرق الأوسط» (لندن )
صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.